فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود : { فاستغفر ربه وخر ركعا وأناب } . وقال في سليمان : { وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا } أي آتيناه بسبب إنابته فضلا منا على سائر الأنبياء ، واختلف في هذا الفضل على أقوال فقيل النبوة وقيل الزبور وقيل العلم ، وقيل القوة كما في قوله { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } وقيل تسخير الجبال كما في قوله { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } ، وقيل التوبة ، وقيل الحكم بالعدل ، كما في قوله { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } ، وقيل هو إلانة الحديد كما في قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } ، وقيل حسن الصوت والأولى أن يقال : إن هذا الفضل المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله .

{ يَا جِبَالُ } إلى آخر الآية أي قلنا له يا جبال { أَوِّبِي مَعَهُ } التأويب التسبيح كما في قوله : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن ) ، قال أبو ميسرة : هو التسبيح بلسان الحبشة ، وقال ابن عباس : أوبي سبحي .

وروي مثله عن مجاهد وعكرمة وابن زيد وكان إذا سبح داود سبحت الجبال معه ، ومعنى تسبيحها أن الله يجعلها قادرة على ذلك أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود ، وقيل معنى أوبي سيري معه من التأويب الذي هو سير النهار ، أجمع قراء العامة أوبي على صيغة الأمر من التأويب وهو الترجيع والتسبيح أو السير أو النوح ، وقرئ أوبي بضم الهمزة أمرا من آب يؤوب إذا رجع أي ارجعي معه .

{ وَالطَّيْرَ } بالنصب عطفا على ( فضلا ) على معنى وسخرنا له الطير ، لأن إيتاءه إياها تسخيرها له أو نادينا الجبال والطير ، وقال سيبويه وأبو عمرو ابن العلاء : انتصابه بفعل مضمر على معنى : وسخرنا له الطير وقال الزجاج والنحاس : يجوز أن يكون مفعولا معه ، كما تقول : استوى الماء والخشية ، وقال الكسائي أي أتيناه فضلا وتسبيح الطير ، وفي هذا النظم من الفخامة ما لا يخفى .

{ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } أي جعلناه لينا له ليعمل به ما شاء .

قال ابن عباس : كالعجين وقال الحسن : كالشمع يعمله من غير نار ، وقال السدي : كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة ، وكذا قال مقاتل ، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم .