الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يجِبَالُ } مجازه وقلنا : يا جبال { أَوِّبِي مَعَهُ } : سبحي معه إذا سبح . قال أبو ميسرة : هو بلسان الحبشة ، وقال بعضهم : هو التفعيل من الإياب ، أي ارجعي معه بالتسبيح . فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد ، وقال وهب بن منبّه : نوحي معه .

{ وَالطَّيْرَ } تساعدك على ذلك ، قال : وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم .

ويقال : إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح . ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه : " لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها " ، فصعد الجبل ، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة ، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داوُد قال : فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل ، فقال داوُد في نفسه : " كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات ؟ " فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر ، فركله برجله فانفرج له البحر ، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض ، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز ، فقال له الملك : إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع .

وقال القتيبي : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً .

قال ابن مقبل :

لحقنا بحي أوّبوا السيرَ بعدما *** دفعنا شعاعَ الشمسِ والطرفُ مجنحُ

كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه ، وقيل : سيري معه كيف يشاء : { وَالطَّيْرَ } قراءة العامة بالنصب ، وله وجهان :

أحدهما بالفعل ، مجازه : وسخرنا له الطيرَ ، مثل قولك : ( أطعمته طعاماً وماء ) تريد : وسقيته ماء ، والوجه الآخر النداء كقولك : يا عمرو والصلت أقبلا ، نصبت الصلت ؛ لأنه إنما يُدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته ، فنصب ، وقيل : مع الطير ، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب .

وروي عن يعقوب بالرفع ؛ رداً على { الجِبَالُ } أي أوبي معه أنتِ والطير ، كقول الشاعر :

ألا يا عمرو والضحاك سيرا *** فقد جاوزتما خمر الطريق

يجوز نصب الضحاك ورفعه .

قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد ، وكان سبب ذلك على ما رُوي في الأخبار أن داوُد ( عليه السلام ) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً ، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه ، تقدم إليه يسأله عن داوُد ، فيقول له : " ما تقول في داوُد واليكم هذا ؛ أي رجل هو ؟ " فيثنون عليه ويقولون : خيراً فينا هو .

فبينا هو في ذلك يوماً من الأيام إذ قيّض الله ملكاً في صورة آدمي ، فلما رآه داوُد تقدم إليه على عادته فسأله ، فقال له الملك : نِعمَ الرجل هو لولا خصلة فيه .

فراع داوُد ذلك وقال : " ما هي يا عبد الله ؟ " قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال . قال : فتنبه لذلك ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع ، وعلمه صنعة الدروع ، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها .

فيُقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ، ويقال أيضاً : إنما ألان الحديد في يده لما أُعطي من القوّة .