اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } فقوله : «مِنَّا » إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ منّا فضلاً } مستقبل{[44179]} بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتَى الملك زيداً خلعةً ، فإذا قال القائل : آتاه منه خلعَةً يفيد أنه كان من خاصِّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ونظيره قوله تعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ } [ التوبة : 21 ] فإنَّ رحمة الله واسعةٌ تصلُ إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصِّه{[44180]} ، والمراد بالفضل النبوة والكتاب ، وقيل : الملك ، وقيل : جميع ما أوتِيَ من حُسْن الصوت وتَلْيِين الحديد وغير ذلك مما خُصَّ به{[44181]} .

قوله : «يَا جِبَالُ » محكيّ بقول مضمر{[44182]} ، ثم إن شئت قدرته مصدراً ويكون بدلاً من «فضلاً » على جهة تفسيره به كأنه قيل : آتيناهُ فضلاً قولَنَا يَا جبالُ ، وإن{[44183]} شئت جعلته مستأنفاً .

قوله : «أَوِّبي » العامة على فتح الهمزة ، وتشديد الواو ، أمراً من التَّأويب وهو التَّرجيع{[44184]} ، وقيل : التسبيح بلغة الحَبَشَة{[44185]} ، وقال القُتَيْبيُّ{[44186]} : أصله من التأويب في السير وهو أن يسير النهار كله ، وينزل ليلاً كأنه قال : أدْأَبِي النَّهار كُلَّهُ بالتسبيح معه{[44187]} ، وقال وهب : نوحي معه{[44188]} ، وقيل : سيري معه{[44189]} ، والتضعيف يُحتمل أن يكون للتكثير ، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال : لأنهم فَسَّروه برجع مع التسبيح{[44190]} ، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى{[44191]} .

وقرأ ابنُ عباس والحَسَنُ وقتادةُ وابنُ أبي إسحاق : أُوبِي بضم الهمزة أمراً من آبَ يَؤُوبُ أي ارجع معه بالتسبيح{[44192]} .

قوله : «والطير » العامة على نصبه وفيه أوجه :

أحدها : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً{[44193]} .

الثاني : أنه مفعول معه قاله الزجاج{[44194]} . ورد عليه بأنه قبله لفظ «معه » ولا يقتضي العامل أكثرَ من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال : جَاءَ زَيْدٌ مَعَ بَكْرٍ مَعَ عَمْروٍ{[44195]} . قال شهاب الدين : وخلافهم في تَقَصِّيه{[44196]} حالين يقتضي مجيئه هنا{[44197]} .

الثالث : أنه عطف على «فضلاً » ، قاله الكسائي{[44198]} ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتَسْبِيح الطير .

الرابع : أنه منصوب بإضمار فعل أي سَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ . قاله أبو عمرو{[44199]} ، وقرأ السُّلَميُّ والأعرجُ ويعقوبُ وأبو نوفل{[44200]} وأبو يَحْيَى{[44201]} وعاصمٌ - في رواية - والطَّيْرُ{[44202]} بالرفع ، وفيه أوجه : النسق على لفظ «الجبال{[44203]} » وأنشد :

4114- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا . . . فَقَدْ جَاوزتُمَا خَمَرَ الطَّرِيق{[44204]}

بالوجهين ، وفي عطفِ المعرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب{[44205]} ، الثاني : عطفه على الضمير المستكن في «أَوِّبِي{[44206]} » وجاز ذلك ، للفصل بالظرف{[44207]} ، والثالث : الرفع على الابتداء والخبر مضمر أي والطيرُ كذلك{[44208]} أي مؤوبةٌ .

فصل

لم يكن الموافقون له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجُمُود والطير للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشَدّ قسوة{[44209]} .

قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصَدَاها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح . وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له{[44210]} .

قوله : «وَأَلَنَّا » عطف على «آتَيْتَا » وهو من جملة الفَضْل ، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يعطف على «قلنا » في قوله { ياجبال أَوِّبِي . . . . . وَأَلَنَّا }{[44211]} .

فصل

ألان الله تعالى له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مِطْرَقَةٍ وذلك في قدرة الله يسير ، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان الله له الحديدَ وعلمه صنعة اللَّبُوس وهي الدرع{[44212]} وأنه أول من اتخذها . وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزَّرَّاد{[44213]} خيرمن القوَّاس والسَّيَّاف وغيرهما ؛ لأن القوس{[44214]} والسيف وغيرهما من السلاح رُبَّمَا يستعمل في قتل النفس المحرمة ، بخلاف الدَّرع قال عليه ( الصلاة{[44215]} و ) السلام : «كَانَ دَاوُدُ لاَ يَأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ »{[44216]} .


[44179]:في "ب" هكذا وما في "أ" والفخر الرازي مستقل وهو الأصح.
[44180]:المرجع السابق.
[44181]:البغوي والخازن 5/282 و 283.
[44182]:هذا قول أبي البقاء في التبيان 1064 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/243 والدر المصون 4/416.
[44183]:الحق أن الاستئناف لا يجوز إلا بعد أن يقدر القول المضمر هذا ومن الإمكان أن يقدر مصدرا أو فعلا فإن قدر فعلا لنا فيه وجهان: أحدهما: ما ذكره وهو الاستئناف. والثاني: جعله بدلا من "آتينا" فكلمة الجبال محكية بقول إما مصدر وإما فعل. انظر ذلك في الكشاف 3/281 والدر المصون 4/416 والبحر 7/262.
[44184]:المراجع السابقة.
[44185]:البحر 7/262 والجامع لأحكام القرآن 14/265.
[44186]:هو ابن قتيبة وقد عرفت به آنفا.
[44187]:352 وقاله أيضا في تأويل المشكل 84 واللسان آب.
[44188]:القرطبي 14/264.
[44189]:معالم التنزيل 5/383.
[44190]:البحر 7/262.
[44191]:الدر المصون 14/416 والعبرة بالتعدي باللفظ.
[44192]:مختصر ابن خالويه 121 وبدون نسبة في معاني القرآن للفراء 2/355 وانظر أيضا القرطبي 14/265.
[44193]:قال بذلك أبو البقاء في التبيان 1064 ومكي في مشكل الإعراب 2/203 وابن الأنباري في البيان 2/275 والفراء في معاني القرآن 2/355 وأبو جعفر النحاس في إعراب القرآن 3/334 نقلا عن سيبويه وأبو حيان في البحر 7/263 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/243 والزمخشري في الكشاف 3/281 والقرطبي في الجامع 14/266.
[44194]:معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/243.
[44195]:هذا رأي واعتراض أبي حيان على أبي إسحاق الزجاج فيما نقله عنه المؤلف فقد قال في البحر 7/263: وهذا لا يجوز لأن قبله "معه" ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه الخ..
[44196]:في "ب" نصبه وكلتا الكلمتين غير متباعدتين.
[44197]:اتفقوا على أنه إذا كان العامل يقتضي المشاركة بلفظ التفاعل فيجوز أن يعمل في الحالين كتخاصم زيد قائما وعمرو قاعدا وألا يدل على المشاركة ففيه خلاف فذهب أبو علي: إلى أنه معمول لما قبله الذي مثله، وذهب أبو الفتح إلى أنه صفة له. وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن الثاني صفة للأول. وعلى ذلك فهو من تمام المعمول الأول فلم يعمل الفعل في الحالين. وقد عبر أبو حيان عن رأيه بأن العامل في المعمولين واحد وهو الفعل لأن مجموعهما معا هو الحال لا أحدهما. انظر: البحر 7/263 والهمع 1/237 و 238 وشرح الكافية للعلامة الرضي 1/208 و 209 وانظر رأي شهاب الدين في الدرر 4/416.
[44198]:إعراب القرآن للنحاس 4/334 والبحر 7/263 ومشكل إعراب القرآن 2/204 والقرطبي 14/266.
[44199]:المراجع السابقة.
[44200]:أحمد بن المبارك بن نوفل أبو العباس النصيبي إمام مجود صادق مات سنة 664 هـ. انظر: غاية النهاية 1/99.
[44201]:هو محمد بن عبد الرحمن أبو يحيى المكي أخذ عن إسحاق الخزاعي، وأبي ربيعة روى عنه محمد بن أشتة مات سنة 43 هـ. انظر: الغاية 2/163.
[44202]:مختصر ابن خالويه 121 والكتاب لسيبويه 2/187، والقرطبي 14/216 والبحر 7/263 والكشاف 3/281 والنشر 2/335.
[44203]:ذكره النحاس في إعراب القراء 4/334 وأبو البقاء في التبيان 1064 وابن الأنباري في البيان 2/275 والفراء في معاني القرآن 2/355 ومكي في المشكل 2/204.
[44204]:من تمام الوافر وهو مجهول القائل: وشاهده: عطف "الضحاك" على زيد عطفا نسقيا على اللفظ ويجوز فيه النصب عطفا على محل المنادى فالمنادى في محل نصب لأنه أصلا مفعول به والخمر: بالتحريك ما سترك من شجر ونحوه. وانظر: معاني الفراء 2/355 وشرح المفصل لابن يعيش 1/29 والهمع 2/142 والدر 2/196 والطبري 22/46 بلفظ "ألا يا عمرو".
[44205]:الأولان الرفع حملا على لفظ المنادى والثاني النصب حملا على محله والثالث: التفصيل، ولكل رجاله ومؤيدوه، فالرفع اختيار الخليل وسيبويه والمازني والثاني اختيار عيسى بن عمر وأبي عمرو والجرمي والثالث وهو التفصيل إن كان المنادى معرفة فالاختيار النصب وإن كان نكرة فالرفع وهو يعزى للمبرد. انظر: توضيح المقاصد 3/295، ومقتضب المبرد 4/212 و 213.
[44206]:البيان 2/276 والتبيان 1064 ومعاني الفراء 2/355 ومشكل القرآن 2/204 ومعاني الزجاج 4/243. وإعراب النحاس 3/334
[44207]:البيان والمشكل والتبيان المراجع السابقة.
[44208]:قاله أبو حيان 7/263.
[44209]:قاله الرازي في تفسيره 25/245.
[44210]:انظر كل هذه الآراء في معالم التنزيل والخازن 5/283 وزاد المسير 6/436.
[44211]:انظر: التفسير الكبير للرازي المرجع السابق 25/245.
[44212]:في "ب" الدروع بالجمع.
[44213]:هو صانع الدروع قال ابن منظور: "والزراد صانعها" اللسان: "زرد" 1824.
[44214]:في "ب" لأن السيف والقوس بتقديم كليهما على الآخر.
[44215]:بزيادة من "ب".
[44216]:الحديث رواه المقدام رضي الله عنه فيما أورده البخاري في صحيحه 2/6 كتاب البيوع وانظر في هذا الإمام الرازي 25/246.