فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود ، وسليمان كما قال في داود : { فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] وقال في سليمان : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] ، فقال : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً } أي آتيناه بسبب إنابته فضلاً منا على سائر الأنبياء . واختلف في هذا الفضل على أقوال : فقيل : النبوّة . وقيل : الزبور . وقيل : العلم . وقيل : القوّة كما في قوله : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الأيد } [ ص : 17 ] . وقيل : تسخير الجبال كما في قوله : { يا جبال أَوّبِى مَعَهُ } وقيل : التوبة ، وقيل : الحكم بالعدل كما في قوله : { يا داوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] . وقيل : هو إلاّنة الحديد كما في قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } ، وقيل : حسن الصوت ، والأولى أن يقال : إن هذا الفضل المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله : { يا جِبَالٍ } إلى آخر الآية ، وجملة { ياجبال أَوّبِى مَعَهُ } مقدّرة بالقول ، أي : قلنا يا جبال . والتأويب : التسبيح كما في قوله : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ } [ ص : 18 ] . قال أبو ميسرة : هو التسبيح بلسان الحبشة . وكان إذا سبح داود سبحت معه ، ومعنى تسبيح الجبال : أن الله يجعلها قادرة على ذلك ، أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود . وقيل :معنى { أوّبي } : سيري معه ، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ، ومنه قول ابن مقبل :

لحقنا بحيّ أوّبوا السير بعد ما *** دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح

قرأ الجمهور { أوّبى } بفتح الهمزة ، وتشديد الواو على صيغة الأمر ، من التأويب : وهو الترجيع ، أو التسبيح ، أو السير ، أو النوح . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق { أوبى } بضم الهمزة أمراً من آب يئوب : إذا رجع ، أي ارجعي معه . قرأ الجمهور { والطير } بالنصب عطفاً على { فضلاً } على معنى : وسخرنا له الطير ، لأن إيتاءه إياها تسخيرها له ، أو عطفاً على محل { يا جبال } ؛ لأنه منصوب تقديراً ، إذ المعنى : نادينا الجبال والطير . وقال سيبويه ، وأبو عمرو بن العلاء : انتصابه بفعل مضمر على معنى : وسخرنا له الطير . وقال الزجاج ، والنحاس : يجوز أن يكون مفعولاً معه كما تقول : استوى الماء والخشبة . وقال الكسائي : إنه معطوف على { فضلاً } لكن على تقدير مضاف محذوف ، أي آتيناه فضلاً ، وتسبيح الطير . وقرأ السلمي ، والأعرج ، ويعقوب ، وأبو نوفل ، وابن أبي إسحاق ، ونصر بن عاصم ، وابن هرمز ، ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفاً على لفظ الجبال ، أو على المضمر في { أوّبي } لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } معطوف على { آتيناه } أي جعلناه ليناً ؛ ليعمل به ما شاء . قال الحسن : صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار . وقال السدّي : كان الحديد في يده كالطين المبلول ، والعجين ، والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ، ولا ضرب بمطرقة ، وكذا قال مقاتل ، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم .

/خ14