روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً } أي آتيناه لحسن انابته وصحة توبته فضلاً أي نعمة وإحسانا ، وقيل فضلاً وزيادة على سائر الأنبياء المتقدمين عليه أو أنبياء بني إسرائيل أو على ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه ما من فضيلة في أحد من الأنبياء عليهم السلام إلا وقد أوتي عليه الصلاة والسلام مثلها بالفعل أو تمكن منها فلم يختر إظهارها أو على الأنبياء مطلقاً وقد يكون في المفضول ما ليس في غيره ، وقد انفرد عليه السلام بما ذكر ههنا ، وقيل : أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن . وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة وإن أريد المجموع من حيث هو ففيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضاً فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه .

وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالإحسان وتنكيره للتفخيم و { مِنَّا } أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ } [ الكهف : 5 6 ] وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن ، وذكر شؤون داود وسليمان عليهما السلام هنا لمناسبة ذكر المينب في قوله تعالى : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآية لكل عبد منيب } [ سبأ : 9 ] كما أشرنا إليه ، وقال أبو حيان : مناسبة قصتيهما عليهما السلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم ، وقيل : ذكر سبحانه نعمته عليهما احتجاجاً على ما منح نبينا صلى الله عليه وسلم كأنه قيل : لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة والسلام رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو { فَضْلاً يا جبال أَوّبِي مَعَهُ } أي سبحى معه قاله ابن عباس وقتادة . وابن زيد ، وأخرجه ابن جرير عن أبي ميسرة إلا أنه قال : معناه ذلك بلغة الحبشة ، والظاهر أنه عربي من التأويب والمراد رجعي معه التسبيح وردديه ، وقال ابن عطية : إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة . وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدى بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح .

يروى أنه عليه السلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها ولا يعجز الله عز وجل أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة والسلام وسمع تسبيحه وكذا في كف أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، ولا يبعد على هذا أن يقال : إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادي أولوا الفهم وأمرها ، وقال بعضهم : إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا أشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها ، وقيل : المراد بتأويبها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، وفيه مع كونه خلاف المأثور إن { مَعَهُ } يأباه ، وأيضاً لا اختصاص له عليه السلام بتأويب الجبال بهذا اللمعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له ، وقيل : كان عليه السلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها .

وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان ، والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤوب معه ، وأيضاً أي اختصاص له عليه الصلاة والسلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال ، وعن الحسن أن معنى { أَوّبِي مَعَهُ } سيرى معه أين سار ، والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار رأي يردده .

ومن ذلك قول تميم بن مقبل :

لحقنا بحي أوبوا السير بعدما *** دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح

وقول آخر :

يومان يوم مقامات وأندية *** ويوم سير إلى الأعداء تأويب

وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داود عليه السلام أو غيره ، وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت . وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة العرب ، وقيل : المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أعين واستخراج معدن ووضع طريق ، والجملة معمولة لقول مضمر أي قولنا يا جبال على أنه بدل من { فَضْلاً } بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو قلنا يا جبال على أنه بدل من { ءاتَيْنَا } وجوز كونه بدلاً من { فَضْلاً } بناء على أنه يجوز إبدال الجملة من المفرد ، وجوز أبو حيان الاستئناف وليس بذاك .

وقرأ ابن عباس . والحسن . وقتادة . وابن أبي إسحق { أَوّبِى } بضم الهمزة وسكون الواو أمر من الأوب وهو الرجوع وفرق بينهما الراغب بأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره .

والمعنى على هذه القراءة عند الجمهور ارجعي معه في التسبيح وأمر الجبال كامر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه يا خيل الله اركبي وكذا { مآَرِبُ أخرى } [ طه : 8 1 ] وقد جاء ذلك في جمع من يعقل من المؤنث قال الشاعر :

تركنا الخيل والنعم المفدي *** وقلنا للنساء بها أقيمي

لكن هذا قليل { والطير } بالنصب وهو عند أبي عمرو بن العلاء باضمار فعل تقديره وسخرنا له الطير وحكى أبو عبيدة عنه أن ذاك بالعطف على { فَضْلاً } ولا حاجة إلى الإضمار لأن إيتاءها إياه عليه السلام تسخيرها له ، وذكر الطيبي أن ذلك كقوله :

علفتها تبنا وماء باردا *** وقال الكسائي : بالعطف أيضاً إلا أنه قدر مضافاً أي وتسبيح الطير ولا يحتاج إليه ، وقال سيبويه : الطير معطوف على محل { جِبَالٍ } نحو قوله :

ألا يا زيد والضحاك سيرا *** بنصب الضحاك ، ومنعه بعض النحويين للزوم دخول يا علي المنادى المعرف بأل .

والمجيز يقول : رب شيء يجوز تبعاً ولا يجوز استقلالاً ، وقال الزجاج : هو منصوب على أنه مفعول معه . وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن قبله { مَعَهُ } ولا يقتضي اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف فكما لا يجوز جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف كذلك هذا ، وقال الخفاجي : لا يأباه { مَعَهُ } سواء تعلق بأوبى على أنه ظرف لغو أو جعل حالا لأنهما معمولان متغايران إذ الظرف والحال غير المفعول معه وكل منها باب على حده وإنما الموهم لذلك لفظ المعية فما اعترض به أبو حيان غير متوجه وإن ظن كذلك ، وأقبح من الذنب الاعتذار حيث أجيب بأنه يجوز أن يقال حذفت واو العطف من قوله تعالى : { والطير } استثقالاً لاجتماع الواوين أو اعتبر تعلق الثاني بعد تعلق الأول .

وقرأ السلمي . وابن هرمز . وأبو يحيى . وأبو نوفل . ويعقوب . وابن أبي عبلة . وجماعة من أهل المدينة . وعاصم في رواية { والطير } بالرفع وخرج على أنه معطوف على { جِبَالٍ } باعتبار لفظه وحركته لعروضها تشبه حركة الاعراب ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، وقيل معطوف على الضمير المستتر في { أَوّبِى } وسوغ ذلك الفصل بالظرف ، وقيل : هو بتقدير ولتؤوب الطير نظير ما قيل في قوله تعالى : { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 5 3 ] .

وقيل : هو مرفوع بالابتداء والخبر محذوف أي والطير تؤوب { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وجعلناه في يده كالشمع والعجين يصرفه كما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قاله السدى . وغيره ، وقيل : جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالشمع بالنسبة إلى قوى سائر البشر

ومن باب الإشارة : في بعض آيات السورة ما قيل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوّبِى مَعَهُ والطير } أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت ، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سري في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكراً فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } [ سبأ : 0 1 ] القلب .