قوله تعالى : { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } أي : من الأبواب المتفرقة . وقيل : كانت المدينة مدينة الفرماء ولها أربعة أبواب ، فدخلوها من أبوابها ، { ما كان يغني } ، يدفع { عنهم من الله من شيء } ، صدق الله تعالى يعقوب فيما قال ، { إلا حاجةً } ، مرادا ، { في نفس يعقوب قضاها } ، أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وجرى الأمر عليه ، { وإنه } ، يعني : يعقوب عليه السلام ، { لذو علم } ، يعني : كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل ، { لما علمناه } ، أي : لتعليمنا إياه . وقيل : إنه لعامل بما علم . قال سفيان : من لا يعمل بما يعلم لا يكون علاما . وقيل : وإنه لذو حفظ لما علمناه . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ، ما يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم . وقال ابن عباس : لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه .
{ وَلَمَّا } ذهبوا و { دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ } ذلك الفعل { يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد ، فحصل له في ذلك نوع طمأنينة ، وقضاء لما في خاطره .
وليس هذا قصورا في علمه ، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين ، ولهذا قال عنه : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } أي : لصاحب علم عظيم { لِمَا عَلَّمْنَاهُ } أي : لتعليمنا إياه ، لا بحوله وقوته أدركه ، بل بفضل الله وتعليمه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك أهل العلم منهم ، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير .
ثم بين - سبحانه - أن الأبناء قد امتثلوا أمر أبيهم لهم فقال : { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } .
والمراد بالحاجة هنا : نصيحته لأبنائه بأن يدخلوا من أبواب متفرقة ، خوفاً عليهم من الحسد . ومعنى { قضاها } أظهرها ولم يستطع كتمانها يقال : قضى فلان حاجة لنفسه إذا أظهر ما أضمره فيها .
أى : وحين دخل أبناء يعقوب من الأبواب المتفرقة التي أمرهم أبوهم بالدخول منها ، { ما كان } هذا الدخول { يُغْنِي عَنْهُمْ } أى يدفع عنهم من قدر { الله مِن شَيْءٍ } قدره عليهم ، ولكن الذي حمل يعقوب على أمرهم بذلك ، حاجة أى رغبة خطرت في نفسه { قضاها } أى : أظهرها ووصاهم بها ولم يستطع إخفاءها لشدة حبه لهم مع اعتقاده بأن كل شئ بقضاء الله وقدره .
وقوله - سبحانه - { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } ثناء من الله - تعالى - على يعقوب بالعلم وحسن التدبير .
أى : وإن يعقوب - عليه السلام - لذو علم عظيم ، للشئ الذي علمناه إياه عن طريق وحينا ، فهو لا ينسى منه شيئاً إلا ما شاء الله .
وقوله { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أى : لا يعلمون ما يعلمه يعقوب - عليه السلام - من أن الأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله - تعالى - أو : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة وحسن التأتى للأمور .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد فصلت الحديث عما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم في شأن سفر أخيهم معهم . . . فماذا كان بعد ذلك ؟
وسار الركب ، ونفذوا وصية أبيهم :
( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ، ما كان يغني عنهم من الله من شيء - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - وإنه لذو علم لما علمناه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
فيم كانت هذه الوصية ؟ لم قال لهم أبوهم : لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ؟
تضرب الروايات والتفاسير في هذا وتبدى وتعيد ، بلا ضرورة ، بل ضد ما يقتضيه السياق القرآني الحكيم . فلو كان السياق يحب أن يكشف عن السبب لقال . ولكنه قال فقط - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - فينبغي أن يقف المفسرون عند ماأراده السياق ، احتفاظا بالجو الذي أراده . والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم ، ويرى في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشيء مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء . فالحكم كله إليه ، والاعتماد كله عليه . إنما هو خاطر شعر به ، وحاجة في نفسه قضاها بالوصية ، وهو على علم بأن إرادة الله نافذة . فقد علمه الله هذا فتعلم .
( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
ثم ليكن هذا الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة ، أو هي غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم . أو هو تتبع قطاع الطريق لهم . أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع . سوى أن يجد الرواة والمفسرون بابا للخروج عن الجو القرآني المؤثر إلى قال وقيل ، مما يذهب بالجو القرآني كله في كثرة الأحايين !
فلنطو نحن الوصية والرحلة كما طواها السياق ، لنلتقي بإخوة يوسف في المشهد التالي بعد الوصول :
{ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } أي من أبواب متفرقة في البلد . { ما كان يُغني عنهم } رأي يعقوب واتباعهم له . { من الله من شيء } مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليه السلام . فسُرقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على يعقوب . { إلا حاجة في نفس يعقوب } استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه ، يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا . { قضاها } أظهرها ووصى بها . { وإنه لذو علم لما علمناه } بالوحي ونصب الحجج ، ولذلك ولذلك قال { وما أغنى عنكم من الله من شيء } ولم يغتر بتدبيره . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولما دخل ولد يعقوب "مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ "وذلك دخولهم مصر من أبواب متفرّقة. "ما كانَ يُغْنِي" دخولهم إياها كذلك "عَنْهُمْ" مِنَ قضاء اللّهِ الذي قضاه فيهم فحتمه، "مِنْ شَيْءٍ إلاّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعَقُوبَ قَضَاها" إلا أنهم قضوا وطرا ليعقوب بدخولهم لا من طريق واحد خوفا من العين عليهم، فاطمأنت نفسه أن يكونوا أُوتُوا من قبل ذلك أو نالهم من أجله مكروه... وقوله: "وإنّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلّمْناهُ" يقول تعالى ذكره: وإن يعقوب لذو علم لتعليمنا إياه. وقيل: معناه وإنه لذو حفظ لما استودعنا صدره من العلم... عن قتادة: "وَإنّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلّمْناهُ" قال: إنه لعامل بما علم...
"وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ" يقول جلّ ثناؤه: ولكن كثيرا من الناس غير يعقوب، لا يعلمون ما يعلمه، لأنا حَرَمناه ذلك فلم يعلمه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وإنه لذو علم لما علمناه".. إنه ليس ممن يعمل على جهل، بل على علم، براءة له من الأمر لولده بما لا يجوز له، ولكن "أكثر الناس لا يعلمون "ذلك من حاله، كما علمه الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم قال: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي متفرقين {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ} رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط، حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء منقطع. على معنى: ولكن حاجة {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} يعني قوله: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ} وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال، مؤكداً لما أشار إلى اعتقاده، فقال: {ولما} وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفاً من أن يقول لهم: لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به، والزمان زمان رفق، لا زمان تبسط {دخلوا} أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر {من حيث أمرهم} أي به {أبوهم} من أبواب متفرقة، قالوا: وكان لمصر أربعة أبواب، {ما كان} ذلك الدخول {يغني} أي يدفع ويجزي {عنهم من الله} أي الملك الأعلى الذي لا راد لأمره، وأغرق في النفي فقال: {من شيء} كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام {إلا حاجة} أي شيئاً غير أتم حاجة {في نفس يعقوب} وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم {قضاها} يعقوب، وأبرزها من نفسه إلى أولاده، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الخلاص من عقوق أبيهم فقط، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً، وهو نسبهم إلى السرقة، وأسر أخيهم منهم، قال أبو حيان: وفيه حجة لمن زعم أن "لما "حرف وجوب لوجوب، لا ظرف زمان بمعنى "حين"، إذ لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما" بعد "ما النافية -انتهى.
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحتياط، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال: {وإنه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك {لذو علم} أي معرفة بالحكمين: حكم التكليف، وحكم التقدير، وإطلاع على الكونين عظيم {لما} أي للذي {علمناه} إياه من أصول الدين وفروعه، ويجوز أن يكون المعنى: لذو علم لأجل تعليمنا إياه.
فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا إن أمضاها الواحد القهار، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل، وفائدة إبرازه- في صورة الاستثناء عند من جعله منقطعاً -الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً، لأنه من أمر الله، فلو كان شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به...
ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك، أي يعلم ما علمه، نفى ذلك سبحانه بقوله: {ولكن أكثر الناس} أي لأجل ما لهم من الاضطراب {لا يعلمون} أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفراغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكفل لهم به من أحوال الدنيا، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وإنه لذو علم لما علمناه} أي وإنه لذو علم خاص به وبأمثاله من الأنبياء، لما أعطيناه من علم الوحي وتأويل الرؤيا الصادقة، واعتقاده أن الإنسان يجب عليه في كل أمر يحاوله أن يتخذ له من الأسباب ما يصل به إلى غرضه ويبلغ به إلى غايته، ثم يتوكل بعد ذلك على الله في تسخير ما لم يصل إليه علمه مما لا تتم المقاصد بدونه. {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن الواجب الجمع بين أخذ العدة والسعي في تحقيق الأسباب الصحيحة الموصلة إلى المراد، وبين الاتكال على الله وهو ما فعله يعقوب عليه السلام، ولا يكفي تحقق الأسباب وحدها للحصول عليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والقضاء: الإنفاذ، ومعنى قضاها أنفذها. يقال: قضى حاجة لنفسه، إذا أنفذ ما أضمره في نفسه، أي نصيحة لأبنائه أداها لهم ولم يدخرها عنهم ليطمئن قلبه بأنه لم يترك شيئاً يظنه نافعاً لهم إلاّ أبلغه إليهم... والمعنى أن الله أمر يعقوب عليه السلام بأخذ أسباب الاحتياط والنصيحة مع علمه بأن ذلك لا يغني عنهم من الله من شيء قدره لهم، فإن مراد الله تعالى خفيّ عن الناس، وقد أمر بسلوك الأسباب المعتادة، وعَلِم يعقوب عليه السلام ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تطلب الأمرين فيهملون أحدهما...
والمعنى: أن أكثر الناس في جهالة عن وضع هاته الحقائق موضعها ولا يخلون عن مُضيع لإحداهما...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
دخلوا من أبواب متفرقة، وتمثلت في يعقوب النبي صورة الأب الشفيق الذي يخشى على أولاده من كل شيء، فإن الشفقة توهم ما لا يكون له حقيقة أو تكون له حقيقة ولكن بعيدة؛ خاف على أولاده أن يعانوا، أي تصيبهم العين، فقال: {يا بني لا تدخلوا من باب واحدة وادخلوا من أبواب متفرقة}، ففعلوا استجابة للحنان الذي يغمرهم، ولذا قال تعالى: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم}، أي من أبواب متفرقة حيث أمرهم أبوهم مما كان لا يغني عنهم من الله من شيء، أي لا يدفع عنهم دون الله تعالى من شيء، أي أن العين وأشباهها لا تدفع بالدخول من أبواب متفرقة، إنما يدفعها الله إذا شاء {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها}... والحاجة هي الخاطر الذي خطر على فكر يعقوب، وصار في حاجة لأن ينصح ولده بأن يدخلوا من أبواب متفرقة، وهذه الحاجة هي شفقته على أولاده، وخوفه من العين تصيبهم، كما أشرنا، ومن المفسرين من أنكر خوف العين، على مثل نبي الله يعقوب عليه السلام، وقال: إنه الخوف من الملك إذا رآهم وأولادهم جميعا في أبهة وفخامة أن يبطش بهم، والحاجة تحتمل الأمرين، وربما كان يرشح للثاني قوله تعالى: {وإنه لذو علم لما علمناه} من الحكمة والنبوة فلا يغني عن الله شيء وإنا نميل إلى هذا. ورشحه أيضا قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} بل يسيرون وراء ما يتوهمون، وإن لم تكن له حقيقة ثابتة، والله أعلم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} لأن مثل هذه الوسائل لا تمنع الخطة المرسومة التي يريد الله للناس أن يخضعوا لها في قضائه وقدره في علاقة المسبّبات بالأسباب، فإذا أراد الله شيئاً هيّأ أسبابه. وهكذا لم يُرد يعقوب أن يغيّر القضاء، أو يعطّل الأسباب {إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} في ما كان يريده لهم من تحفظ يبعدهم عن المشاكل من بعض النواحي. ولم نعرف من خلال القرآن نوعية هذه الحاجة بالتحديد، لكن ربّما كانت حالةً من الطمأنينة الداخلية التي أراد أن يعيشها في نفسه، وربما كانت حاجته الملحة إلى رجوع يوسف إليه، التي هيّأ الله له أسباب تحقيقها في سفر إخوته مع أخيهم غير الشقيق إليه، الذي انتهى بلقاء يوسف وأخيه لأبيه وأمه، وبذلك يكون الضمير في «قضاها» راجعاً إلى الله، لا إلى يعقوب كما يذهب إلى ذلك بعض المفسرين، وربما كانت تلك الحاجة شيئاً لا نعلمه، مما قد يكون معلوماً لدى يعقوب مما علّمه الله إياه من أسرار الغيب في ما يمكن أن نستوحيه من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}. ولعلَّ المراد به العلم الخاص الذي يلهم الله به الأنبياء أو يوحي به إليهم من علمه، الذي لا يريد أن يبينوه، بل يريد لهم أن يعيشوه، ويكتفوا في تبيانه على طريقة الإشعار أو الإيحاء لمصلحة ما هناك. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم يتعاملون في أمورهم من خلال الرؤية المحدودة للأشياء، مما يحجب عنهم الكثير من الأسرار التي تختفي في غيب المستقبل، أو في خلفيات الحاضر.