قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات } . من خيار ، قال ابن مسعود رضي الله عنه ، ومجاهد : من حلالات .
قوله تعالى : { ما كسبتم } . بالتجارة والصناعة ، وفيه دلالة على إباحة الكسب ، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد ابن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يعلى بن عبيد ، أخبرنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، أخبرنا أبو معاوية بن صالح ، عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب أنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه " .
أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الكشميهني ، أخبرنا نجاح بن يزيد المحاربي بالكوفة ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أخبرنا أحمد بن حازم ، أخبرنا يحيى بن عبيد ، أخبرنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يكتسب عبد مالاً حراماً فيتصدق منه فيقبل الله منه ، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " .
والزكاة واجبة في مال التجارة عند أكثر أهل العلم ، فبعد الحول يقوم العرض فيخرج من قيمتها ربع العشر إذا كان قيمتها عشرين ديناراً أو مائتي درهم ، قال سمرة بن جندب : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع " .
وعن أبي عمرو بن خماس أن أباه قال : مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي أدمة أحملها فقال عمر : ألا تؤدي زكاتك يا خماس ؟ فقلت : ما لي غير هذا وأهب في القرظ ، فقال ذاك مال ، فضع ، فوضعتها فحسبها فأخذ منها الزكاة .
قوله تعالى : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } . قيل هذا بإخراج العشور من الثمار والحبوب ، واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل ، والكروم ، وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء أو من نهر يجري الماء إليه من غير مؤنة ، وإن كان مسقياً بسانية ، أو بنضج ففيه نصف العشر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس بن زيد ، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر ، وفيما سقي بالنضج نصف العشر " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن نافع ، عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم : " يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيباً كما يؤدى زكاة النخل تمراً " .
واختلف أهل العلم فيما سوى النخل والكروم ، وفيما سوى ما يقتات به من الحبوب ، فذهب قوم إلى أنه لا عشر في شيء منها ، وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي رضي الله عنه . وقال الزهري والأوزاعي ومالك رضي الله عنهم : يجب في الزيتون ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يجب العشر في جميع البقول والخضراوات كالثمار إلا الحشيش والحطب ، وكل ثمرة أوجبنا فيها الزكاة فإنما يبدو الصلاح ، وقت الإخراج بعد الاجتناء والجفاف ، وكل حب أوجبنا فيه العشر فوقت وجوبه اشتداد الحب ، ووقت الإخراج بعد الدياسة والتنقية ، ولا يجب العشر في شيء منها تبلغ خمسة أوسق عند أكثر أهل العلم ، وعند أبي حنيفة رحمه الله ، يجب في كل قليل وكثير منها .
واحتج من شرط النصاب بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ، وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة " .
وروى يحيى بن عبادة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس في حب ولا تمر صدقة ، حتى تبلغ خمسة أوسق " ، وقال قوم : الآية في صدقات التطوع .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مؤمن يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة " .
قوله تعالى : { ولا تيمموا } . قرأ ابن كثير برواية البزي بتشديد التاء في الوصل فيها وفي أخواتها ، وهي إحدى وثلاثون موضعاً في القرآن ، لأنه في الأصل تاءان ، أسقطت إحداهما فرد هو الساقطة وأدغم ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ومعناه لا تقصدوا .
قوله تعالى : { الخبيث منه تنفقون } . روي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل أقناء من التمر والبسر ، فيعلقونه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين ، فكان الرجل منهم يعمل ، فيدخل قنو الحشو وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء ، فنزل فيمن فعل ذلك ( ولا تيمموا الخبيث ) أي الحشف والرديء ، وقال الحسن ومجاهد والضحاك : كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ، ويعزلون الجيد ناحية لأنفسهم ، فأنزل الله تعالى ( ولا تيمموا الخبيث ) الرديء منه تنفقون .
قوله تعالى : { ولستم بآخذيه } . يعني الخبيث .
قوله تعالى : { إلا أن تغمضوا فيه } . الإغماض غض البصر ، وأراد هاهنا التجوز والمساهلة ، معناه لو كان لأحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه . وقال الحسن وقتادة : لو وجدتموه يباع في السوق ما أخذتموه بسعر الجيد . وروي عن البراء قال : " لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ ، فكيف ترضون مالا ترضون لأنفسكم " . هذا إذا كان المال كله جيداً فليس له إعطاء الرديء ، لأن أهل السهمان شركاؤه فيما عنده ، فإن كان كل ماله رديئاً فلا بأس بإعطاء الرديء .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب ، ومما أخرج لهم من الأرض فكما منَّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه شكرا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم ، وتطهيرا لأموالكم ، واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم ، ولا تيمموا الرديء الذي لا ترغبونه ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة { واعلموا أن الله غني حميد } فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم ، ومع هذا فهو حميد على ما يأمركم به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة ، فعليكم أن تمتثلوا أوامره لأنها قوت القلوب وحياة النفوس ونعيم الأرواح ،
ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بأن يتحروا في نفقتهم الحلال الطيب ، بعد أن حضهم على الإِنفاق بسخاء وإخلاص .
{ ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ . . . }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 268 ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ( 269 )
قال ابن كثير : عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - في قول الله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } . . الآية قال : نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من نخيلها البسر فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف - أي التمر الردئ - فيدخله مع أفناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك الآية .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا اجعلوا نفقتكم التي تنفقونها في سبيل الله من أطيب أموالكم التي اكتسبتموها عن طريق التجارة وغيرها .
قال ابن عباس : أمرهم الله - تعالى - بالإِنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئة وخبيثه ، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً " قال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وقوله : { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض } معطوف على ما قبله أي أنفقوا من طيبات أموالكم التي اكتسبتموها ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض من الحبوب والثمار والزروع وغيرها . وترك - سبحانه - ذكر كلمة الطيبات في هذه الجملة لسبق ذكرها في الجملة التي قبلها .
فالآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يلتزموا في نفقتهم المال الطيب في كل وجه من وجوهه ، بأن يكون جيداً نفيساً في صنفه ، وحلالا مشروعاً في أصله .
وقد أكد الله - تعالى - هذا الأمر بجملتين كريمتين فقال : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } .
قوله - تعالى - : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } أي ولا تقصدوا وتتعمدوا . يقال : تيممت الشيء ويممته إذا قصدته . ويقال : يممت جهة كذا إذا قصدته . ومنه الإِمام لأنه المقصود المعتمد وأصل تيمموا فحذفت إحداهما تخفيفا .
والخبيث هو الردئ من كل شيء وخبث الفضة والحديد ما نفاه الكير لأنه ينفى الردئ .
ويطلق الخبيث على الشيء الحرام والمستقذر .
والإِغماض في اللغة - كما يقول الرازي - غض النظر وإطباق جفن على جفن ، وأصله من الغموض وهو الخفاء ، والمراد بالإِغماض ها هنا المساهلة وذلك لأن الإِنسان إذا رأى ما يكره أغمض عنه لئلا يرى ذلك . ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً .
والمعنى : أنفقوا أيها المؤمنون من أطيب أموالكم وأنفسها وأجودها ، ولا تتحروا وتقصدوا أن يكون أنفاقكم من الخبيث الرديء ، والحال أنكم لا تأخذونه إن أعطى لكم هبة أو شراء أو غير ذلك إلا أن تتساهلوا في قبوله ، وتغضوا الطرف عن رداءته ، إذا كان هذا شأنكم في قبول ما هو رديء فكيف تقدمونها لغيركم ؟ إن الله - ينهاكم عن ذلك لأن من شأن المؤمن الصادق في إيمانه ألا يفعل لغيره إلا ما يجب أن يفعله لنفسه ، ولا يعطي من شيء إلا ما بجب أن يعطي إليه ، ففي الحديث الشريف :
" عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به " .
قال الآلوسي : وقوله : { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } الضمير المجرور يعود للخبيث ، وهو متعلق يتنفقون ، والتقديم للتخصيص ، والجملة حال مقدرة من فاعل { تَيَمَّمُواْ } أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه ، أو من الخبيث أي مختصاً به الإِنفاق ، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضاً كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة .
وقوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } حال في ضمير { تُنْفِقُونَ } أي : والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه إلا وقت إغماضكم فيه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي واعلموا أن الله - تعالى - غني عن صدقاتكم وإنما أمركم بها لمنفعتكم ، { حَمِيدٌ } يجازي المحسن أفضل الجزاء ، وهو - سبحانه - المستحق للحمد الحقيقي دون سواه ، فمن الواجب عليكم أن تبذلوا في سبيله الجيد من أموالكم شكراص له على نعمه حتى يزيدكم من عطائه وآلائه .
ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة . ليبين نوعها وطريقتها ، بعد ما بين آدابها وثمارها :
( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون . ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ، واعلموا أن الله غني حميد ) . .
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود ؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه ؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته . فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث !
وهو نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم . تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب ، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول . ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال ، ما كان معهودا على عهد النبي [ ص ] وما يستجد . فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان . وكله مما يوجب النص فيه الزكاة . أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك . وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال .
وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء ، لا بأس من ذكره ، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها ؛ وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه . .
روى ابن جرير - بإسناده - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : " نزلت في الأنصار . كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله [ ص ] فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر ، يظن أن ذلك جائز . فأنزل الله فيمن فعل ذلك : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) . .
وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه .
ورواه ابن أبي حاتم - بإسناده عن طريق آخر - عن البراء - رضي الله عنه - قال : نزلت فينا . كنا أصحاب نخل ، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي رجل بالقنو ، فيعلقه في المسجد . وكان أهل الصفة ليس لهم طعام . فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه ، فسقط منه البسر والتمر فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) . قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء . فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده .
والروايتان قريبتان . وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة ؛ وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض . وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة ، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال ! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم ، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي : نقص في القيمة ! بينما كانوا يقدمونه هم لله !
( واعلموا أن الله غني حميد ) . .
غني عن عطاء الناس إطلاقا . فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيبا ، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك .
حميد . . يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى . .
ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب . كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلا . ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . ) . . وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون من صدقاتكم ! بينما هو - سبحانه - يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر . وهو الله الرازق الوهاب . . يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل ! أي إيحاء ! وأي إغراء ! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب !
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق - والمراد به الصدقة هاهنا ؛ قاله ابن عباس - من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها . قال مجاهد : يعني التجارة بتيسيره إياها لهم .
وقال علي والسدي : { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم } يعني : الذهب والفضة ، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض .
قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه - وهو خبيثه - فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا ، ولهذا قال : { وَلا تَيَمَّمُوا } أي : تقصدوا { الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } أي : لو أعطيتموه ما أخذتموه ، إلا أن تتغاضوا فيه ، فالله أغنى عنه منكم ، فلا تجعلوا لله ما تكرهون .
وقيل : معناه : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } أي : لا تعدلوا عن المال الحلال ، وتقصدوا إلى الحرام ، فتجعلوا نفقتكم منه .
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن محمد ، عن مُرّة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه " . قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ . قال : " غَشَمُه وظلمه ، ولا يكسب{[4452]} عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه ، ولا يتصدقُ به فيقبل{[4453]} منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " {[4454]} .
والصحيح القول الأول ؛ قال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزيِّ ، حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدّي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } الآية . قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ النخل ، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف ، فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز ، فأنزل الله فيمن فعل ذلك : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }
ثم رواه{[4455]} ابن جرير ، وابن ماجه ، وابن مَرْدُوَيه ، والحاكم في مستدركه ، من طريق السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء ، بنحوه . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه{[4456]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : نزلت فينا ، كنا أصحاب نخل ، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي الرجل بالقِنْو فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة {[4457]} ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه ، فيسقط منه البسر والتمر ، فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقِنْو فيه الحَشَف والشِّيص ، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إلا على إغماض وحَياء ، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده .
وكذا رواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن عبيد الله - هو ابن موسى العبسي - عن إسرائيل ، عن السدي - وهو إسماعيل بن عبد الرحمن - عن أبي مالك الغفاري - واسمه غَزْوان - عن البراء ، فذكر نحوه{[4458]} .
ثم قال{[4459]} : وهذا حديث حسن غريب . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن الزهري ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين من التمر : الجُعْرُور ولون الحُبَيق{[4460]} . وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم{[4461]} ثم يخرجونها في الصدقة ، فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون }{[4462]} .
ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين ، عن الزهري [ به ]{[4463]} . ثم قال : أسنده أبو الوليد ، عن سليمان بن كثير ، عن الزهري ، ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور ولون الحُبيق{[4464]} أن يؤخذا في الصدقة{[4465]} .
وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حُمَيد اليَحْصُبي ، عن الزهري ، عن أبي أمامة . ولم يقل : عن أبيه ، فذكر نحوه{[4466]} . وكذا رواه ابن وهب ، عن عبد الجليل .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن مَعْقل{[4467]} في هذه الآية : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون } قال : كسب المسلم لا يكون خبيثًا ، ولكن لا يصدّق بالحشف ، والدرهم الزّيف ، وما لا خير فيه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد - هو ابن أبي سليمان - عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه . قلت : يا رسول الله ، نطعمه{[4468]} المساكين ؟ قال : " لا تطعموهم مما لا تأكلون " {[4469]} .
ثم رواه عن عفان{[4470]} عن حماد بن سلمة ، به . فقلت : يا رسول الله ، ألا أطعمه المساكين ؟ قال : " لا تطعموهم ما لا تأكلون " .
وقال الثوري : عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لرجل على رجل ، فأعطاه ذلك لم يأخذه ؛ إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه . قال : فذلك قوله : { إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه ! !
رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وزاد : وهو قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } [ آل عمران : 92 ] . ثم روى من طريق العوفي وغيره ، عن ابن عباس نحو ذلك ، وكذا ذكر غير واحد .
قوله{[4471]} : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها ، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير ، كقوله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [ الحج : 37 ] وهو غني عن جميع خلقه ، وجميع خلقه فقراء إليه ، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه ، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء ، كريم جواد ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم ، وهو الحميد ، أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله{[4472]} وشرعه وقدره ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير . وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب . فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين ، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا . وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل ، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً ، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان . ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سُفيان الغَامِدي أحد قواد أهل الشام بلدَ الأنبار وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي وقتلوا عاملها حسان بنَ حسان البَكري : « أما بعد فإنّ من تَرك الجهاد رغبةَ عنه ألبسه الله ثوبَ الذل ، وشملُه البلاء ، ودُيِّثَ بالصّغار ، وضرب على قلبه ، وسيم الخَسْفَ ، ومُنِع النِّصْف . ألاَ وإنِّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وقلتُ لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غُزِي قوم في عُقْر دارهم إلاّ ذلوا ، فتواكلتم . هذا أخو غامد قد وردتْ خيلُه الأنباء » إلخ . وانظر كلمة « الجهاد » في هذه الخطبة فلعل أصلها القِتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتال هؤلاء فحَرفَها قاصِدٌ أو غَافِلٌ ولا إخالها تصدر عن علي رضي الله عنه .
والأمر يجوز أن يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة ، أو للندب وهي في صدقة التطوّع ، أو هو للقدر المشترك في الطَلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوّع ، والأدلة الأخرى تبيّن حكم كل . والقيد بالطَّيِّبَات يناسب تعميم النفقات .
والمراد بالطيّبات خيار الأموال ، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه . والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد . ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّباً تلقّاها الرحمن بيمينه " الحديث ، وفي الحديث الآخر : " إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً " . ولم يذكر الطيّبات مع قوله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه ، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله : { أخرجنا لكم } أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك ، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالباً من ظُلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالباً .
والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار ، فمنه ما يخرج بنفسه ، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع ، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية .
وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في { ما أخرجنا لكم من الأرض } . وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ مقدار النّصاب ، وفيه ربع العشر . وهو من الأموال المفروضة وليس بزكاة عند أبي حنيفة ، ولذلك قال فيه الخمس . وبعضهم عدّ الركاز داخلاً فيما أخرج من الأرض ولكنّه يخمس ، والحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية . ولعلّ المراد بما كسبتم الأموال المزكّاة من العين والماشية ، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكّاة .
وقوله : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أصل تيمّموا تتيمموا ، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتَيمّم بمعنى قصد وعمد .
والخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة ، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ .
وجملة { منه تنفقون } حال ، والجار والمجرور معمولان للحال قدماً عليه للدلالة على الاختصاص ، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلاّ تنفقوا إلاّ منه ، لأنّ محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله . أما إخراجه من الجيدَ ومن الرديء فليس بمنهي لا سيما في الزكاة الواجبة لأنّه يخرج عن كل ما هو عنده من نوعه . وفي حديث « الموطأ » في البيوع " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملاً على صدقات خيبر فأتاه بتَمْر جَنيب فقال له : أكُلُّ تَمْرِ خيبر هكذا قال : لا ، ولكنّي أبيع الصاعين من الجَمْع بصاع من جنيب . فقال له : بع الجمع بالدّراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً " فدل على أنّ الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه ، ولكنّ المنهي عنه أن يخصّ الصدقة بالأصناف الرديئة . وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذّر التنويع غالباً إلاّ إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا .
وقرأ الجمهور { تَيمّموا } بتاء واحدة خفيفة وصْلاً وابتداء ، أصله تَتيمّموا ، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام .
وقوله : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلاً لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعاً بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه . وكأنّ كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقرّرة في نفوسهم ، ولذلك وقع القياس عليها .
ويجوز أن يكون الكلام مستعملاً في النهي عن أخذ المال الخبيث ، فيكون الكلام منصرفاً إلى غرض ثانٍ وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه ، وعلى كلا الوجهين هو مقتضٍ تحريم أخذ المال المعلومة حِرمته على من هو بيده ولا يُحلّه انتقاله إلى غيره .
والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازاً على لازم ذلك ، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأنّ من لوازم الإغماض راحة النائم قال الأعشى :
عليكِ مثلُ الذي صَلِّيتِ فاغْتمضي *** جَفْناً فإنّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا
أراد فاهنئي . ويطلق تارة على لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الطرماح :
لم يَفُتْنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَللضّ *** يْمِ رجالٌ يَرْضَوْن بالإغماض
فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا أغمض عينه على قذى ؛ وذلك لأنّ إغماض الجفن مع وجود القذى في العين . لقصد الراحة من تحرّك القذى ، قال عبد العزيز بن زُرَارة الكَلاَئي{[195]} :
وأغْمَضْتُ الجُفُونَ على قَذَاها *** ولَمْ أسْمَعْ إلى قالٍ وقِيلِ
والاستثناء في قوله : { إلا أن تغمضوا فيه } على الوجه الأول من جعل الكلام إخباراً ، هو تقييد للنفي . وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهو من تأكيد الشيء بما يُشبه ضدّه أما لا تأخذوه إلاّ إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه .
وقوله : { واعلموا أن الله غني حميد } تذييل ، أي غني عن صدقاتكم التي لا تنفع الفقراء ، أو التي فيها استساغة الحرام . حميد ، أي شاكر لمن تصدّق صدقة طيّبة . وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى : { واتقوا الله واعلوا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] ، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله غني فأعطوا لوجههِ ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب .
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه ، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال .
والحميد من أمثلة المبالغة ، أي شديد الحَمد ؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات . ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود ، فيكون حَميد بمعنى مفعول ، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات ، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم ، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم}: أنفقوا من الحلال مما رزقناكم من الأموال الفضة والذهب وغيره.
{ومما أخرجنا لكم من الأرض}: وأنفقوا من طيبات الثمار والنبات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة قبل أن تنزل آيةُ الصدقات، فجاء رجل بعِذْقٍ من تمر عامته حَشَفٌ، فوضعه في المسجد مع التمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من جاء بهذا؟"، فقالوا: لا ندري، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعَلَّقَ العِذقُ، فمن نظر إليه قال: بئس ما صنع صاحب هذا، فقال الله عز وجل: {ولا تيمّموا الخبيثَ}: ولا تعمدوا إلى الحشف من التمر الرديء من طعامكم للصدقات، {منه تنفقون ولستم بآخذيه}: الرديء بسعر الطيب لأنفسكم، يقول: لو كان لبعضكم على بعض حق لم يأخذ دون حقه،
ثم استثنى، فقال: {إلا أن تُغمِضوا فيه}: إلا أن يهَضمَ بعضكُم على بعض حقَّه، فيأخذ دون حقه، وهو يعلم أنه رديء، فيأخذه على علم.
{واعلموا أن الله غني} عما عندكم من الأموال، {حميد} عند خلقه في ملكه وسلطانه...
{ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]. 185- قال ابن وهب: وسئل مالك عن الرجل يخلط مع الطعام الطيب طعاما دونه وهو مما يجوز به بيعه. قال مالك: وإنما يجعله لينفقه هذا الطيب. قال مالك: بهذا أفسده، قال الله تبارك وتعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وظن هذا أنه يربح وإنما يهلك دينه...
قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} الآية. قال الشافعي: يعني ـ والله أعلم ـ تأخذونه لأنفسكم ممن لكم عليه حق، فلا تنفقوا ما لا تأخذون لأنفسكم، يعني لا تعطوا مما خَبُثَ عليكم ـ والله أعلم ـ وعندكم طيب. قال الشافعي: فحرام على من عليه صدقة أن يعطي الصدقة من شرِّهَا، وحرام على من عنده ثمر أن يعطي العشر من شره. ومن له الحنطة أن يعطي العشر من شرها. ومن له ذهب أن يعطي زكاتها من شرها. ومن له إبل أن يعطي الزكاة من شرها إذا وُلِّيَ إعطاءها أهلها، وعلى السلطان أن يأخذ ذلك منه. وحرام عليه إن غابت أعيانها عن السلطان فقبل قوله أن يعطيه من شرها ويقول: ماله كله هكذا. قال الشافعي:... عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أتاكم المصدق فلا يفارقكم إلا عن رضا». قال الشافعي: يعني ـ والله أعلم ـ أن يوفوه طائعين ولا يلووه، لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم، فبهذا نأمرهم، ونأمر المصدق. (الأم: 2/58. ومن أحكام الشافعي: 1/104. ومعرفة السنن والآثار: 3/291.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يا أيها الذين آمنوا": صدّقوا بالله ورسوله وآي كتابه. {أنْفِقُوا}: زكوا وتصدّقوا.
{مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرّفكم إما بتجارة، وإما بصناعة من الذهب والفضة، ويعني بالطيبات: الجياد. يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالاً، وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة، الجياد منها دون الرديء. عن عبد الله بن معقل: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون.
{ومِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ}: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض.
{وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ}: ولا تعمدوا ولا تقصدوا. {وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}: الرديء غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم، فتصدّقوا منه، ولكن تصدّقوا من الطيب الجيد. وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قِنْوا من حَشَف في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقة من تمره... عن البراء بن عازب في قول الله عزّ وجلّ {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} إلى قوله: {وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ} قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظنّ أن ذلك جائز، فأنزل الله عزّ وجلّ فيمن فعل ذلك: {وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}: قال لا تيمموا الحَشَفَ منه تنفقون، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون، وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب. وتأويل الآية: هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق أهل التأويل في ذلك.
{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم. والهاء في قوله: {بآخِذِيهِ} من ذِكر الخبيث. {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم، يقال منه: أغمض فلان لفلان عن بعض حقه فهو يغمض.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث إذا اشتريتموه من أهله بسعر الجيد إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه. وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون على استحياء منكم ممن أهداه لكم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.
والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عزّ وجلّ حثّ عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم وفرضها عليهم فيها، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم حقا لأهل سهمان الصدقة، ثم أمرهم تعالى ذكره أن يخرجوا من الطيبِ، وهو الجيد من أموالهم، الطيبَ، وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها، فلا شكّ أن كل شريكين في مال فلكلّ واحد منهما بقدر ملكه، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه بإعطائه بمقدار حقه منه من غيره، مما هو أردأ منه أو أخسّ، فكذلك المزكي ماله حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحقّ، فصاروا فيه شركاء من الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد، كما لو كان مال ربّ المال رديئا كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم، فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قِبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حقّ ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم فأما إذا تطوّع الرجل بصدقة غير مفروضة فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه لأن الله عزّ وجلّ أحقّ من تقرّب إليه بأكرم الأموال وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن، فلست أحرّم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعمّ نفعا لكثرته، أو لعظم خطره، وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عزّ وجلّ من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه.
{وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ}: واعلموا أيها الناس أن الله عزّ وجلّ غنيّ عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمركم بها، ورفضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، ويقوّي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الاَخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم. ويعني بقوله: {حَمِيدٌ} أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله... عن البراء بن عازب في قوله: {وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ} عن صدقاتكم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لينظرْ كلُّ واحد ما الذي ينفقه لأجل نفسه، وما الذي يخرجه بأمر ربه. والذي يخرج عليك من ديوانك: فما كان لحظِّك فنفائس ملكك، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله (فاللُّقْمَةُ لُقْمَتُه)، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة. ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه، بل أبصر كيف يقلبه منك، بل أبصر كيف يمدحك، بل أبصر كيف ينسبه إليك؛ الكلُّ منه فضلاً لكنه ينسبه إليك فعلاً، ثم يُولِي عليك عطاءه ويسمي العطاء جزاءً، يوسعك بتوفيقه بِرًّاً، ثم يملأ العَالَم منك شكراً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة أمر من الإنفاق، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق، الزكاة المفروضة أو التطوع... والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب...
و {حميد} معناه محمود في كل حال...
اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنه الجيد من المال دون الرديء، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء.
والقول الثاني: وهو قول ابن مسعود ومجاهد: أن الطيب هو الحلال، والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه:
الحجة الأولى: إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد.
الحجة الثانية: أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله: ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال، أمن حلاله أو من حرامه.
الحجة الثالثة: أن هذا القول متأيد بقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها، لا الأشياء الخسيسة التي يجب على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته.
واحتج القاضي للقول الثاني فقال: أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال، فإذا بطل الأول تعين الثاني، وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمرا بإنفاق مطلق الجيد سواء [أكان] حراما [أم] حلالا وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل... فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال، ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب ههنا ما يكون طيبا من كل الوجوه فيكون طيبا بمعنى الحلال، ويكون طيبا بمعنى الجودة...
ومعنى حميد، أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر، وهو أن قوله {غنى} كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و {حميد} بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله {فأولئك كان سعيهم مشكورا}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به لمنفعتكم. وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبيخٌ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذانٌ بأن ذلك من آثار الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه {حَمِيدٌ} مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل: حامد بقبول الجيّد والإثابة عليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
حثت الآيات السابقة على الصدقة والإنفاق في سبيل الله أبلغ حث وآكده وأرشدت إلى ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص وقصد تثبيت النفس وما يجب أن يتقيه بعد البذل وهو المن الأذى، فكان ذلك إرشادا يتعلق بالبذل والباذل. ثم أراد تعالى أن يبين لنا ما ينبغي مراعاته في المبذول ليكمل الإرشاد في هذا المقام فقال: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} فبين نوع ما ينفق ويبذل ووصفه. أما الوصف فهو أن يكون من الطيبات والطيب هو الجيد المستطاب وضده الخبيث المستكره. ولذلك قال في مقابل هذا الأمر {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} أصل تيمموا تتيمموا. ومن العجيب أن يختلف المفسرون في تفسير الطيب هل يراد به ما ذكر أم هو معنى الحلال وأن يرجح بعض المعروفين بالتدقيق منهم الثاني، وبعضهم أنه ورد هنا بالمعنيين على أن بعضهم عزا الأول إلى الجمهور.
نعم إن كل جيد وحسن يوصف بالطيب وإن كان حسنه معنويا فيقال البلد الطيب والأكل الطيب، ولكن أسلوب الآية يأبى أن يراد بالطيبات هنا أنواع الحلال وبالخبيث المحرم وقواعد الشرع لا ترضاه. وما ورد في سبب نزول الآية يؤيد أسلوبها وهو أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر وهو رديئه رواه ابن جرير عن البراء بن عازب وفي رواية عن الحسن "كانوا يتصدقون من رذالة مالهم "وفي أخرى عن علي رضي الله عنه "نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء" وقد أورده ابن جرير في ذلك عدة روايات.
والمعنى أنفقوا من جياد أموالكم ولا تيمموا أي تقصدوا الخبيث فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيد فهو نهي عن تعمد حصر الصدقة في الخبيث ولا يدل على منع التصدق به من غير تعمد ولا حصر ولو أريد بالخبيث الحرام، لنهى عن الإنفاق منه البتة لا عن قصد التخصيص فقط أما وقد جاءت الآية بالأمر بالإنفاق ن الطيبات من غير حصر للنفقة فيها وبالنهي عن تحري الإنفاق من الخبيث خاصة دون الطيب لا عن مطلق الإنفاق من الخبيث فلا يجوز مع هذا أن يراد بالطيبات الحلال وبالخبيث المحرم. على أن الأصل في مال المؤمنين أن يكون حلالا وإنما خوطبوا بالإنفاق مما في أيديهم فلو أريد بالطيبات والخبيث ما ذكر لكان الخطاب مبنيا على أن أموال المؤمنين فيها الحلال والحرام وكان منطوق الآية أنفقوا من الحلال ولا تتحروا جعل صدقاتكم من الحرام وحده ومفهومها جواز التصدق بالحرام أيضا وهذا ما يأباه النظم الكريم، والشرع القويم، ثم إن ما اخترناه مؤيد بقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وبوصف الرزق بالحلال والطيب معا في آيات كثيرة وبمثل قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات} [المائدة: 5] وقوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف 17] والآيات في هذا المعنى كثيرة. فهل تقول إن المعنى يحل لهم الحلال ويحرم عليهم الحرام وهو من تحصيل الحاصل؟ واعلم أن الخبيث الذي حرم أخص من الخبيث الذي ينهى عن تحري التفقه فيه، فإن المحرم ما كانت رداءته ضارة كالدم ولحم الخنزير.
وأما قوله تعالى: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} فهو حجة على من ينفق الخبيث في سبيل الله تشعر بالتوبيخ والتقريع، أي كيف تقصدون الخبيث منه تتصدقون ولستم تَرضونَ بمثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير الغيب فيه؟ ولن يرضى ذلك لنفسه أحد إلا وهو يرى أنه مغبون مغموض الحق. وقد صوروه فيمن له حق عند امرئ فرد عليه بدلا عنه ما هو دونه جودة وهو يكون في غير الحقوق أيضا فالرديء لا يقبل هداية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدي، لأن إهداء الرديء يشعر بقلة احترام المهدى إليه، وما يبذل في سبيل الله وابتغاء مرضاته هو كالمعطى له فيجب على المؤمن أن يجعله من أجود ما عنده وأحسنه ليكون جديرا بالقبول. فإن الذي يقبل الرديء مغمضا فيه إنما يقبله لحاجته إلى قبوله والله تعالى لا يحتاج فيغمض ولذلك قال: {واعلموا أن الله غني حميد} فلا يصح أن يتقرب إليه بما لا يقبله لرداءته إلا فقير اليد أو فقير النفس الذي لا يبالي أن يرضى بما ينافي الحمد كقبول الرديء الذي يدل على عدم التعظيم والاحترام.
وأما نوع ما ينفق فهو بعض ما يجنيه المرء بعمله ككسب الفعلة والتجار والصناع وبعض ما يخرج من الأرض من غلات الحبوب وثمرات الشجر والمعادن والركاز، وهو ما كان دفن في الأرض قبل الإسلام. وقد أسند إليه تعالى ما يخرج من الأرض مع أن للإنسان فيه كسبا لأن العمدة فيه فضل الله تعالى لا مجرد حرث الإنسان وبزره، على أن منه ما ليس للناس فيه عمل ما، أو ما لهم فيه إلا عمل قليل لا يكاد يذكر. قال بعضهم إن تقديم الكسب على ما يخرج الله من الأرض يدل على تفضيله ويعضده حديث البخاري مرفوعا "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده" واختلفوا في الإنفاق هنا. فقيل هو خاص بالزكاة المفروضة وقيل خاص بالتطوع، وقيل يعمهما وهو الصواب. إذ لا دليل على التخصيص.
واختلف الذين قالوا إن الآية في الزكاة المفروضة هل تجب الزكاة في كل ما يخرجه الله للناس من الأرض عملا بعموم اللفظ أم يخص ببعض ذلك. واختلف القائلون بالتخصيص فقال بعضهم إنه خاص بما يقتات به دون نحو الفاكهة والبقول، وقال بعضهم غير ذلك. والآية في نفسها جلية واضحة لا مثار للخلاف فيها وإنما جاء الخلاف من حملها على زكاة الفريضة مع إضافة ما ورد من الروايات القولية في زكاة ما تخرج الأرض إليها. ومن جردها عن الآراء والروايات فهم منها أن الله تعالى يأمرنا بأن ننفق من كل ما ينعم به علينا من الرزق سواء كان سببه كسب أيدينا أو ما يخرجه لنا من نبات الأرض ومعادنها، كل ذلك فضل منه يجب شكره له بنفقة بعض الجيد منه في سبيله وابتغاء مرضاته. والآية لم تخصص ولم تعين مقدار ما ينفق بل وكلته إلى رغبة المؤمن في شكر الله تعالى فإن ورد دليل آخر يعين بعض النفقات فله حكمه.
أقول: لم يبق بعد هذا الترغيب والترهيب، والتعليم الكامل والتأديب، إلا أن يكون المؤمن بهذا الهدى أشد الناس رغبة في الصدقة والإنفاق في سبيل الله بحسب سعته وحاله وأن يكون في بذله مخلصا متحريا مواقع الفائدة مبتعدا بعد البذل عما يذهب بثمرته من المن والأذى. ولكنك تجد كثيرا من اللابسين لباس الإيمان يتقلبون في النعم وهم أشد الناس كفرا، إذ كانوا أشد الناس إمساكا وبخلا، وقد يعد هذا من مواطن العجب، ولكن الكتاب الحكيم قد جاءنا بما له من العلة والسبب، وأرشدنا إلى طريق التفصي منه والهرب، فقال: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب*}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة. ليبين نوعها وطريقتها، بعد ما بين آدابها وثمارها: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون. ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد}..
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته. فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث! وهو نداء عام للذين آمنوا -في كل وقت وفي كل جيل- يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم. تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول. ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال، ما كان معهودا على عهد النبي [ص] وما يستجد. فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان. وكله مما يوجب النص فيه الزكاة. أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك. وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير. وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب. فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان.
والخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ. والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار، فمنه ما يخرج بنفسه، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية.
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال. والحميد من أمثلة المبالغة، أي شديد الحَمد؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات. ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود، فيكون حَميد بمعنى مفعول، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه وتعالى الإنفاق الذي يعد برا، ويؤتي ثمراته في الدنيا والآخرة، وهو الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى لا ابتغاء تسهيل مطلب من مطالب الدنيا، ولا طلبا لجاه، ولا ملقا لذي جاه، ويشترط في ثواب الآخرة مع ذلك ألا يعقب العطاء منّ أو أذى، فلا يشعر المعطي من أعطاه بمنة العطاء، ويستكثر عليه ما أعطاه، ولا يؤذيه بإعلان عطائه أو توجيه كلمات مذلة، فحسبه أن يده هي الدنيا، ويد المعطي العليا، والنبي صلى الله عليه و سلم قال:"اليد العليا خير من اليد السفلى" فلا يصح أن يجمع عليه بين هذا الضعف مع المن وأذى الكشف والإعلان في مواطن لا يحسن الإعلان فيها... فقال تعالت كلماته: {يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} ابتدأ سبحانه بالنداء بالبعيد للدلالة على عموم النداء للمؤمنين في كل الأجيال من وقت البعث المحمدي إلى يوم القيامة، وكان النداء للمؤمنين لبيان أن من أخلاق أهل الإيمان أن يتصدقوا من الطيب لا من الخبيث، ومما تحبه النفس لا مما تزهد فيه، فليس من مقتضيات الإيمان في شيء أن يجيء الرجل إلى أخبث ماله أو الخبيث فينفق منه لزهادته فيه، ولرغبته عنه، وعدم الاتجاه إلى الانتفاع به، إذ لا يكون فيه معاناة لعمل الخير، ولا مصابرة في إرادته، ولا جهاد نفسي للحمل على الفعل، والأجر على قدر كف النفس عن الهوى، ومشقة الإرادة في التغلب عليه...
هذا هو المعنى الذي اختاره جمهور العلماء لهذا النص الكريم، وهو المعنى القويم الذي يتفق مع سياق الآية وموضوعها، ويزكيه قوله تعالى: {من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} فإن الكسب إذا ذكر مقرونا بما يلقيه سبحانه وتعالى في الأرض ويضعه لنا من نفائس في باطن الأرض، وزرع نضير، وغراس مثمر، إن هذا يدل حينئذ على أن المال كله حلال، وأنه يقصد إلى طيبه أو رديئه فينفق منه، فبين أن ذلك الكسب الحلال لا يتخير في الإنفاق منه إلا جيده، فلا تجعل حصة الفقير إلا أجوده، إن المال الذي كسبته رزقا حلالا: قسم هو حق الفقير والمسكين واليتيم وقد تولى الله عنهم مطالبتك به، وقسم هو لك ولأولادك ومن تعول...
وفي كل شيء صدقة، في المال المكسوب بالجهد صدقة، وفي المال الذي يخرج من الأرض صدقة، وفي العمل نفسه صدقة، فعلى الطبيب أن يجعل جزءا من عمله صدقة بأن يداوي المرضى، وعلى المدرس أن يجعل جزءا من عمله للصدقة بالإرشاد والتوجيه، وعلى الصانع أن يجعل جزءا من عمله صدقة كالإسهام بعمله في بناء مسجد أو مستشفى أو نحوهما، وهكذا ففي الآية الكريمة إشارة إلى كل هذا...
و بعض المفسرين لا يقصر ما تخرجه الأرض على الزرع والشجر، والحشائش التي يتغذى منها ذات الضرع وذات الحافر، بل يتجاوز إلى ما يكون في باطن الأرض من معادن وفلزات، وسواء مما تقوم عليه الثروات عند بعض الأمم، ومما صار أساس العمران في عصرنا الحاضر، فإن أولئك المفسرين الأجلاء أدخلوا ذلك في عموم قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} وإن ذلك صادق بلا ريب، وهو نظر مستقيم...
{واعلموا أن الله غني حميد} ختم سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية، وهي تتضمن التذكير بالله تعالى ذي الجلال والإكرام، وإشعارهم برقابته على أفعالهم وصدقاتهم، ولذا ذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة وخشيته سبحانه في النفوس؛ لأنه المعبود وحده، المسيطر على كل ما في الوجود وحده، وقد تضمنت الجملة وصف الله سبحانه وتعالى بوصفين كريمين مناسبين: أولهما: وصفه بأنه سبحانه غني، فمن يعطي الفقراء فهو يقرض غنيا يضاعف ما أقرض عند العطاء، وهو غني فلا يقبل إلا الجيد الذي يقدم بنفس سمحة، وبقلب مطمئن ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وهو الحميد، أي الذي يستحق أن يحمد، ولا يحمد سواه؛ لأنه المعطي الوهاب، فهو الذي وهب الغني غناه، واختبر الفقير بفقره، وكان حقا على من أعطاه أن يحمده، والحمد أن يجود من ماله سمحا في جوده، قاصدا إلى الطيب من ماله يجود به، فإن خالف ذلك فقد أخطأ مرتين: مرة لأنه لم يقرض الله قرضا حسنا، وهو الغني المعطي، ومرة ثانية، لأنه أخل بواجب الحمد، فالاعتراف بالنعمة للمنعم كان يوجب عليه أن يعطي خير ما في يده، ورجاء الثواب، ورجاء دوام هذه النعمة، كان يوجب عليه مضاعفة العطاء، لا تحري البخس منه...
إن هذه الآية تعطي صورا تحدث في المجتمع البشري. وكانت هذه الصور تحدث في مجتمع المدينة بعد أن أسس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام. فبعض من الناس كانوا يحضرون العذق من النخل ويعلّقه في المسجد من أجل أن يأكل منه من يريد، والعذق هو فرع قوي من النخل يضم الكثير من الفروع الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح. وكان بعضهم يأتي بعذق غير ناضج أو بالحَشَف وهو أردأ التمر، فأراد الله أن يجنبهم هذا الموقف، حتى لا يجعلوا لله ما يكرهون، فأنزل هذا القول الحكيم: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم}... لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا بهذه الصور أوجه الإنفاق:
- إن النفقة لا تنقص المال وإنما تزيده سبعمائة مرة.
- إن النفقة لا يصح أن يبطلها الإنسان بالمن والأذى.
- إن القول المعروف خير من الصدقة المتبوعة بالمن أو الأذى.
- إن الإنفاق لا يكون رئاء الناس إنما يكون ابتغاءً لمرضاة الله.
هذه الآيات الكريمة تعالج آفات الإنفاق سواءً آفة الشُّح أو آفة المن أو الأذى، أو الإنفاق من أجل التظاهر أمام الناس، أو الإنفاق من رديء المال...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
القرآن يخطط للإنفاق: النوعية والمورد والكيفية وهذه جولة جديدة في تفاصيل المفهوم الإسلامي للإنفاق من حيث نوعية المال الذي ينفقه الإنسان، والأشخاص الذين يستحقون ذلك، ومن حيث جانب السرّ والعلانية في الإنفاق. فإن الحديث في مثل هذه الأمور يوحي بالخط المستقيم الذي ينبغي للمؤمن أن يسير عليه من أجل أن يكون منتجاً في طبيعته وغايته...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الأموال التي يمكن إنفاقها: شرحت الآيات السابقة ثمار الإنفاق وصفات المنفقين والأعمال التي قد تبطل أعمال الإنفاق الإنسانية في سبيل الله. وهذه الآية تبيّن نوعيّة الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل الله. في بداية الآية يأمر الله المؤمنين أن ينفقوا {من طيبات} أموالهم. و «الطيب» في اللغة هو الطاهر النقي من الناحية المعنوية والمادّية، أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حلّيتها. ويؤيّد عمومية الآية الروايتان المذكورتان في سبب النزول. كما انّ جملة {لستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه} أي أنكم أنفسكم لا تأخذون غير الطيّب من المال إلاَّ إذا أغمضتم أعينكم كارهين، دليل على أنّ المقصود ليس الطهارة الظاهريّة فقط، لأنّ المؤمنين لا يقبلون مالاً تافهاً ملوّثاً في ظاهره، كما لا يقبلون مالاً مشبوهاً مكروهاً إلاَّ بالإكراه والتغاضي...
لا شكّ أنّ الإنفاق في سبيل الله هو من أجل نيل القرب من ساحته المقدّسة، وعندما يريد الناس التقرّب إلى السلاطين وأصحاب النفوذ فإنّهم يقدّمون إليهم هدايا من أفضل أموالهم وأحسن ثرواتهم، في حين أنّ هؤلاء السلاطين أناسٌ مثلهم فكيف يتقرّب الإنسان إلى ربّه وخالقه وربّ السموات والأرض بتقديم بعض أمواله الدنيئة هديّة؟ ! فما نرى في الأحكام الشرعيّة من وجوب كون الزكاة وحتّى الهديّ في الحجّ من المرغوب والجيّد يدخل في دائرة هذا الاعتبار. وعلى كلّ حال يجب الالتزام [بهذه التعاليم] ونشر هذه الثقافة القرآنية بين صفوف المسلمين في إنفاقهم الجيّد من الأموال...