معاني القرآن للفراء - الفراء  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

وقوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ . . . }

فُتِحت ( أن ) بعد إلاَّ وهي في مذهب جزاء . وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفضٍ يصلح . فإذا رأيت ( أن ) في الجزاء قد أصابها معنى خفضٍ أو نصب أو رفع انفتحت . فهذا من ذلك . والمعنى - والله أعلم - ولستم بآخذيه إلا على إغماض ، أو بإغماض ، أو عن إغماضٍ ، صفة غير معلومة . ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى : أو أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه . ومثله قوله : { إلا أن يخافا ألاَّ يقِيما حدودَ الله } ومثله { إلاَّ أن يعفون } هذا كلُّه جزاء ، وقوله { ولا تقولنَّ لِشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } ألا ترى أن المعنى : لا تقُلْ إني فاعل إلا ومعها إن شاء الله ؛ فلما قطعتْها ( إلا ) عن معنى الابتداء ، مع ما فيها من نيَّة الخافض فُتحت . ولو لم تكن فيها ( إلاَّ ) ترِكتْ على كسرتها ؛ من ذلك أن تقول : أحسِنْ إن قُبِل منك . فإن أدخلت ( إلاَّ ) قلت : أحسن إلا ألاَّ يقبل منك . فمثله قوله { وأن تعفوا أقربُ للتقوى } ، { وأن تصوموا خير لكم } هو جزاء ، المعنى : إن تصوموا فهو خير لكم . فلما أنْ صارت ( أن ) مرفوعة ب ( خير ) صار لها ما يُرافِعها إن فتحت وخرجت من حدّ الجزاء . والناصب كذلك .

ومثله من الجزاء الذي إذا وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عنه الجزم قولك : اضربه مَنْ كان ، ولا آتيك ما عشت . فمَن وما في موضع جزاء ، والفعل فيهما مرفوع في المعنى ؛ لأنَّ كان والفعل الذي قبله قد وقعا على ( مَن ) و ( ما ) فتغيَّر عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء ؛ قال الشاعر :

فلستُ مقاتِلا أبداً قُرَيشا *** مُصيبا رَغْم ذلك مَنْ أصابا

في تأويل رفع لوقوع مُصيب على مَنْ .

ومِثله قول الله عزَّ وجلَّ { وللّهِ على الناسِ حِجّ البيتِ منِ استطاع } إن جعلت ( مَنْ ) مردودة على خفض ( الناس ) فهو مِن هذا ، و( استطاع ) في موضع رفع ، وإن نويت الاستئناف بمَنْ كانت جزاء ، وكان الفعل بعدها جزما ، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه . وكذلك تقول في الكلام : أيُّهم يقم فاضرب ، فإن قدّمْتَ الضرب فأوقعته على أي قلت اضرب أيَّهم يقوم ؛ قال بعض العرب : فأيُّهم ما أخذها ركب على أيهم يريد . ومنه قول الشاعر :

فإني لآتيكم تشَكُّرَ ما مضى *** من الأمر واستجابَ ما كان في غد

لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول : كان في غد ؛ لأن ( كان ) إنما خُلِقتْ للماضي إلاَّ في الجزاء فإنها تصلح للمستقبل . كأنه قال : استيجاب أي شيء كان في غد .

ومِثل إنْ في الجزاء في انصرافها عن الكسر إلى الفتح إذا أصابها رافع قول العرب : ( قلت إنك قائم ) فإنّ مكسورة بعد القول في كل تصرّفه . فإذا وضعت مكان القول شيئا في معناه مما قد يحدِث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أنّ ، فقلت : ناديت أنك قائم ، ودعوت ، وصحت وهتفت . وذلك أنك تقول : ناديت زيدا ، ودعوت زيدا ، وناديت بزيد ، ( وهتفت بزيد ) فتجد هذه الحروف تنفرد بزيد وحده ؛ والقول لا يصلح فيه أن تقول : قلت زيدا ، ولا قلت بزيد . فنفذت الحكاية في القول ولم تنفُذ في النداء ؛ لاكتفائه بالأسماء . إلا أن يُضطرَّ شاعر إلى كسر إنَّ في النداء وأشباهه ، فيجوز له ؛ كقوله :

إني سأبدي لك فيما أُبدِي *** لي شَجَنان شَجَنٌ بنجد

*** وشَجَن لي ببلاد الهند ***

لو ظهرت إنّ في هذا الموضع لكان الوجه فتحها . وفي القياس أن تكسر ؛ لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول ، ويلزم مِن فتح أنّ لو ظهرت أن تقول : لي شجنين شجنا بنجد .

فإذا رأيت القول قد وقع على شيء في المعنى كانت أنّ مفتوحة . من ذلك أن تقول : قلت لك ما قلت أنك ظالم ؛ لأنّ ما في موضع نصب . وكذلك قلت : زيد صالح أنه صالح ؛ لأن قولك ( قلت زيد قائم ) في موضع نصب . فلو أردت أنْ تكون أنّ مردودة على الكلمة التي قبلها كَسَرتَ فقلت : قلت ما قلت : إن أباك قائم ، ( وهي الكلمة التي قبلها ) وإذا فتحت فهي سواها . قول الله تبارك وتعالى { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا } وإنا ، قد قرئ بهما . فمن فتح نوى أن يجعل أنّ في موضع خفض ، ويجعلها تفسيراً للطعام وسببه ؛ كأنه قال : إلى صبّنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا . ومن كسر نوى الانقطاع من النظر عن إنا ؛ كأنه قال : فلينظر الإنسان إلى طعامه ، ثم أخبر بالاستئناف .