الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

قوله تعالى : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } : في مفعولِ " أنفقوا " قولان ، أحدُهما : أنه المجرورُ ب " مِنْ " ، و " مِنْ " للتبعيض أي : أنفقوا بعضَ ما رزقناكم . والثاني : أنه محذوفٌ قامَتْ صفتُه مقامَه ، أي : شيئاً مِمَّا رزقناكم ، وتقدَّم له نظائرُ . و " ما " يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية . والعائد محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، أي : كَسَبتموه ، وأن تكونَ مصدريةً أي : من طيباتَ كَسْبكم ، وحينئذٍ لا بُدَّ من تأويلِ هذا المصدرِ باسمِ المفعولِ أي : مكسوبِكم ، ولهذا كان الوجهُ الأولُ أَوْلى .

و " مِمَّا اَخْرَجْنا " عطفٌ على المجرور ب " مِنْ " بإعادةِ الجارِ ، لأحدِ معنيين : إمَّا التأكيدِ وإمَّا للدلالةِ على عاملٍ آخرَ مقدرٍ ، أي : وأَنْفقوا مِمَّا أَخْرجنا . ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ ، أي : ومن طيباتِ ما أَخْرَجنا . و " لكم " متعلِّقٌ ب " أخرجنا " ، واللامُ للتعليلِ . و " مِنْ الأرض " متعلِّقٌ ب " أخرجنا " أيضاً ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية .

قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } الجمهورُ على " تَيَمَّموا " ، والأصلُ : تَتَيَمَّمُوا بتاءين ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً : إمَّا الأولى وإمَّا الثانيةُ ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ فيه عند قولِه : { تَظَاهَرُونَ } [ البقرة : 85 ] .

وقرأ البزي هنا وفي مواضع أُخَرَ بتشديدِ التاءِ ، على أنه أَدْغم التاءَ الأولى في الثانيةِ ، وجاز ذلك هنا وفي نظائِره ؛ لأنَّ الساكنَ الأول حرفُ لينٍ ، وهذا بخلاف قراءتِه { نَاراً تَلَظَّى } [ الليل : 14 ] { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ }

[ النور : 15 ] فإنه فيه جَمَعَ بين ساكنين والأولُ حرفٌ صحيحٌ ، وفيه كلامٌ أهلِ العربيةِ يأتي ذِكْرُه إن شاءَ اللهُ تعالى .

وقرأ ابن عباس والزهري " تُيَمِّمو " بضم التاء وكسر الميمِ الأولى وماضيه : يَمَّم ، فوزنُ " تُيَمِّموا " على هذه القراءة :تُفَعِّلوا من غيرِ حذفٍ ، ورُوي عن عبد الله " تُؤَمِّموا " من أَمَّمْتُ أي قَصَدْتُ .

والتيممُّ : القصدُ ، يقال : أَمَّ كردَّ ، وأَمَّمَ كأَخَّرَ ، ويَمَّم ، وتَيَمَّم بالتاء والياء معاً ، وتَأَمَّم بالتاء والهمزةِ ، وكلُّها بمعنَى قَصَدَ . وفَرَّق الخليلُ - رحمه الله - بينها بفروقٍ لطيفة فقال : " أَمَّمْتُه قَصَدْتُ أَمامه ، ويَمَّمْتُه : قصدْتُ . . . ويَمَّمْتُه : قصدتُه من أي جهة كان .

والخبيثُ والطيبُ : صفتانِ غالبتان لا يُذْكَر موصوفُهما : قال : { وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 157 ] ، قال عليه السلام : " مِنَ الخُبْث والخَبائث "

قوله : { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } " منه " متعلِّقٌ بتنفقون ، وتُنْفِقُون في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل { تَيَمَّمُواْ } أي : لا تَقْصِدوا الخبيث منفقين منه ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرةٌ ، لأن الإِنفاقَ منه يَقَعُ بعد القصد إليه ، قاله أبو البقاء وغيره . والثاني : أنها حالٌ من الخبيث ، لأن في الجملة ضميراً يعود إليه أي : لا تَقْصِدُوا مُنْفَقاً منه .

والثالث : أنه مستأنفُ ابتداءِ إخبارٍ بذلك ، وتَمَّ الكلامُ عند قولِه : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } ثم ابتدأ خبراً آخرَ ، فقال : تُنفقون منه وأنتم لا تأخذُونه إلا إذا أَغْمضتم ، كأن هذا عتابٌ للناسِ وتقريعٌ ، وهذا يَرُدُّه المعنى .

قوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } فيها قولان ، أحدُهما : أنها مستأنفة لا مَحَلَّ لها ، وإليه ذهب أبو البقاء . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، ويَظْهَرُ هذا ظهوراً قوياً عند مَنْ يرى أن الكلامَ قد تَمَّ عند قولِهِ : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } وما بعدَه استئنافٌ ، وقد تقدَّم تفسيرُ معناه .

والهاء في " بآخذِيه " تعودُ على " الخبيث " وفيها وفي نحوها من الضمائر المتصلةِ باسمِ الفاعلِ قولان مشهورانِ ، أحدُهما : أنها في محلِّ جر وإن كام محلُّهَا منصوباً لأنها مفعولٌ في المعنى . والثاني : - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصب ، وإنما حُذِفَ التنوينُ والنونُ في نحو : " ضاربيك " لِلَطافة الضمير ، ومذهبُ هشام أنه يجوز ثبوتُ التنوينِ مع الضميرِ ، فيجيز : " هذا ضارِبُنْك " بثبوتِ التنوين ، وقد يَسْتَدِلُّ لمذهبه بقوله :

همُ الفاعلونُ الخيرَ والآمِرُونه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله الآخر :

ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقد جَمَع بين النونِ النائبةِ عن التنوينِ وبين الضميرِ . ولهذه الأقوالِ أدلةٌ مذكورةٌ في كتبِ القومِ .

قوله : { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ } الأصلُ : إلاَّ بأَنْ ، فَحُذِف حرف الجر مع " أَنْ " فيجيءُ فيها القولان : أهي في محلِّ جر أم نصب ؟ وهذه الباءُ تتعلَّقُ " تُيَمِّموا " " بآخذيه " . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ " أَنْ " وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعاملُ فيها " أخِذيه " . والمعنى : لَسْتم بآخذِيه في حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ الإِغماضِ ، وقد تقدَّم أَنْ سيبويه لا يُجيز أن تقعَ " أَنْ " وما في حيِّزها موقعَ الحالِ . وقال الفراء : " المعنى على الشرطِ والجزاء ؛ لأنَّ معناه : إنْ أَغْمضتم أَخَذْتم ، ولكن لَمَّا وقعت " إلاَّ " على " أَنْ " فتحها ، ومثلُه : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } [ البقرة : 229 ] { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } [ البقرة : 237 ] . وهذا قولٌ مردودٌ عليه في كتبِ النحو .

والجمهورُ على " تُغْمِضوا " بضمِّ التاء وكسرِ الميمِ مخففةً من " أَغْمَض " وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه حُذِفَ مفعولُه ، تقديرُه : تُغْمِضُوا أبصارَكم أو بصائرَكم . والثاني : في معنى ما لا يتعدَّى ، والمعنى إلا أَنْ تُغْضُوا ، مِنْ قولهم : " أَغْضَى عنه " .

وقرأ الزهري : " تُغْمِّضوا " بضم التاءِ وفتحِ الغينِ وكسرِ الميمِ مشددةً ومعناها كالأولى . ورُوي عنه أيضاً " تَغْمَضوا " بفتحِ التاءِ وسكونِ الغَيْن وفتحِ الميمِ ، مضارعُ " غَمِضَ " بكسر الميم ، وهي لغةٌ في " أَغْمض " الرباعي ، فيكونُ ممَّا اتفق فيه فَعِل وأَفْعل . ورُوي عن اليزيدي " تَغْمُضوا " بفتحِ التاءِ وسكونِ الغينِ وضمِّ الميمِ . قال أبو البقاء : " وهو من غَمُضَ يَغْمُضُ كظَرُف يظرُفُ ، أي : خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه " .

ورُوي عن الحسن : " تُغَمِّضُوا " بضمِّ التاءِ وفتحِ الغَيْنِ وفتحِ الميمِ مشددةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . وقتادةُ كذلك إلا أنه خَفَّفَ الميم ، والمعنى :/ إلا أن تُحْمَلوا على التغافل عنه والمسامحِة فيه . وقال أبو البقاء في قراءةِ قتادة : " ويجوزُ أن يكونَ من أَغْمَضَ أي : صُودف على تلك الحالِ كقولِك : أَحْمَدْتُ الرجل أي : وَجَدْتُه محموداً " وبه قال أبو الفتح . وقيل فيها أيضاً : إنَّ معناها إلاَّ أَنْ تُدْخَلوا فيه وتُجْذَبوا إليه .