مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد } .

اعلم أنه رغب في الإنفاق ، ثم بين أن الإنفاق على قسمين : منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك .

ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين ، وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه .

ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } واختلفوا في أن قوله { أنفقوا } المراد منه ماذا فقال الحسن : المراد منه الزكاة المفروضة وقال قوم : المراد منه التطوع وقال ثالث : إنه يتناول الفرض والنفل ، حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة أن قوله { أنفقوا } أمر وظاهر الأمر للوجوب والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، حجة من قال المراد صدقة التطوع ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد : أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فأنزل الله هذه الآية ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بئس ما صنع صاحب هذا » فأنزل الله تعالى هذه الآية ، حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز ، وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل ، فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر .

إذا عرفت هذا فنقول : أما على القول الأول وهو أنه للوجوب فيتفرع عليه مسائل :

المسألة الأولى : ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان ، فيدخل فيه زكاة التجارة ، وزكاة الذهب والفضة ، وزكاة النعم ، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب ، ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض ، على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله ، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدا ، إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس في الخضراوات صدقة » وأيضا مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلا كان أو كثيرا وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة »

المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين :

القول الأول : أنه الجيد من المال دون الرديء ، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة ، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء .

والقول الثاني : وهو قول ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال ، والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه :

الحجة الأولى : إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد .

الحجة الثانية : أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض ، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله : ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء ، فيكون المعنى : ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال ، أمن حلاله أو من حرامه .

الحجة الثالثة : أن هذا القول متأيد بقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها ، لا الأشياء الخسيسة التي يجب على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته ، واحتج القاضي للقول الثاني فقال : أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال ، فإذا بطل الأول تعين الثاني ، وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمرا بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراما أو حلالا وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل ، فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال ، ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب ههنا ما يكون طيبا من كل الوجوه فيكون طيبا بمعنى الحلال ، ويكون طيبا بمعنى الجودة ، وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيبا لأنه يستطيبه العقل والدين ، والجيد إنما يسمى طيبا لأنه يستطيبه الميل والشهوة ، فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين ، فكان اللفظ محمولا عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول : الأموال الزكاتية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة ، فإن كان الكل شريفا كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك ، وإن كان الكل خسيسا كان الزكاة أيضا من ذلك الخسيس ولا يكون خلافا للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيسا من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء ، فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطا فالواجب هو الوسط قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن « أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم » هذا كله إذا قلنا المراد من قوله { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } الزكاة الواجبة ، أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع ، أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع ، فنقول : إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه ، كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية ، فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها ، فكذا ههنا ، بقي في الآية سؤال واحد ، وهو أن يقال ما الفائدة في كلمة { من } في قوله { ومما أخرجنا لكم من الأرض } .

وجوابه : تقدير الآية : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض ، إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه .

أما قوله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : يقال : أممته ، ويممته ، وتأممته ، كله بمعنى قصدته قال الأعشى :

تيممت قيسا وكم دونه *** من الأرض من مهمه ذي شرف

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وحده { ولا تيمموا } بتشديد التاء لأنه كان في الأصل تاءان تاء المخاطبة ، وتاء الفعل فأدغم إحداهما في الأخرى ، والباقون بفتح التاء مخففة وعلى هذا الخلاف في أخواتها ، وهي ثلاثة وعشرون موضعا : لا تفرقوا ، توفاهم ، تعاونوا ، فتفرق بكم ، تلقف ، تولوا ، تنازعوا ، تربصون ، فإن تولوا ، لا تكلم ، تلقونه ، تبرجن ، تبدل ، تناصرون ، تجسسوا ، تنابزوا ، لتعارفوا ، تميز ، تخيرون ، تلهى ، تلظى ، تنزل الملائكة ، وههنا بحثان :

البحث الأول : قال أبو علي : هذا الإدغام غير جائز ، لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به ، كما جلبت في أمثلة الماضي نحو : أدارأتم ، وارتبتم واطيرنا ، لكن أجمعوا على أن همزة الوصل لا تدخل على المضارع .

البحث الثاني : اختلفوا في التاء المحذوفة على قراءة العامة ، فقال بعضهم : هي التاء الأولى وسيبويه لا يسقط إلا الثانية ، والفراء يقول : أيهما أسقطت جاز لنيابة الباقية عنها .

أما قوله تعالى : { منه تنفقون } .

فاعلم أن في كيفية نظم الآية وجهين الأول : أنه تم الكلام عند قوله { ولا تيمموا الخبيث } ثم ابتدأ ، فقال : { منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } فقوله { منه تنفقون } استفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى : أمنه تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض والثاني : أن الكلام إنما يتم عند قوله { إلا أن تغمضوا فيه } ويكون الذي مضمرا ، والتقدير : ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه ولستم بآخذيه إلا بالإغماض فيه ، ونظيره إضمار التي في قوله تعالى : { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } [ البقرة : 256 ] والمعنى الوثقى التي لا انفصام لها .

أما قوله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : الإغماض في اللغة غض البصر ، وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض ، وهو الخفاء يقال : هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض .

المسألة الثانية : في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول : أن المراد بالإغماض ههنا المساهلة ، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا ، فقوله { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم والثاني : أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول : أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن .

ثم ختم الآية بقوله { واعلموا أن الله غني حميد } والمعنى أنه غني عن صدقاتكم ، ومعنى حميد ، أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر ، وهو أن قوله { غنى } كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و { حميد } بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله { فأولئك كان سعيهم مشكورا } .