فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

{ طيبات } حلال . { تيمموا } أصله تتيمموا أي تقصدوا .

{ الخبيث } الرديء . { تغمضوا } تطبقوا أجفان أعينكم .

{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } عهد الله تعالى إلى أهل الإيمان أن يزكوا ويتصدقوا من جياد وحلال ما جمعوا من رزق من نقد وعروض تجارة وأجر صنعة ومواش مثلما أمرهم في آية سبقت من هذه السورة أن يطعموا ويلبسوا ويمتلكوا الحلال الخير فقال تقدست أسماؤه { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم . . . }{[822]} ، { ومما أخرجنا لكم من الأرض } فكأن المعنى وأنفقوا أيها المؤمنون وزكوا وتصدقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض من حب وثمرات ومعادن وركاز وغير ذلك ؛ والأمر { أنفقوا } قد يحمل على الوجوب فينصرف إلى ما يخرج في الزكاة والنفقات الواجبة لا يقبل فيها إلا ما كان سليما من العيوب وقيل محمول على الندب رغبنا سبحانه في تحري الجيد حين نبذل قال بالرأي الأول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإلى الثاني ذهب البراء والحسن وقتادة ، مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : والآية تعم الوجهين لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب ولأنه نهى عن الرديء ، وذلك مخصوص بالفرض ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم خير من تمرة ؛ تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افعل صالح للندب صلاحيته للفرض ، والرديء منهي عنه في النفل كما هو منهي عنه في الفرض والله أحق من اختبر له . 1ه . { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون {[823]} ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } عن البراء رضي الله تعالى عنه : لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء ، ومما أورد ابن جرير : فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه . . . والصدقة قربان المؤمن فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد لأن مادون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته أو لعظم خطره وأحسن موقعا من المسكين وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل من الجيد لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه . . { واعلموا أن الله غني حميد } . . . غني عن صدقاتكم وعن غيرها إنما أمركم بها وفرضها في أموالكم رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم ويقوي بها ضعيفكم ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم لا من حاجة به فيها إليكم ، ويعني بقوله { حميد } أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه وبسط لهم من فضله . . .


[822]:من الآية 172.
[823]:روى الترمذي عن البراء بن عازب قال: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام [أهل الصفة: فقراء من الصحابة كانوا يسكنون صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزلون الصفة فور قدومهم مهاجرين ريثما يتخذون المنزل فيتحولون، فكأن الصفة كالنزل في المدينة، ومنهم من يتفرغ لطلب العلم وللجهاد في سبيل الله، ولم يكونوا كما قال البعض: كانوا ينتظرون من يتصدق عليهم]. فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فسقط البسر والتمر فيأكل وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء قال فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.