معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

قوله تعالى : { ولو كره الكافرون رفيع الدرجات } رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة { ذو العرش } خالقه ومالكه { يلقي الروح } ينزل الوحي سماه وحياً ، لأنه تحيا به القلوب ، كما تحيا الأبدان بالأرواح { من أمره } قال ابن عباس : من قضائه . وقيل : من قوله ، وقال مقاتل : بأمره { على من يشاء من عباده لينذر } أي : لينذر النبي بالوحي { يوم التلاق } وقرأ يعقوب بالتاء ، أي : لتنذر أنت يا محمد يوم التلاقي يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض . وقال قتادة ، ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق ، قال ابن زيد : يتلاقى العباد ، وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم ، والخصوم . وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون ، وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

ثم ذكر من جلاله وكماله ما يقتضي إخلاص العبادة له فقال : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } أي : العلي الأعلى ، الذي استوى على العرش واختص به ، وارتفعت درجاته ارتفاعًا باين به مخلوقاته ، وارتفع به قدره ، وجلت أوصافه ، وتعالت ذاته ، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي الطاهر المطهر ، وهو الإخلاص ، الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه ، ثم ذكر نعمته على عباده بالرسالة والوحي ، فقال : { يُلْقِي الرُّوحَ } أي : الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد ، فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش ، فالروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح ، فهو تعالى { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ } الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم .

{ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الرسل الذين فضلهم الله واختصهم الله لوحيه ودعوة عباده .

والفائدة في إرسال الرسل ، هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، وإزالة الشقاوة عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ } من ألقى الله إليه الوحي { يَوْمَ التَّلَاقِ } أي : يخوف العباد بذلك ، ويحثهم على الاستعداد له بالأسباب المنجية مما يكون فيه .

وسماه { يوم التلاق } لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض ، والعاملون وأعمالهم وجزاؤهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

ثم يذكر - سبحانه - بعد ذلك من صفاته العظمى ، ما يزيد المؤمنين فى إخلاص العبادة له ، فيقول : { رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش . . } أى : هو - تعالى - وحده صاحب الرفعة والمقام العالى ، وهو وحده صاحب العرش العظيم ، الذى لا يعلم مقدار عظمته إلا هو . .

قال الآلوسى قوله : { رَفِيعُ الدرجات } رفيع صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رُفِعَ الشئ إذا علا . . والدرجات : مصاعد الملائكة إلى أن يبلغوا العرش ، أى : رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه . . ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنه وسلطانه - عز شأنه - كما أن قوله - تعالى - : { ذُو العرش } كناية عن ملكه - جل جلاله - .

والمراد بالروح فى قوله - تعالى - : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } : الوحى الذى يوحى به على أنبيائه ، وأمين هذا الوحى جبريل - عليه السلام - .

أى : هو وحده - سبحانه - الذى يلقى الوحى . حالة كون هذا الوحى ناشئا من أمره وقضائه على من يختاره لهذا الإِلقاء من عباده الصالحين . فقوله { مِنْ أَمْرِهِ } متعلق بمحذوف حال من الروح .

وسمى الوحى روحا ، لأن الأرواح تحيا به ، كما أن الأجساد تحيا بالغذاء .

وقوله - تعالى - : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } بيان للوظيفة الخاصة بمن يختاره - سبحانه - من عباده لإِلقاء الوحى عليه .

والإِنذار : الإِعلام المقترن بالتخويف والتحذير ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذاراً .

والمراد بيوم التلاق : يوم القيامة ، وسمى بيوم التلاق لأنه يتلاقى فيه الأولون والآخرون والمؤمنون والكافرون ، والظالمون والمظلومون . . الكل يتلاقى فى ساحة المحشر ليقضى الله - تعالى - فيهم بقضائه العادل .

أى : يلقى - سبحانه - بوحيه على أنبيائه ، لينذروا الناس ويحذروهم من سوء العذاب يوم القيامة ، إذا ما استمروا فى كفرهم وعصيانهم لخالقهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون . يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه :

( رفيع الدرجات ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) . .

فهو - سبحانه - وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي . وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده . وهذا كناية عن الوحي بالرسالة . ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولاً حقيقة هذا الوحي ، وأنه روح وحياة للبشرية ، ويبين ثانيا أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد . . وكلها ظلال متناسقة مع صفة الله ( العلي الكبير ) . .

فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره ، فهي الإنذار :

( لينذر يوم التلاق ) . .

وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعاً . ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا . ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

يقول تعالى [ مخبرا ] {[25460]} عن عظمته وكبريائه ، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها ، كما قال تعالى : { مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [ فَاصْبِرْ ] } [ المعارج : 3 ، 4 ] ، {[25461]} وسيأتي بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة ، في قول جماعة من السلف والخلف ، وهو الأرجح إن شاء الله [ تعالى ] {[25462]} . وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء ، اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة . وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة . وقد تقدم في حديث " الأوعال " ما يدل على ارتفاعه عن {[25463]} السموات السبع بشيء عظيم .

وقوله : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } كقوله تعالى : { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا [ فَاتَّقُونِ ] } [ النحل : 2 ] {[25464]} ، وكقوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . [ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين ] } [ الشعراء : 192 - 194 ] {[25465]} {[25466]} ؛ ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ التَّلاقِ } اسم من أسماء يوم القيامة ، حذر منه عباده .

وقال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : يلتقي فيه آدم وآخر ولده .

وقال ابن زيد : يلتقي فيه العباد .

وقال قتادة ، والسدي ، وبلال بن سعد ، وسفيان بن عيينة{[25467]} : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض .

وقال قتادة أيضا : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق .

وقال مَيْمون بن مِهْران : يلتقي [ فيه ]{[25468]} الظالم والمظلوم .

وقد يقال : إن يوم القيامة {[25469]} هو يشمل هذا كله ، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمل من خير وشر . كما قاله آخرون .


[25460]:- (1) زيادة من ت، س، أ.
[25461]:- (2) زيادة من ت.
[25462]:- (3) زيادة من ت.
[25463]:- (4) في ت، س: "من".
[25464]:- (5) في س: "فاعبدوه" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
[25465]:- (6) في ت: "إنه" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
[25466]:- (7) زيادة من ت
[25467]:- (8) في ت: "قتادة وغيره".
[25468]:- (9) زيادة من أ.
[25469]:- (1) في ت، س: "التلاق".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

وقوله تعالى : { رفيع الدرجات } صفاته العلى ، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين ، ويحتمل أن يريد ب { رفيع الدرجات } التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنة . و : { العرش } هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض .

وقوله تعالى : { يلقي الروح } قال الضحاك : { الروح } هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل . وقال قتادة والسدي : { الروح } النبوءة ومكانتها كما قال تعالى : { روحاً من أمرنا }{[9972]} ويسمى هذا روحاً لأنه يحيي به الأمم والأزمان كما يحيي الجسد بروحه ، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاماً لكل ما ينعم الله به على عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة . والمنذر على هذا التأويل : هو الله تعالى . قال الزجاج : { الروح } : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال كالميت .

وقوله : { من أمره } إن جعلته جنساً للأمور ف { من } للتبعيض أو لابتداء الغاية ، وإن جعلنا الأمر من معنى الكلام : ف { من } إما لابتداء الغاية ، وإما بمعنى الباء ، ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ أبي بن كعب : وجماعة : «لينذِر » بالياء وكسر الذال ، وفي الفعل ضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على { الروح } ، ويحتمل أن يعود على { من } في قوله : { من يشاء } . وقرأ محمد بن السميفع اليماني : «لينذَر » بالياء وفتح الذال ، وضم الميم من «يومُ » وجعل اليوم منذراً على الاتساع . وقرا جمهور الناس : «لتنذر » بالتاء على مخاطبة محمد عليه السلام ، ويومَ «بالنصب .

وقرأ أبو عمرو ونافع وجماعة : » التلاق «دون ياء . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعيسى ويعقوب : » التلاقي «بالياء ، والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في { التنادي }{[9973]} ، ومعناه : تلاقي جميع العالم بعضهم ببعض ، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم ، وقال السدي : معناه : تلاقي أهل السماء وأهل الأرض ، وقيل معناه تلاقي الناس مع بارئهم ، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفاً ، وقيل يلتقي المرء وعمله .


[9972]:من الآية (52) من سورة (الشورى).
[9973]:من الآية (32) من هذه السورة. ونلحظ أنه لم يمر، بل سيأتي.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

{ رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } .

{ رفيعُ الدرجات } خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله : { فادعوا الله } [ غافر : 14 ] وليس خبراً ثانياً بعد قوله : { هُو الَّذي يُريكم آياته } [ غافر : 13 ] لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتِّبَاع للاستعمال في حذف مثله ، كذا سماه السكاكي بعد أن يَجري من قبل الجملة حديثٌ عن المحذوف كقول عبد الله بن الزَّبِير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب :

سأَشكُر عَمْراً إِنْ تَراختْ منيتــي *** أَيَـــادِيَ لَم تُمْنَنْ وإنْ هِيَ جَلَّتِ

فَتًى غير محجوب الغِنى عن صديقه *** ولا مُظْهِرا للشكوى إذا النعل زَلّت

و { رفيع } يجوز أن يكون صفة مشبهة . والتعريف في { الدرجات } عوض عن المضاف إليه . والتقدير : رفيعةٌ درجاتُه ، فلما حُول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفاً لذاته سلك طريق الإضافة وجُعلت الصفة المشبهة خبراً عن ضمير الجلالة وجعل فاعل الصفة مضافاً إليه ، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال : فلان حسنٌ فعلُه ، ويقال : فلان حسَنُ الفعل ، فيؤُول قوله : { رَفِيعُ الدَّرَجات } إلى صفة ذاته .

و { الدرجات } مستعارة للمجد والعظمة ، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر ، والمعنى : أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه . ويجوز أن يكون { الكافرون } من أمثلة المبالغة ، أي كثير رفععِ الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى : { نرفع درجات من نشاء } [ يوسف : 76 ] . وإضافته إلى { الدرجات } من الإِضافة إلى المفعول فيكون راجعاً إلى صفات أفعال الله تعالى .

والمقصود : تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } في سورة [ المجادلة : 11 ] .

( و { ذُو العَرْش } خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت .

كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل : إن الذي رفع السماوات ورفع العرش مَاذَا تُقَدِّرون رَفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم .

وجملة { يُلْقِي الرُّوح مِن أمْرِه } خبر ثالث ، أو بدلُ بعض من جملة { رَفِيعُ الدرجات } فإن مِنْ رفع الدرجات أَنْ يرفع بعض عِباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عِباده ، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه .

والإِلقاء : حقيقته رميُ الشيء من اليد إلى الأرض ، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب ، وكثر هذا في القرآن ، قال : { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم } [ النحل : 86 ، 87 ] . واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض .

والروح : الشريعة ، وحقيقة الروح : ما به حياة الحيّ من المخلوقات ، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحْي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم ، فكما تستعار الحياة للإِيمان والعِلممِ ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة ، ويطلق الروح على المَلَك قال : { فأرسلنا إليها روحَنا فتمثل لها بشراً سويا } [ مريم : 17 ] .

و { مِنْ } ابتدائية في { مِن أمْرِهِ } ، أي بأمره ، فالأمر على ظاهره . ويجوز أن تكون { من } تبعيضية ظرفاً مستقراً صفة { الروح } أي بَعْضَ شؤونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن ، أي الشؤون العجيبة ، وقيل : { من } بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد .

وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله : { فادعوا الله مخلصين له الدين } [ غافر : 14 ] ثم أُعقب بقوله : { رفيع الدرجات } فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات ، ثم أعقب بقوله : { يُلقِي الرُّوح من أمرِه } فجيء بفعل الإِلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة { مَن يَشاء مِن عِباده } ، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] . وهذا يرتبط بقوله في أول السورة [ 2 ] { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين } فأمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعاً على إنزال الكتاب إليه ، وجاء في شأن الناس بقوله : { فادعوا الله مُخْلِصين } [ غافر : 14 ] ثم أعقبه بقوله : { رَفِيع الدرجات } .

وقد ضَرب لهم العرشَ والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء ، وفيه تعريض بتسفيه المشركين { فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه } [ القمر : 24 ] ، { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] و { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] .

وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى : { ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم } [ غافر : 12 ] الخ .

والإِنذار : إِخبار فيه تحذير مما يسوء ، وهو ضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة . وفعله المجرد : نَذِر كعلم ، يقال : نَذِر بالعدوّ فحَذِره . والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد ، وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد ، وأن يتعدى إلى الأمر المخبَر به بالباء ، يقال : أنذرتُهم بالعَدوّ ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن ، وأما قوله في أول [ الأعراف : 2 ] { لتنذر به } فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية . وضمير به عائداً إلى الكتاب .

والضمير المستتر في { لينذر } عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { فادعوا الله } [ غافر : 14 ] ، والأحسن أن يعود على { مَن } الموصولة لينذر من ألقَى عليه الروحَ قومَه ، ولأن فيه تخلصاً إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإِنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجِّح لإِظهار اسم الجلالة في قوله : { لا يخفى على الله منهم شيء } كما سيأتي .

و { يوم التَلاَقي } هو يوم الحشر ، وسمي يوم التلاقي لأن الناس كلهم يلتقون فيه ، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازياً ، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى : { الذين لا يرجون لقاءنا } [ يونس : 7 ] أي لا يرجُون يوم الحشر . وانتصبَ { يوم التلاقي } على أنه مفعول ثان ل { ينذر } ، وحذف المفعول الأول لظهوره ، أي لينذر الناسَ . وبَين { التَّلاَقي } و { يُلْقي } جناس .

وكتب { التَّلاَقي } في المصحف بدون ياء . وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء . وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح الياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع . وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعاً .