قوله تعالى : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } ، فآتي منها ما تطلبون ، { ولا أعلم الغيب } ، فأخبركم بما تريدون وقيل : إنهم لما قالوا لنوح : إن الذين آمنوا بك إنما اتبعوك في ظاهر ما ترى منهم ، قال نوح مجيبا لهم : ولا أقول لكم : عندي خزائن غيوب الله ، التي يعلم منها ما يضمر الناس ، ولا أعلم الغيب ، فأعلم ما يسترونه في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم ، { ولا أقول إني ملك } ، هذا جواب قولهم : { ما نراك إلا بشرا مثلنا } . { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } ، أي : تحتقره وتستصغره أعينكم ، يعني : المؤمنين ، وذلك أنهم قالوا : هم أراذلنا ، { لن يؤتيهم الله خيراً } أي : توفيقا وإيمانا وأجرا ، { الله أعلم بما في أنفسهم } ، من الخير والشر مني ، { إني إذا لمن الظالمين } ، لو قلت هذا .
{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } أي : غايتي أني رسول الله إليكم ، أبشركم ، وأنذركم ، وأما ما عدا ذلك ، فليس بيدي من الأمر شيء ، فليست خزائن الله عندي ، أدبرها أنا ، وأعطي من أشاء ، وأحرم من أشاء ، { وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } فأخبركم بسرائركم وبواطنكم { وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } والمعنى : أني لا أدعي رتبة فوق رتبتي ، ولا منزلة سوى المنزلة ، التي أنزلني الله بها ، ولا أحكم على الناس ، بظني .
{ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ } أي : ضعفاء المؤمنين ، الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا { لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } فإن كانوا صادقين في إيمانهم ، فلهم الخير الكثير ، وإن كانوا غير ذلك ، فحسابهم على الله .
{ إِنِّي إِذًا } أي : إن قلت لكم شيئا مما تقدم { لَمِنَ الظَّالِمِينَ } وهذا تأييس منه ، عليه الصلاة والسلام لقومه ، أن ينبذ فقراء المؤمنين ، أو يمقتهم ، وتقنيع لقومه ، بالطرق المقنعة للمنصف .
ثم أخذ نوح - عليه السلام - فى تفنيد شبهاتهم ، وفى دحض مفترياتهم ، وفى تعريفهم بحقيقة أمره فقال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ . . . }
والخزائن : جمع خزانة - بكسر الخاء - وهو المكان الذى يخزن فيه الماء أو الطعام أو غيرهما خشية الضياع ، والمراد منها هنا : أنواع رزقه - سبحانه - التى يحتاج إليها عباده ، وأضيفت إليه - سبحانه - لاختصاصه بها . وملكيته لها .
أى : إنى لا أقول لكم إن النبوة التى وهبنى الله إياها ، تجعلنى أملك خزائن أرزاقه - سبحانه - فأصير بذلك من الأثرياء ، وأعطى من أشاء بغير حساب . . .
كلا . إنى لا أملك شيئا من ذلك ، وإنما أنا عبد الله ورسوله ، أرسلنى لأخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان .
وهذه الجملة الكريمة رد على قولهم السابق ! { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } وأيضا لا أقول لكم إنى أعلم الغيوب التى اختص الله بعلمها ، فأدعى قدرة ليست للبشر ، أو أزعم أن لى صلة بالله - تعالى - غير صلة النبوة - أو أدعى الحكم على قلوب الناس وعلى منزلتهم عند الله ، كما ادعيتم أنتم فقلتم { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } ولم يكتف نوح - عليه السلام - بهذا الرد المبطل لدعاواهم الفاسدة ، بل أضاف إلى ذلك - كما حكى القرآن عنه - { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين } .
وقوله : { تزدري } من الازدراء بمعنى التحقير والانتقاص ، يقال : ازدرى فلان فلانا إذا احتقره وعابه .
أى : أنا لا أقول لكم بأنى أملك خزائن الله ، أو بأنى أعلم الغيب ، أو بأنى ملك من الملائكة ، ولا أقول لكم - أيضا - فى شأن الذين تنظرون إليهم نظرة احتقار واستصغار : إنهم - كما تزعمون - { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً } يسعدهم فى دينهم ودنياهم وآخرتهم ، بل أقول لكم إنه - سبحانه - سيؤتيهم ذلك - إذا شاء - لأنه - سبحانه - هو الأعلم بما فى نفوسهم من خير أو شر - أما أنا فلا علم لى إلا بظواهرهم التى تدل على إيمانهم وإخلاصهم ؛ و { إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين } لنفسى ولغيري إذا ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوى .
قال البيضاوى ما ملخصه ، وأسند - سبحانه - الازدراء إلى الأعين فى قوله { تزدري أَعْيُنُكُمْ } للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادى الرؤية - أى بمجرد نظرهم إليهم - من غير روية بسبب ما عينوه من رثاثة حالهم وقلة منالهم ، دون نأمل فى معانيهم وكمالاتهم .
وهذا الإِسناد من باب المجاز العقلى ، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة " فى نظر الناظر " فتكون الأعين سببا فى هذا الازدراء .
وأكد جملة { إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين } بعدة مؤكدات ، تحقيقا لظلم كل من يدعى شيئا من هذه الدعاوى ، وتكذيبا لأولئك الكافرين الذين احتقروا المؤمنين ، وزعموا أن الله - تعالى - لن يؤتيهم خيرا .
وهكذا نجد نوحا - عليه السلام - يشرح لقومه بأسلوب مهذب حكيم حقيقة أمره ، ويرد على شبهاتهم بما يزهقها . . .
ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة . يقدمها لهم في معرض التذكير ، ليقرر لهم القيم الحقيقية ، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية ، بتخليه عنها ، وتجرده منها . فمن شاء الرسالة كما هي ، بقيمها ، بدون زخرف ، بدون ادعاء ، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله :
( ولا أقول لكم عندي خزائن الله . . )
فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء . . .
فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بالله غير صلة الرسالة . .
فأدعي صفة أعلى من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم ، وأفضل نفسي بذاتي عليكم .
( ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا ) . .
إرضاء لكبريائكم ، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية .
( الله أعلم بما في أنفسهم ) . .
فليس لي إلا ظاهرهم ، وظاهرهم يدعو إلى التكريم ، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيرا . .
إن ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوي . الظالمين للحق وقد جئت أبلغه ؛ والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله ؛ والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله .
وهكذا ينفي نوح - عليه السلام - عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة . ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية . ويردهم في نصاعة الحق وقوته ، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها ، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها . بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة . فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعا ، نموذجا للداعية ، ودرسا في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد ، دون استرضاء لتصوراتهم ، ودون ممالأة لهم ، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس !
يخبرهم أنه رسول من الله ، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، بإذن الله له في ذلك ، ولا يسألهم على ذلك أجرا ، بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع ، فمن استجاب له فقد نجا . ويخبرهم{[14574]} أنه لا يَقدِر على التصرف في خزائن الله ، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه ، وليس هو بمَلك من الملائكة ، بل بشر مرسل ، مؤيد بالمعجزات . ولا أقولُ عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم{[14575]} : إنه{[14576]} ليس لهم عند الله ثواب على إيمانهم الله أعمل بما في أنفسهم ، فإن كانوا مؤمنين باطنًا ، كما هو الظاهر من حالهم ، فلهم جزاء الحسنى ، ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا ، لكان ظالما قائلا ما لا علم له به .
قوله : { ولا أقول } عطف على قوله : { لا أسألكم عليه مالاً } [ هود : 29 ] ، ومعنى هذه الآية : أني لا أموه عليكم ولا أتعاطى غير ما أهلني الله له ، فلست أقول { عندي خزائن الله } ، يريد القدرة التي يوجد بها الشيء بعد حال عدمه ، وقد يمكن أن يكون من الموجودات كالرياح والماء ، ونحوه ما هو كثير بإبداع الله تعالى له{[6313]} ، فإن سمي ذلك - على جهة التجوز - مختزناً فيشبه . ألا ترى ما روي في أحمر ريح عاد أنه فتح عليهم من الريح قدر حلقة الخاتم ، ولو كان على قدر منخر الثور لأهلك الأرض . وروي أن الريح عتت على الملائكة الموكلين بتقديرها فلذلك وصفها الله تعالى بالعتو ، وقال ابن عباس وغيره : عتت على الخزان . فهذا ونحوه يقتضي أن ثم خزائن . ثم قال : { ولا أعلم الغيب } ، ثم انحط على هاتين فقال { ولا أقول إني ملك } ، ظاهر هذه الآية فضل الملك على البشر وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلاف . وظواهر القرآن على ما قلناه .
قال القاضي أبو محمد : وإن أخذنا قوله { ولا أقول إني ملك } على حد أن لو قال : ولا أقول إني كوكب أو نحوه - زالت طريقة التفضيل ، ولكن الظاهر هو ما ذكرنا .
و { تزدري } أصله تزتري ( تفتعل ) من زرى يزري{[6314]} ؛ ومعنى { تزدري } : تحتقر . و «الخير » هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة ، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر ، فيكون الخير المال ؛ وقد قال بعض المفسرين : حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام تحامل ، والذي يشبه أن يقال : إنه حيثما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه .
وقوله { الله أعلم بما في أنفسهم } تسليم لله تعالى ، أي لست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما يحكم عليهم بذلك ويخرج حكمه إلى حيز الوجود ، الله تعالى الذي يعلم ما في نفوسهم ويجازيهم بذلك ، وقال بعض المتأولين : هي رد على قولهم : اتبعك أراذلنا على ما يظهر منهم .
قال القاضي أبو محمد : حسبما تقدم في بعض تأويلات تلك الآية آنفاً ، فالمعنى لست أنا أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير بظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم ، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم ، ثم قال : { إني إذاً } لو فعلت ذلك { لمن الظالمين } الذين يضعون الشيء في غير موضعه .