قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } . يعني اليهود سموا به لقولهم : ( إنا هدنا إليك ) أي ملنا إليك ، وقيل : لأنهم هادوا أي تابوا عن عبادة العجل ، وقيل : لأنهم مالوا عن دين الإسلام ، وعن دين موسى عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون : إن السماوات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة .
قوله تعالى : { والنصارى } . سموا به لقول الحواريين : ( نحن أنصار الله ) ، وقال مقاتل : لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة ، لاعتزائهم إلى نصرة . وهي قرية كان ينزلها بعيسى عليه السلام .
قوله تعالى : { والصابئين } . قرأ أهل المدينة : والصابين والصابون بترك الهمزة والباقون بالهمزة ، وأصله : الخروج ، يقال : صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر ، وصبأت النجوم إذا خرجت من مطالعها ، وصبأ ناب البعير إذا خرج ، فهؤلاء سموا به لخروجهم من دين إلى دين .
قال عمر بن الخطاب وابن عباس : هم قوم من أهل الكتاب ، قال عمر : تحل ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب ، وقال ابن عباس : لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم ، وقال مجاهد : هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس ، وقال الكلبي : هم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم ، وقال قتادة : هم قوم يقرون بالله ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الكعبة ، أخذوا من كل دين شيئاً ، قال عبد العزيز بن يحيى : انقرضوا .
قوله تعالى : { من آمن بالله واليوم الآخر } . فإن قيل : كيف يستقيم قوله ( من آمن بالله ) وقد ذكر في ابتداء الآية ( إن الذين آمنوا ) ، قيل : اختلفوا في حكم الآية فقال بعضهم : أراد بقوله ( إن الذين آمنوا ) على التحقيق ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين فقال قوم : هم الذين آمنوا قبل المبعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار ، وقس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، والبراء الشني ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وبحيرا الراهب ، ووفد النجاشي ، فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ، ومنهم من لم يدركه . وقيل : هم المؤمنون من الأمم الماضية ، وقيل : هم المؤمنين من هذه الأمة ( والذين هادوا ) الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ، ولم يبدلوا ، ( والنصارى ) ، الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يغيروا وماتوا على ذلك . قالوا : وهذان الاسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام حيث كانوا على الحق ، كالإسلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والصابئون زمن استقامة أمرهم ( من آمن ) أي من مات منهم وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان بالموافاة ، ويجوز أن يكون الواو مضمراً . أي : ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة ، وقال بعضهم : إن المذكورين بالإيمان في أول الآية على طريق المجاز دون الحقيقة ، ثم اختلفوا فيهم فقال بعضهم : الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل : أراد بهم المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، واليهود والنصارى الذين اعتقدوا اليهودية والنصرانية بعد التنزيل والصابئون بعض أصناف الكفار من آمن بالله واليوم الآخر من هذه الأصناف بالقلب واللسان .
قوله تعالى : { وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم } . وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن من يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث .
ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة ، لأن الصابئين ، الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى ، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة ، واليهود والنصارى ، والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ، وصدقوا رسلهم ، فإن لهم الأجر العظيم والأمن ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر ، فهو بضد هذه الحال ، فعليه الخوف والحزن .
والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف ، من حيث هم ، لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد ، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم ، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام ، فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم ، لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها ، ومَنْ رحمته وسعت كل شيء .
وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم ، وذكر معاصيهم وقبائحهم ، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم ، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه ، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم . ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها ، ليتضح الحق ، ويزول التوهم والإشكال ، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين .
وبعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب جحودهم لنعم الله ، وكفرهم بآياته - أردف بذلك ما وعد الله به المؤمنين من جزيل الثواب فقال - تعالى :
{ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين . . . } .
في هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن أربع فرق من الناس :
أما الفرقة الأولى : فهي فرقة الذين آمنوا ، والمراد بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدقوه .
وابتدأ القرآن بهم للإِشعار بأن دين الإِسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإِيمان الصادق والعمل الصالح ، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } .
وأما الفرقة الثانية : فهي فرقة الذين هادوا ، أي : صاروا يهوداً ، يقال : هاد وتهود ، أي دخل في اليهودية ، وسمواً يهوداً نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب - بقلب الذال دالا في التعريب - أو سمواً يهودا حين تابوا من عبادة العجل ، من هاد يهود هودا بمعنى تاب . ومنه { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } أي : تينا .
والفرقة الثالثة : هي فرقة النصارى ، جمع نصران بمعنى نصراني ، كندامي وندمان والياء في نصراني للمبالغة ، وهم قوم عيسى - عليه السلام - قيل سمواً بذلك لأنهم كانوا أنصاراً له ، وقيل إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة وهي القرية التي كان عيسى - عليه السلام - قد نزلها .
وأما الفرقة الرابعة : فهي فرقة الصابئين جمع صابئ ، وهو الخارج من دين إلى دين ، يقال : صباً الظلف والناب والنجم - كمنع وكرم - إذا طلع . والمراد بهم الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل ، وهم قوم يعبدون الكواكب أو الملائكة ، ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم .
وذكر القرآن الصائبة في هذا المقام وهم من أبعد الأمم ضلالا . لينبه على أن الإِيمان منهم على النحو الذي قرره الدين الحق ، فمن لم تبلغه منهم دعوة الإِسلام ، وكان ينتمى إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر ويقدم العمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه ، فله أجره على ذلك عند ربه .
أما الذين بلغتهم الذين بلغتهم دعوة الإِسلام من تلك الفرق ولكنهم لم يقبلوها ؛ فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا بأنهم يؤمنون بغيرها ، لأن الشريعة الإِسلامية قد نسخت ما قبلها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .
ويفسرونه - أي الإِيمان - بالنسبة للمؤمنين المشار إليهم بقوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ . . . } على أنه بمعنى الثبات والدوام والإِذعان ، وبذلك ينتظم عطف قوله - تعالى - : { وَعَمِلَ صَالِحاً } على قوله { آمَنَ } مع مشاركة هؤلاء المؤمنين لتلك الفرق الثلاث فيما يترتب على الإِيمان والعمل الصالح من ثواب جزيل ، وعاقبة حميدة .
وبعض العلماء يرى أن معنى { مَنْ آمَنَ } أي : من أجدث من هذه الفرق إيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عند ربه ، قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإِسلام ، وأما بيان من مضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام ، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات .
ثم بين - سبحانه - عاقبتهم فقال : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
الأجر : الجزاء على العمل ، وسمى الله ما يعطيه للمؤمن العامل أجراً على سبيل التفضل منه .
وقال : { عِندَ رَبِّهِمْ } ليدل على عظم الثواب ، لأن ما يكون عند الله من الجزاء على العمل لا يكون عظيماًً ، ولأن المجازي لهم هو ربهم المنعوت بصفات الكرم والرحمة وسعة العطاء .
والمعنى : إن هؤلاء الذين لهم أجرهم العظيم عند ربهم ، ولا يفزعون من هول يوم القيامة كما يفزع الكافرون ، ولا يفوتهم نعيم ، فيحزنون عليه كما يحزن المقصرون .
ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة . فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عددا من أنبيائهم - وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين - وقد كفروا أشنع الكفر ، واعتدوا أشنع الاعتداء ، وعصوا أبشع المعصية . وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل !
ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة . كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون ، وهم وحدهم شعب الله المختار ، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله ؛ وأن فضل الله لهم وحدهم دون شريك . . وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة ، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية ، التي تتخلل القصص القرآني ، أو تسبقه أو تتلوه . يقرر قاعدة وحدة الإيمان . . ووحدة العقيدة ، متى انتهت إلى إسلام النفس لله ، والإيمان به إيمانا ينبثق منه العمل الصالح . وإن فضل الله ليس حجرا محجورا على عصبية خاصة ، إنما هو للمؤمنين أجمعين ، في كل زمان وفي كل مكان ، كل بحسب دينه الذي كان عليه ، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه :
( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين - من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
والذين آمنوا يعني بهم المسلمين . والذين هادوا هم اليهود - إما بمعنى عادوا إلى الله ، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا - والنصارى هم اتباع عيسى - عليه السلام - والصابئون : الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة ، الذي ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام ، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها ، فاهتدوا إلى التوحيد ، وقالوا : إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى ، ملة إبراهيم ، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم . فقال عنهم المشركون : إنهم صبأوا - أي مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك . ومن ثم سموا الصابئة . وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير .
والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعا وعمل صالحا ، فإن لهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فالعبرة بحقيقة العقيدة ، لا بعصبية جنس أو قوم . . وذلك طبعا قبل البعثة
لما بين [ الله ]{[1909]} تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحلّ بهم من النكال ، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه ، كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] .
قال{[1910]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدني ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، قال : قال سلمان : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخر الآية .
وقال السدي : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } الآية : نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون{[1911]} أنك ستبعث نبيًا ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : " يا سلمان ، هم من أهل النار " . فاشتد ذلك على سلمان ، فأنزل الله هذه الآية ، فكان إيمان اليهود : أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ، عليه السلام ؛ حتى جاء عيسى . فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى ، فلم يدعها ولم يتبع عيسى ، كان هالكًا . وإيمان النصارى أن{[1912]} من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ{[1913]} ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا .
قلت : وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن{[1914]} أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية فأنزل الله بعد ذلك : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] .
فإن هذا الذي قاله [ ابن عباس ]{[1915]} إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه [ الله ]{[1916]} بما بعثه به ، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ، فاليهود أتباع موسى ، عليه السلام ، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم .
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة ؛ كقول موسى ، عليه السلام : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تبنا ، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض .
[ وقيل : لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون ، أي : يتحركون عند قراءة التوراة ]{[1917]} .
فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم{[1918]} وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى ، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ، وقد يقال لهم : أنصار أيضًا ، كما قال عيسى ، عليه السلام : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] وقيل : إنهم إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة ، قاله قتادة وابن جُرَيج ، وروي عن ابن عباس أيضًا ، والله أعلم .
والنصارى : جمع نصران{[1919]} كنشاوى جمع نشوان ، وسكارى جمع سكران ، ويقال للمرأة : نصرانة ، قال الشاعر :
. . . نصرانة لم تَحَنَّفِ{[1920]}
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين ، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانكفاف عما عنه زجر . وهؤلاء هم المؤمنون [ حقا ]{[1921]} . وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية . وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ؛ فقال سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ، ليس لهم دين . وكذا رواه ابن أبي نجيح ، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس ، والسدي ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، والضحاك [ وإسحاق بن راهويه ]{[1922]} الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور .
[ ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم ]{[1923]} .
وقال هشيم عن مطرف : كنا عند الحكم بن عتيبة{[1924]} فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين : إنهم كالمجوس ، فقال الحكم : ألم أخبركم بذلك .
وقال عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن عبد الكريم : سمعت الحسن ذكر الصابئين ، فقال : هم قوم يعبدون الملائكة .
[ وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن الحسن قال : أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس . قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية . قال : فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة ]{[1925]} .
وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرؤون الزبور ، ويصلون إلى القبلة .
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : الصابئون قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات .
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين ، فقال : الذي يعرف الله وحده ، وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرًا .
وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل يقولون : لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول : لا إله إلا الله ، قال : ولم يؤمنوا برسول ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم ، يعني في قول : لا إله إلا الله .
وقال الخليل{[1926]} هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح ، عليه السلام . وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ، ولا تؤكل ذبائحهم ، قال ابن عباس : ولا تنكح نساؤهم . قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم ، وأنهم فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم ، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب ؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ، قال : وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم .
وأظهر الأقوال ، والله أعلم ، قول مجاهد ومتابعيه ، ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي ، أي : أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك .
وقال بعض العلماء : الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم .
{ إن الذين آمنوا } بألسنتهم ، يريد به المتدينين بدين محمد صلى الله عليه وسلم المخلصين منهم والمنافقين ، وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة .
{ والذين هادوا } تهودوا ، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، ويهود : إما عربي من هاد إذا تاب ، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام .
{ والنصارى } جمع نصران كندامى وندمان ، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام ، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها ، أو من اسمها .
{ والصابئين } قوم بين النصارى والمجوس . وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام . وقيل هم عبدة الملائكة . وقيل عبدة الكواكب ، وهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا خرج . وقرأ نافع وحده بالياء إما لأنه خفف الهمزة وأبدلها ياء ، أو لأنه من صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم ، أو من الحق إلى الباطل .
{ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه . وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ، ودخل في الإسلام دخولا صادقا : { فلهم أجرهم عند ربهم } الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم .
{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } حين يخاف الكفار من العقاب ، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب . و{ من } مبتدأ خبره { فلهم أجرهم } والجملة خبر إن ، أو بدل من اسم إن وخبرها { فلهم أجرهم } والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية ، ورد بقوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } .