معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

قوله تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } ، قيل : أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف ، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة ، وقال إبراهيم النخعي : إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري ، فبدلوا يا أبناء أبكاري ، فمن ذلك قالوا : نحن أبناء الله ، وقيل : معناه نحن الله يعني أبناء رسل الله .

قوله تعالى : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } ، يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه ، فإن الأب لا يعذب ولده ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم مقرون أنه معذبكم ، وقيل : { فلم يعذبكم } أي : لم عذب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير ؟ قوله تعالى : { بل أنتم بشر ممن خلق } ، كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان . قوله تعالى : { يغفر لمن يشاء } فضلاً .

قوله تعالى : { ويعذب من يشاء } ، عدلاً .

قوله تعالى : { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

ومن مقالات اليهود والنصارى أن كلا منهما ادعى دعوى باطلة ، يزكون بها أنفسهم ، بأن قال كل منهما : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

والابن في لغتهم هو الحبيب ، ولم يريدوا البنوة الحقيقية ، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح .

قال الله ردا عليهم حيث ادعوا بلا برهان : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } ؟

فلو كنتم أحبابه ما عذبكم [ لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه ]{[259]}

{ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } تجري عليكم أحكام العدل والفضل { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب ، { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة ، وأنتم من جملة المماليك ومن جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة ، فيجازيكم بأعمالكم .


[259]:- زيادة من هامش ب.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

ثم ساق - سبحانه - بعض دعاوى أهل الكتاب الباطلة وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال - تعالى - :

{ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ . . . }

قال الإِمام ابن كثير : روى محمد بن إسحاق بن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فكلموه وكلمهم ودعاهم إلى الله - تعالى - وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى ؛ فأنزل الله - تعالى - فيهم .

{ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } . . الآية .

وقوله - تعالى - { وَقَالَتِ اليهود والنصارى } حكاية لما صدر عن الفريقين من أقاويل فاسدة ودعاوي باطلة ، يدل على سفاهة عقولهم ، وبلاده تفكيرهم ، حيث قالوا في حق الله - تعالى - ما لا يليق بعظمته - سبحانه - .

قال الآلوسي : ما ملخصه : " ومرادهم بالأبناء : المقربون . أي نحن مقربون عند الله - تعالى - قرب الأولاد من والدهم . ومن مرادهم بالأحباء : جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب .

ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة ، كما يقال : أبناء الدنيا وأبناء الآخرة . ويجوز أن يكونوا أرادوا بما قالوا أنهم أشياع وأتباع من وصف بالبنوة . أي قالت اليهود : نحن أشياع ابنه عزير . وقالت النصارى : نحن أشياع ابنه عيسى . وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء في قرب المنزلة . وهذا كما يقول أتباع الملك : نحن الملوك .

وقيل الكلام على حذف المضاف . أي : نحن أبناء أنبياء الله - تعالى - وهو خلاف الظاهر .

ومقصود الفريقين بقوله - تعالى - حكاية عنهم { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } هو المعنى المتضمن مدحا ، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزية عند الله - تعالى - على سائر الخلق .

والمعنى : وقالت طائفة اليهود التي تزعم أنها شعب الله المختار ، وقالت طائفة النصارى التي تزعم أنها على الحق دون غيرهم قالت كل طائفة منهما : نحن في القرب من الله - تعالى - بمنزلة أبنائه المدللين ، وأحبائه المختارين ، فلنا من الفضل والمنزلة والتكريم ما ليس لغيرنا من البشر .

والذي حملهم على هذا القول الباطل ، جهلهم بما اشتلمت عليه كتبهم ، وتخبطهم في الكفر والضلال وفهمهم السقيم لمعاني الألفاظ .

قال ابن كثير : " ونقلوا عن كتبهم أن الله - تعالى - قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري . فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه . وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم . وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإِكرام . كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، يعني : ربي وربكم . ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى - عليه السلام - وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه ، وحظوتهم عنده ، ولهذا قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } .

وعطف - سبحانه - قولهم : { وَأَحِبَّاؤُهُ } على قولهم { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله } للإِشارة إلى غلوهم في الجهل والغرور ، حيث قصدوا أنهم أبناء محبوبون وليسوا مغضوبا عليهم من أبيهم بل هم محل رضاه وإكرامه .

وقد أمر الله - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يكتبهم فقال : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } .

والفاء في قوله { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم } للافصاح ، لأنها تفصح عن جواب شرط مقدر أي : قل يا محمد لهؤلاء المغرورين ، إن كان الأمر كما زعمتم من أنكم أبناء الله وأحباؤه فلأي شيء يعذبكم إذ الحبيب لا يعذب حبيبه .

وإن واقعكم يا أهل الكتاب يناقض دعواكم ، فقد عذبكم - سبحانه - في الدنيا بسبب ذنوبكم بالقتل والأسر والمسخ وتهييج العداوة والبغضاء بينكم إلى يوم القيامة .

أما في الآخرة فإن كتبكم التي بين أيديكم تشهد بأنكم ستعذبون في الآخرة على ما تقترفون من آثام في دنياكم .

وقد أقر اليهود بأن العذاب سيقع بهم - في زعمهم - أياما معدودات في الآخرة وحكى القرآن عنهم ذلك في قوله - تعالى - { قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } وأقر النصارى بأن الله - تعالى - سيحاسب الناس يوم القيامة ، وسيجازي كل إنسان على حسب عمله إن خيرا فخير ، وإن شراً فشر .

قال القرطبي : " رد الله عليهم قولهم فقال : { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين ، إما إن يقولوا هو يعذبنا ، فيقال لهم : فلستم إذا أبناءه ولا أحباءه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه . وأنتم تقرون بعذابه ، فذلك دليل على كذبكم - وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف - أو يقولوا : لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم ، وما جاءت به رسلهم . ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم ، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم وقوله : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } رد على أصل دعواهم الباطلة ، وبيانلما هو الحق من أمرهم وهو معطوف على كلام مقدر .

أي : ليس الأمر كما زعمتم يا معشر اليهود والنصارى من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل الحق أنكم كسائر البشر من خلق الله . فإنكم إن آمنتم وأصلحتم أعمالكم نلتم الثواب من الله ، وإن بقيتم على كفركم وغروركم حق عليكم العقاب ، وليس لأحد فضل على أحد إلا بالإِيمان والعمل الصالح .

قال أبو حيان قوله : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } إضراب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلال آخر من ثبوت كونهم بشرا من بعض خلقه ، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث ، وهما يمنعان البنوة ، فإن القديم لا يلد بشرا ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوجهين البنوة . وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما .

وقوله - سبحانه - { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } بيان لعموم قدرته ، وشمول إرادته .

أي أنه - سبحانه - يغفر لمن يشاء أن يغفر له من خلقه ، وهم المؤمنون به وبرسله ، ويعذب من يشاء أن يعذبه منهم ، وهم المنحرفون عن طريق الحق والهدى ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه .

وقوله { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير } تذييل قصد به تأكيد ما قبله من عموم قدرته ، وشمول إرادته وهيمنته على سائر خلقه .

أي : والله - تعالى - وحده ملك جميع الموجودات وهو صاحب التصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وإليه وحده مصير الخلق يوم القيامة فيجازيهم على ما عملوا من خير أو شر . قال - تعالى - { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وبذلك تكون الآية الكريمة قد أبطلت حجة اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم { أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } وأثبتت بالمنطق الواضح أنهم كذابون فيما يدعون ؛ وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالإِيمان والعمل الصالح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

واليهود والنصارى يقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه :

( وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ) . .

فزعموا لله - سبحانه - أبوة ، على تصور من التصورات ، إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح . وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد ؛ وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية . هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور ، ولا تستقيم الحياة ، إلا بتقريره . كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية ؛ وتتوحد الجهة التي تشرع للناس ؛ وتضع لهم القيم والموازين والشرائع ؛ والقوانين ، والنظم والأوضاع ، دون أن تتداخل الاختصاصات ، بتداخل الصفات والخصائص ، وتداخل الألوهية والعبودية . . فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب ، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف !

واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، كانوا يقولون - تبعا لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم ! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياما معدودات . ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه ! وأنه سبحانه - يحابي فريقا من عباده ، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين ! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور ؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف ؟

وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور ، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة ، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي ؛ كما يقرر بطلان ذلك الادعاء :

( قل : فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) . .

بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان . يقرر بطلان ادعاء البنوة ؛ فهم بشر ممن خلق . ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد . على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه . لا بسبب بنوة أو صلة شخصية !

ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء ، وأن مصير كل شيء إليه :

( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) . .

والمالك غير المملوك . تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته ، ويصير إليه الجميع . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

ثم قال تعالى رادًّا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أي : نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية ، وهو يحبنا . ونقلوا عن كتابهم أن الله [ تعالى ]{[9444]} قال لعبده إسرائيل : " أنت ابني بكري " . فحملوا هذا على غير تأويله ، وحَرّفوه . وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم ، وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام ، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، يعني : ربي وربكم . ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى ، عليه السلام ، وإنما أرادوا بذلك{[9445]} معزتهم لديه وحظْوتهم عنده ، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .

قال الله تعالى{[9446]} رادا عليهم : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } أي : لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه ، فلم أعَد{[9447]} لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم ؟ . وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يرد عليه ، فتلا الصوفي هذه الآية : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ }

وهذا الذي قاله حسن ، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال : حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن حُمَيْد ، عن أنس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يُوْطَأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ! وسعت فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار . قال : فَخفَّضَهُم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لا والله ما يلقي حبيبه في النار " . تفرد به . {[9448]}

[ وقوله ]{[9449]} { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي : لكم أسوة أمثالكم من بني آدم ، وهو تعالى هو الحاكم في جميع عباده { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو فعال لما يريد ، لا مُعَقِّب لحكمه وهو سريع الحساب . { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه ، { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب إليه ، فيحكم في عباده بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور .

[ و ]{[9450]} قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمَة ، أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء{[9451]} وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي ، فكلموه وكلمهم{[9452]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ! نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ، فأنزل [ الله ]{[9453]} فيهم : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } إلى آخر الآية . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله [ تعالى ]{[9454]} { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أما قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك{[9455]} - بكرك من الولد - فيدخلهم النار{[9456]} فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم يناد مناد{[9457]} أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل . فأخرجوهم{[9458]} فذلك قولهم : { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ]


[9444]:زيادة من أ.
[9445]:في ر، أ: "من ذلك".
[9446]:في أ: "عز وجل".
[9447]:في أ: أعددت".
[9448]:المسند (3/104).
[9449]:زيادة من أ.
[9450]:زيادة من أ.
[9451]:في أ: "عتمان بن صا".
[9452]:في أ: "فكلمهم."
[9453]:زيادة من أ.
[9454]:زيادة من أ.
[9455]:في أ: "ولدي".
[9456]:كذا في جميع النسخ، ونص الطبري: "أن ولدا من ولدك أدخلهم النار" (6/106).
[9457]:في أ: "منادي".
[9458]:في ر: "فأخرجهم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . .

وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول . وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولي زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحريّ بن عمرو ، وشأس بن عديّ ، فكلموه ، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى ، فأنزل الله جلّ وعزّ فيهم : وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنّصَارَى نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُهُ . . . إلى آخر الاَية . وكان السديّ يقول في ذلك بما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالَتِ اليَهُودُ والنّصَارَى نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّاؤُهُ أما أبناء الله فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم ينادي مناد : أن أخرجوا كلّ مختون من ولد إسرائيل ، فأُخْرجهم . فذلك قوله : لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُوداتٍ . وأما النصارى ، فإن فريقا منهم قال للمسيح : ابن الله .

والعرب قد تخرج الخبر إذا افتخرت مُخْرج الخبر عن الجماعة ، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم ، فتقول : نحن الأجواد الكرام ، وإنما الجواد فيهم واحد منهم وغير المتكلم الفاعل ذلك ، كما قال جرير :

نَدسْنا أبا مَندوسة القَيْنَ بالقَنَا ***وَما رَدَمٌ من جارِ بَيْبَةَ ناقعُ

فقال : «ندسنا » ، وإنما النادس : رجل من قوم جرير غيره ، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم . فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك على هذا الوجه إن شاء الله . وقوله : وأحِبّاؤُهُ وهو جمع حبيب ، يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ رَبّكُمْ ؟ يقول : فلأيّ شيء يعذّبكم ربكم بذنوبكم إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه ، فإن الحبيب لا يعذّب حبيبه ، وأنتم مقرّون أنه معذّبكم . وذلك أن اليهود قالت : إن الله معذّبنا أربعين يوما عدد الأيام التي عبدنا فيه العجل ، ثم يخرجنا جميعا منها فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : إن كنتم كما تقولون أبناءُ الله وأحباؤه ، فلم يعذّبكم بذنوبكم ؟ يُعلمهم عزّ ذكره أنهم أهل فِرية وكذب على الله جلّ وعزّ .

القول في تأويل قوله تعالى : بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يشاءُ .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه بل أنتم بشر ممن خلق ، يقول : خلق من بني آدم ، خلقكم الله مثل سائر بني آدم ، إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم كما سائر بني آدم مَجْزِيّون بإحسانهم ، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم كما غيركم مجزىّ بها ، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه ، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبه ، فيصفح عنه بفضله ، ويسترها عليه برحمته ، فلايعاقبه بها . وقد بينا معنى المغفرة في موضع غير هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ يقول : ويعدل على من يشاء من خلقه ، فيعاقبه على ذنوبه ، ويفضحه بها على رءوس الأشهاد ، فلا يسترها عليه ، وإنما هذا من الله عزّ وجلّ وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى ، المتكلين على منازل سلفهم الخيار عند الله ، الذين فضلهم الله بطاعتهم إياه ، واجتنابهم معصيته ، لمسارعتهم إلى رضاه ، واصطبارهم على ما نابهم فيه . يقول لهم : لا تغتروا بمكان أولئك مني ، ومنازلهم عندي ، فإنهم إنما نالوا مني بالطاعة لي ، وإيثار رضاي على محابهم ، لا بالأماني ، فجِدّوا في طاعتي ، وانتهوا إلى أمري ، وانزجروا عما نهيتهم عنه ، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي ، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي ، لا لمن قرُبت زلفة آبائه مني ، وهو لي عدوّ ولأمري ونهيي مخالف . وكان السديّ يقول في ذلك بما :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قوله : يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ يقول : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذّبه .

القول في تأويل قوله تعالى : ولِلّهِ مُلْكُ السّمَواتِ والأرْضه وَما بَيْنَهُما وإلَيْهِ المَصِيرُ .

يقول : لله تدبير ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ، وتصريفه ، وبيده أمره ، وله ملكه ، يصرّفه كيف يشاء ويدبره كيف أحبه ، لا شريك له في شيء منه ولا لأحد معه فيه ملك ، فاعلموا أيها القائلون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، أنه إن عذّبكم بذنوبكم ، لم يكن لكم منه مانع ولا لكم عنه دافع لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيَه لسبب ذلك ، ولا لأحد في شيء ومرجعه . فاتقوا أيها المفترون عقابه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه ، ولا تغترّوا بالأماني وفضائل الاَباء والأسلاف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع { اليهود والنصارى } يقولون عن جميعهم : { نحن أبناء والله وأحباؤه } وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة { نحن أبناء الله وأحباؤه } والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة ، وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك وقالوا { نحن أبناء الله وأحباؤه } ولو صح ما رووا لكان معناه بكراً في التشريف أو النبوة ونحوه ، وأحباء جمع حبيب ، وكانت هذه المقالة منهم عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وخوفهم العذاب ، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا { أبناء الله وأحباؤه } وذكر ذلك ابن عباس ، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوماً ثم تخلفوننا فيها ، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة ، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم » به في الدنيا . وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوباً على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه ، فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء . ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غير مفسد له ، ودخل في غيره من تقرير كونهم بشراً كسائر الناس ، والخلق أكرمهم أتقاهم ، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ، ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه ، وله ملك السماوات الأرض وما بينهما ، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدلّ على غباوتهم في الكفر إذ يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى ، ثمّ هو مناقض لمقالاتهم الأخرى . عُطف على المقال المختصّ بالنصارى ، وهو جملة { لقد كَفَر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح } [ المائدة : 17 ] . وقد وقع في التّوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله ؛ ففي سفر التثنية أوّل الفصل الرابع عشر قول موسى « أنتُم أولاد للربّ أبيكم » . وأمّا الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح ، وبأبي المؤمنين به ، وتسمية المؤمنين أبناءَ الله في متّى في الإصحاح الثّالث « وصوت من السماء قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت » وفي الإصْحاح الخامس « طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناءَ الله يُدعون » . وفي الإصحاح السادس « وأبوكم السماوي يقُوتها » . وفي الإصحاح العاشر « لأِنْ لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الّذي يتكلّم فيكم » . وكلّها جائية على ضرب من التشبيه فتوهّمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها .

وعطف { وأحبّاؤه } على { أبناءُ الله } أنّهم قصدوا أنّهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوباً عليه .

وقد علَّم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقْضَيْن : أولهما من الشريعة ، وهو قوله { قل فلِمَ يعذّبكم بذنوبكم } يعنِي أنّهم قائلون بأنّ نصيباً من العذاب ينالهم بذنوبهم ، فلو كانوا أبناء الله وأحبّاءه لما عذّبهم بذنوبهم ، وشأن المحبُّ أن لا يعذّب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذّب أبناءه . رُوي أنّ الشِّبْلي سأل أبا بكر بن مجاهد : أين تَجد في القرآن أنّ المُحبّ لا يعذِّب حبيبَه فلم يهتد ابن مجاهد ، فقال له الشبلي في قوله : { قل فلِم يعذّبكم بذنوبكم } . وليس المقصود من هذا أنّ يَردّ عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر ، مِن تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم ، لأنّ ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للردّ به ، إذ يصير الردّ مُصَادَرَة ، بل المقصود الردّ عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم ، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدّنيا . فأمّا اليهود فكُتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة ، كما في قوله تعالى : { وقالوا لَنْ تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] . وأمّا النّصارى فلم أر في الأناجيل ذكراً لِعذاب الآخرة إلاّ أنّهم قائلون في عقائدهم بأنّ بني آدم كلّهم استحقّوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم ، فجاء عيسى ابن مريم مخلّصاً وشافعاً وعرّض نفسه للصلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة ، وهذا يُلزمهم الاعترافَ بأنّ العذاب كان مكتوباً على الجميع لولا كفّارة عيسى فحصل الرّدّ عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا .

ثم أُخذت النتيجةُ من البرهان بقوله : { بل أنتم بشر ممّن خلق } أي يَنالكم ما ينال سائر البشر . وفي هذا تعريض أيضاً بأنّ المسيح بَشَر ، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف ، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل .

وجملة قوله : { يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء } كالاحتراس ، لأنّه لمّا رتّب على نوال العذاب إيّاهم أنهم بشر دفع توهّم النصارى أنّ البشريّة مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تَبِعة خطيئة آدم فقال : { يغفر لمن يشاء } ، أي من البشر { ويعذّب من يشاء } .