قوله تعالى : { وكفى بربك هادياً ونصيراً *وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدةً } كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود . قال الله سبحانه وتعالى : { كذلك } فعلنا { لنثبت به فؤادك } أي : أنزلناه متفرقاً ليقوى به قلبك فتعيه وتحفظه ، فإن الكتب أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون ، وأنزل الله القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأيسر على العامل به . { ورتلناه ترتيلاً } قال ابن عباس : بيناه بياناً ، والترتيل : التبيين في ترتل وتثبت . وقال السدي : فصلناه تفصيلاً . وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض . وقال النخعي والحسن وقتادة : فرقناه تفريقاً ، آية بعد آية .
{ 32 - 33 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }
هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا : { لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي : كما أنزلت الكتب قبله ، وأي محذور من نزوله على هذا الوجه ؟ بل نزوله على هذا الوجه أكمل وأحسن ، ولهذا قال : { كَذَلِكَ } أنزلناه متفرقا { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك ثم تذكره عند حلول سببه .
{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } أي : مهلناه ودرجناك فيه تدريجا . وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول ومصالحه الدينية .
الخامسة - بعض شبهاتهم وأباطيلهم فقال
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً . . . } .
أى : وقال الذين كفروا بالحق الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم : هلا نزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم جملة واحدة ، دون أن ينزل مفرقا كما نراه ونسمعه .
وقولهم هذا دليل على سوء أدبهم فقد طلبوا مالا يعنيهم . واقترحوا شيئا لا مدخل لهم فيه ولا علم عندهم بحكمته ، ولذا رد سبحانه عليهم بقوله : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } والكاف بمعنى مثل ، والجار والمجرور نعت لمصدر محذوف مع عامله . وقوله { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } تعليل للعامل المحذوف .
فالجملة الكريمة استئناف مسوق للرد عليهم ، ولبيان بعض الحكم فى نزول القرآن مفرقا .
وقوله - سبحانه - : { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } معطوف على الفعل المحذوف . والتنكير فى " ترتيلا " للتفخيم والتعظيم . وأصل الترتيل ، عدم التلاصق . يقال ، ثغر مرتل . أى مفلج الأسنان غير متلاصقها .
أى : نزلناه مفرقا ، ورتلناه ترتيلا بديعا ، بأن قرأناه عليك بلسان جبريل شيئا فشيئا ، على تؤدة وتمهل ، وجعلنا بعضه ينزل فى إثر بعض .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله " كذلك " جواب لهم ، أى : كذلك أنزلناه مفرقا ، والحكمة فيه : أن نوقى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه . . .
فإن قلت : ذلك فى كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شىء تقدمه ، والذى تقدمه هو إنزاله جملة واحدة فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرقا ؟
قلت : لأن قولهم : لولا أنزل عليه القرآن جملة ، معناه : لماذا أنزل مفرقا ، والدليل على فساد هذا الاعتراض أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه . . . فكأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته .
ثم يمضي في استعراض مقولات المجرمين الذين يقفون في وجه دعوة القرآن ، والرد عليها :
( وقال الذين كفروا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة . كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) . .
ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، وينشئ مجتمعا ، ويقيم نظاما . والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة ، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع . والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد . إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج ؛ وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا ، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا ، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا . وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية ، وأشد قابلية لها والتذاذا بها .
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها . وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها . فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة ، وهي في طريق نشأتها ونموها ، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق . جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة . جاء لينفذ حرفا حرفا وكلمة كلمة ، وتكليفا تكليفا . جاء لتكون آياته هي " الأوامر اليومية " التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان " الأمر اليومي " مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ ؛ ومع الانطباع والتكيف وفق ما يتلقاه . .
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا . يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويثبته على طريقه ؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل ، وجزءا بعد جزء :
( كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) . .
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي . .
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا ، وتأثرت به يوما يوما ، وانطبعت به أثرا أثرا . فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة ، وكتاب تعبد للتلاوة ، فحسب ، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ . لم ينتفعوا من القرآن بشيء ، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير . .
يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم ، وكلامهم فيما لا يعنيهم ، حيث قالوا : { لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي : هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة ، كما نزلت الكتب قبله كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية . فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث ، وما يحتاج إليه من الأحكام لتثبيت{[21513]}قلوب المؤمنين به كما قال : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } [ الإسراء : 106 ] ؛ ولهذا قال : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا } . قال قتادة : وبيناه تبيينا . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وفسرناه تفسيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا بالله لَوْلا نَزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ يقول : هلا نزّل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة ؟ ، قال الله : " كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ " تنزيله عليك الاَية بعد الاَية ، والشيء بعد الشيء ، لنثبت به فؤادك نزلناه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْناه تَرْتِيلاً قال : كان الله ينزل عليه الاَية ، فإذا علمها نبيّ الله نزلت آية أخرى ، ليعلمه الكتاب عن ظهر قلب ، ويثبت به فؤاده .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كما أنزلت التوراة على موسى ، قال : كذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ قال : كان القرآن ينزّل عليه جوابا لقولهم : ليعلم محمد أن الله يجيب القوم بما يقولون بالحقّ ، ويعني بقوله : لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك ، ونشجعك به .
وقوله وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً يقول : وشيئا بعد شيء علمناكَهُ حتى تحفظنه . والترتيل في القراءة : الترسل والتثبت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَرَتّلْناهُ تَرتِيلاً قال : نزل متفرّقا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً قال : كان ينزّل آية وآيتين وآيات جوابا لهم إذا سألوا عن شيء أنزله الله جوابا لهم ، وردّا عن النبيّ فيما يتكلمون به . وكان بين أوّله وآخره نحو من عشرين سنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَرَتّلْناهُ تَرْتيلاً قال : كان بين ما أنزل القرآن إلى آخره أنزل عليه لأربعين ، ومات النبيّ صلى الله عليه وسلم لثنتين أو لثلاث وستين .
وقال آخرون : معنى الترتيل : التبيين والتفسير . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَرَتّلْناهُ تَرْتيلاً قال : فسرناه تفسيرا ، وقرأ : وَرَتّلِ القُرآنَ تَرْتِيلاً .
روي عن ابن عباس وغيره أن كفار قريش قالوا في بعض معارضتهم لو كان هذا القرآن من عند الله لنزل { جملة } كما نزل التوراة والإنجيل . وقوله { كذلك } يحتمل أن يكون من قول الكفار إشارة إلى التوراة والإنجيل ، [ ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف ]{[8823]} وهو أولى ، ومعناه كما نزل أردناه ، فالإشارة إلى نزوله متفرقاً وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقاً تثبيت فؤاد محمد عليه السلام وليحفظه ، وقال مكي والرماني : من حيث كان أمياً لا يكتب وليطابق الأسباب المؤقتة فنزل في نيف على عشرين سنة ، وكان غيره من الرسل يكتب فنزل إليه جملة ، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليثبت » بالياء ، والترتيل التفريق بين الشيء المتتابع ومنه قولهم ثغر رتل ومنه ترتيل القراءة{[8824]} .