اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا} (32)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ{[36045]} عَلَيْهِ القرآن } الآية .

هذه شبهة خامسة{[36046]} لمنكري النبوة ؛ فإن أهل مكة قالوا : تزعم أنك رسول من عند الله ، فهلا تأتينا بالقرآن جملة ( واحدة ) {[36047]} ، كما أتي موسى بالتوراة جملة ، وكما أتي عيسى بالإنجيل جملة ، وداود بالزبور{[36048]} . قال ابن جريج : من أوله إلى آخره في ثنتين أو ثلاث وعشرين سنة{[36049]} . و «جملة » حال من «القرآن » ؛ إذ هي في معنى مجتمعاً{[36050]} .

قوله : «كذلك » الكاف إما مرفوعة المحل ، أي : الأمر كذلك{[36051]} ، و «لِنُثَبِّتَ » علة لمحذوف{[36052]} ، أي : لنثبت فعلنا ذلك . وإما منصوبته{[36053]} على الحال ، أي : أنزل مثل ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوف ، و «لنثبت » متعلقة بذلك الفعل المحذوف{[36054]} وقال أبو حاتم : هي جواب قسم{[36055]} . وهذا قول مرجوح نحا إليه الأخفش{[36056]} ، وجعل منه «ولتصغى »{[36057]} ، وقد تقدم في الأنعام . وقرأ عبد الله «ليثبت » بالياء{[36058]} أي الله تعالى .

فصل

هذا جواب عن شبهتهم ، وبيانه من وجوه :

أحدها : أنه - عليه السلام - لم يكن من أهل الكتابة والقراءة{[36059]} ، فلو نزل ذلك عليه جملة واحدة كان{[36060]} لا يضبطه وجاز عليه فيه الخطأ والغلط .

وثانيها : أن من كان الكتاب عنده ، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ ، فالله{[36061]} تعالى ما أعطاه الكتاب جملة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ، ليكون حفظه له أكمل ، فيكون أبعد عن المساهمة وقلة التحصيل .

وثالثها : أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة على الخلق ، فكان يثقل عليهم ذلك فلما{[36062]} نزل مفرقاً منجماً نزلت التكاليف قليلاً قليلاً ، فكان تحملها أسهل .

ورابعها : أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوة ، وعلى احتمال الأذى وعلى التكاليف الشاقة .

وخامسها : أنه لما تم{[36063]} شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً ؛ فإنه لو كان ذلك مقدوراً للبشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً ، ولما عجزوا عن معارضة نجومه المفرقة ، فعن معارضة الكل أولى .

وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم ووقائعهم ، فكانوا يزدادون بصيرة ، وكان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب .

وسابعها : أن السفارة بين الله وبين أنبيائه ، وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة لبطل المنصب على جبريل - عليه السلام - فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه ، فلذلك جعلة الله تعالى منجماً {[36064]} .

فصل{[36065]}

قوله : «كذلك » يحتمل أن يكون من تمام{[36066]} كلام المشركين ، أي : جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل . ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم ، أي : كذلك أنزلناه ، مفرقا$$$0023ً . فإن قيل : «كذلك » إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو إنزالة جملة ، ( فكيف فسره ب «كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ »{[36067]} ) مفرقاً ؟

فالجواب : أن الإشارة ( إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة{[36068]} . قوله : «ورتلناه ترتيلاً » الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت ) {[36069]} يسير دون قطع النفس ، ومنه ثغر{[36070]} رَتِلٌ ومُرتل ، أي : مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة{[36071]} . قال الزمخشري : و " نزّل " هنا بمعنى " أنزل " لا غير كخبّر بمعنى أخبر وإلا تدافعا{[36072]} . يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق ، فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك ، لتدافع{[36073]} مع قوله «جُمْلَةً » لأن الجملة تنافي التفريق ، وهذا بناء منه على معتقده ، وهو أن التضعيف يدل على التفريق ، وقد نص على كذلك في مواضع من الكشاف في سورة البقرة{[36074]} ، وأول{[36075]} آل عمران{[36076]} ، وآخر الإسراء{[36077]} ، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله{[36078]} .

فصل

«وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً » قال ابن عباس : بيناه بياناً{[36079]} . والترتيل التبيين{[36080]} في ترسل{[36081]} وتثبيت{[36082]} . وقال السديّ : فصلناه تفصيلا{[36083]} . وقال مجاهد : بعضه{[36084]} في أثر بعض{[36085]} . وقال النخعي والحسن{[36086]} وقتادة : فرقناه تفريقاً آية بعد آية{[36087]} .


[36045]:في الأصل: أنزل. وهو تحريف.
[36046]:خامسة: سقط من ب.
[36047]:واحدة: سقط من الأصل.
[36048]:انظر الفخر الرازي 24/78 – 79.
[36049]:انظر الفخر الرازي 24/79.
[36050]:انظر التبيان 2/985.
[36051]:انظر الكشاف 3/97، البحر المحيط 6/496.
[36052]:في ب: بمحذوف.
[36053]:في ب: منصوبة.
[36054]:انظر التبيان 2/985.
[36055]:أي: اللام في "لنثبت"، والتقدير: والله ليثبتن، فحذفت النون وكسرت اللام. انظر البحر المحيط 6/497.
[36056]:قال الأخفش: ("ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة" أي: ولتصغين) معاني القرآن 2/ 558. [الأنعام: 113].
[36057]:من قوله تعالى: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} [الأنعام: 113].
[36058]:المختصر (104)، تفسير ابن عطية 11/37، البحر المحيط 6/497.
[36059]:في ب: القراءة والكتابة.
[36060]:في ب: فإنه.
[36061]:في ب: والله.
[36062]:في ب: فيما.
[36063]:تم: تكملة من الفخر الرازي.
[36064]:انظر الفخر الرازي 24/79.
[36065]:في الأصل: قوله. وهو تحريف.
[36066]:تمام: سقط من ب.
[36067]:ما بين القوسين سقط من الأصل، وعلى هامشه: لعله: لا اتزالة.
[36068]:انظر الفخر الرازي 24/79.
[36069]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36070]:الثغر: الفم. وقيل: هو اسم الأسنان كلها ما دامت في منابتها قبل أن تسقط، وقيل: هي الأسنان كلها، كن في منابتها أو لم تكن، اللسان (ثغر).
[36071]:انظر اللسان (رتل).
[36072]:في الكشاف: وإلا كان متدافعا. الكشاف 3/96.
[36073]:في ب: التدافع.
[36074]:عند قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23]. قال الزمخشري: (فإن قلت: لم قيل "مما نزلنا" على لفظ التنزيل؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم، وهو من مجازه لمكان التحدي) الكشاف 1/47.
[36075]:في ب: وأول سورة.
[36076]:عند قوله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والأنجيل} [آل عمران: 3] قال الزمخشري: (فإن قلت: لم قيل: نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل؟ قلت: لأن القرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة) الكشاف 1/174.
[36077]:عند قوله تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: 106]. قال الزمخشري: (وقرأ أبي "فرقناه" بالتشديد، أي: جعلنا نزوله مفرقا منجما... "ونزلناه تنزيلا" على حسب الحوادث) الكشاف 2/138.
[36078]:قال الزمخشري عند قوله "وقرآنا فرقناه... الآية" [الإسراء: 106] (وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأه مشددا (أي: فرقناه)، وقال: لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة) الكشاف 2/378.
[36079]:انظر البغوي 6/176.
[36080]:في ب: التبيان.
[36081]:في ب: ترتل.
[36082]:اللسان (رتل).
[36083]:انظر البغوي 6/176.
[36084]:في ب: بعض.
[36085]:انظر البغوي 6/176.
[36086]:في ب: الحسن والنخعي.
[36087]:انظر البغوي 6/176.