الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا} (32)

{ نَزَّلَ } ههنا بمعنى أنزل لا غير ، كخبّر بمعنى أخبر ، وإلاّ كان متدفعاً . وهذا أيضاً من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه . قالوا : هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وما له أنزل على التفاريق . والقائلون : قريش . وقيل : اليهود . وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته ؛ لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقاً . وقوله : { كذلك } جواب لهم ، أي : كذلك أنزل مفرّقاً . والحكمة فيه : أن نقوّي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ؛ لأنّ المتلقن إنما يقوى قبله على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء . ولو ألقي عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا بحفظه ، والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام ، حيث كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ ، فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة . وقيل : في ثلاث وعشرين . وأيضاً ، فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين ، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرّقاً .

فإن قلت : ذلك في« كذلك » يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه ، والذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة ، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقاً ؟ قلت : لأنّ قولهم : لولا أنزل عليه جملة : معناه : لِمَ أنزل مفرّقاً ؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض : أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه ، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور ، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة ، ثم قالوا : هلا نزل [ عليه ] جملة واحدة ، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته { وَرَتَّلْنَاهُ } معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك ، كأنه قال : كذلك فرّقناه ورتلناه . ومعنى ترتيله : أن قدره آية بعد آية ، ووقفه عقيب وقفه ، ويجوز أن يكون المعنى : وأمرنا بترتيل قراءته ، وذلك قوله : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أي اقرأه بترسل وتثبت . ومنه حديث عائشة رضي الله عنها في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم : " لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها " وأصله : الترتيل في الأسنان : وهو تفليجها . يقال : ثغر رتل ومرتل ، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه . وقيل : هو أن نزله مع كونه متفرقاً على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة . ولم يفرقه في مدة متقاربة .