فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا} (32)

{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ؟ } هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم ، أي : هلا أنزل الله عليه الكتاب دفعة واحدة غير منجم ، كما أنزلت التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، والزبور على داود عليهم السلام . واختلف في قائل هذه المقالة ، فقيل كفار قريش ، وقيل اليهود قالوا : هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة ؟ وهذا زعم باطل ، ودعوى داحضة ، فإن هذه الكتب نزلت مفرقة كما نزل القرآن ، ولكنهم معاندون ، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه ، واعتراض منهم لا طائل تحته ، لأن الإعجاز لا يختلف بنزول جملة أو متفرقا ، مع أن للتفريق فوائد ، منها أن نزوله بحسب الوقائع ، يوجب زيد بصيرة وغوصا على المعنى ، ولأنه إذا نزل منجما وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك في قوة قلبه ، ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فإنه يعين على البلاغة ثم رد الله سبحانه عليهم فقال : { كَذَلِكَ } إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي مثل ذلك التنزيل المفرق ، الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه { لِنُثَبِّتَ } لنقوي { بِهِ } أي بهذا التنزيل على هذه الصفة { فُؤَادَكَ } فإن إنزاله مفرقا منجما ، على حسب الحوادث ، أقرب إلى حفظك له وفهمك لمعانيه ، وذلك من أعظم أسباب التثبيت ، وقرأ بالتحية أي الله سبحانه .

وقيل قوله : { كذلك } هي من تمام كلام المشركين ، والمعنى كذلك أي كالتوراة والإنجيل والزبور فيوقف على قوله : { كذلك } ثم يبتدئ : { لِنُثَبِّتَ به فُؤَادَكَ } على معنى أنزلناه عليك متفرقا لهذا الغرض . قال ابن الأنباري : وهذا أجود وأحسن قال النحاس : وكان ذلك أي إنزال القرآن منجما من إعلام النبوة ، لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه ، وهذا لا يكون إلا من نبي ، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم ، قال ابن عباس : أي لنشدد به فؤادك ، ونربط على قلبك ، والمعنى أنزلناه مفرقا لتعيَه وتحفظه ، فإن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون ، وأنزل القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب سؤال عن أمور تحدث في الأوقات المختلفة ، ففرقناه ليكون أدعى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأيسر على العامل به .

{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا } بديعا ، لا يقادر قدره ومعنى الترتيل أن تكون آية بعد آية ، قاله النخعي والحسن وقتادة ، وقيل إن المعنى بيناه تبيينا ، وقال السدي : فصلناه تفصيلا ، وقال ابن عباس : رسلناه ترسيلا يقول شيئا بعد شيء . وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض ، قال ابن الأعرابي : ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين ، وقيل قرأناه عليك بلسان جبريل شيئا بعد شيء في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل لتيسر فهمه وحفظه .