السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا} (32)

الشبهة الخامسة : لمنكري النبوة ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى : { وقال الذين كفروا } أي : الذين غطوا عداوة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام الله تعالى لإعجازه لهم مفرقاً فضلاً عن كونه مجتمعاً { لولا } أي : هلا { نزل عليه القرآن } أي : " أنزل " بمعنى " نزّل " ك " خبّر " بمعنى " أخبر " لئلا يناقض قولهم { جملة } وأكدوا بقولهم { واحدة } أي : من أوله إلى آخره كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود لتحقق أنه من عند الله تعالى ، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه الذي يرتبه قليلاً قليلاً ، وهذا الاعتراض في غاية السقوط ؛ لأن الإعجاز لا يتخلف بنزوله جملة أو متفرقاً مع أن للتفريق فوائد منها :

ما أشار إليه بقوله تعالى : { كذلك } أي : أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه { لنثبت } أي : نقوي { به فؤادك } أي : قلبك فتعيه وتحفظه ؛ لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً فشيئاً وجزءاً عقب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لتعيا بحفظه والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال داود وموسى عليهم السلام وعيسى حيث كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ ، فأنزله الله عليه منجماً في عشرين سنة ، وقيل : في ثلاث وعشرين سنة ، وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين ؛ ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقاً .

فإن قيل : ذا في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدم هو إنزاله جملة ، فكيف فسر كذلك بأنزلناه مفرقاً ؟ أجيب : بأن الإشارة إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة ، والدليل على فساد هذا الاعتراض أيضاً أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه ، وتحدوا بسورة واحدة من أقصر السور فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المجاذبة ، ثم قالوا : هلا نزل جملة واحدة ؟ كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته ، وقوله تعالى : { ورتلناه ترتيلاً } معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك كأنه قال تعالى : كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً ، ومعنى ترتيله قال ابن عباس : بيناه بياناً ، والترتيل : التبيين في تؤدة وتثبت ، وقال السدي : فصلناه تفصيلاً ، وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض ، وقال الحسن : تفريقاً آية بعد آية ووقعة عقب وقعة ، ويجوز أن يكون المعنى : وأمرنا بترتيل قراءته ، وذلك قوله تعالى : { ورتل القرآن ترتيلاً } ( المزمل ، 4 ) أي : اقرأه بترتل وتثبت .

ومنه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة قراءته : لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها ، وقيل : هو أن ننزله مع كونه متفرقاً على تمكث وتمهل في مدة متباعدة ، وهي عشرون سنة ، ولم نفرقه في مدة متقاربة .