نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا} (32)

ولما ذكر سبحانه شكايته من هجرانهم للقرآن ، وقرر عداوتهم له ونصرته عليهم ، أتبع ذلك بما يدل عليه ، فقال عطفاً على ما مضى من الأشباه في الشبه ، وأظهر موضع الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي حملهم على هذا القول : { وقال الذين كفروا } أي غطوا عداوة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام لإعجازه لهم متفرقاً ، فضلاً عن كونه مجتمعاً ، وغطوا ما وضح لهم من آثاره الظاهرة الشاهدة بوحدانيته ، وغير ذلك من صفاته العلية : { لولا } أي هلا .

ولما كانوا لشدة ضعفهم لا يكادون يسمحون بتسمية القرآن تنزيلاً فضلاً عن أن يسندوا إنزاله إلى الله سبحانه وتعالى ، بنوا للمفعول في هذه الشبهة التي أوردها قولهم : { نُزِّل عليه } ولما عبروا بصيغة التفعيل المشيرة إلى التدريج والتفريق استجلاباً للسامع لئلا يعرض عنهم ، أشاروا إلى أن ذلك غير مراد فقالوا : { القرآن } أي المقتضي اسمه للجمع ؛ ثم صرحوا بالمراد بقولهم : { جملة } وأكدوا بقولهم : { واحدة } أي من أوله إلى آخره بمرة ، ليتحقق أنه من عند الله ، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه هو الذي يرتبه قليلاً قليلاً ، فتعبيرهم بما يدل على التفريق أبلغ في مرادهم ، فإنهم أرغبوا السامع في الإقبال على كلامهم بتوطينه على ما يقارب مراده ، ثم أزالوا بالتدريج أتم إزالة ، فكان في ذلك من المفاجأة بالروعة والإقناط مما أمّل من المقاربة ما لم يكن في " أنزل " والله أعلم .

ولما كان التقدير : وما له ينزل عليه مفرقاً ، وكان للتفريق فوائد جليلة ، أشار سبحانه إلى عظمتها بقوله معبراً للإشارة إلى ما اشتملت عليه من العظمة بأداة البعد : { كذلك } أي أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه { لنثبت به فؤادك } بالإغاثة بتردد الرسل بيننا وبينك ، وبتمكينك وتمكين أتباعك من تفهم المعاني ، وتخفيفاً للأحكام ، في تحميلها أهل الإسلام ، بالتدريج على حسب المصالح ، ولتنافي الحكمة في الناسخ والمنسوخ ، لما رتب فيه من المصالح ، وتسهيلاً للحفظ لا سيما والأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، وتلقيناً للأجوبة في أوقاتها ، وتعظيماً للإعجاز ، لأن ما تحدى بنجم منه فعجز عنه علم أن العجز عن أكثر منه أولى ، فالحاصل أن التفريق أدخل في باب الإعجاز وفي كل حكمة ، فعلم أن هذا الاعتراض فضول ومماراة بما لا طائل تحته من ضيق الفطن ، وقلة الحيلة ، وحرج الخطيرة ، دأب المقطوع المبهوت ، لأن المدار الإعجاز ، وأما كونه جملة أو مفرقاً فأمر لا فائدة لهم فيه ، وليست الإشارة محتملة لأن تكون للكتب الماضية ، لأن نزولها إنما كان منجماً كما بينته في سورة النساء عن نص التوراة المشير إليه نص كتابنا ، لا كما يتوهمه كثير من الناس ، ولا أصل له إلا كذبة من بعض اليهود شبهوا بها على أهل الإسلام فمشت على أكثرهم وشرعوا يتكلفون لها أجوبة ، واليهود الآن معترفون بأن التوراة نزلت في نحو عشرين سنة والله الموفق .

ولما كان إنزاله مفرقاً أحسن ، أكده بقوله عطفاً على الفعل الذي تعلق به " كذلك " { ورتلناه ترتيلاً* } أي فرقناه في الإنزال إليك تفريقاً في نيف وعشرين سنة ؛ وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : بيناه بياناً ، والترتيل : التبين في ترسل وتثبت . انتهى . وأصله ترتيل الأسنان وهو تفليجها كنور الأقحوان .