قوله عز وجل : { فاخلع نعليك } قال : كانتا من جلد حمار ميت . ويروى غير مدبوغ . وقال عكرمة و مجاهد : أمر بخلع النعلين ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدسة ، فتناله بركتها لأنها قدست مرتين ، فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي . { إنك بالواد المقدس } أي المطهر ، { طوىً } ، وطوى اسم الوادي قرأ أهل الكوفة والشام : ( طوىً ) بالتنوين هاهنا وفي سورة النازعات ، وقرأ الآخرون بلا تنوين لأنه معدول به عن ( طاو ) فلما كان معدولاً عن وجهه كان مصروفاً عن إعرابه ، مثل عمر ، وزفر ، وقال الضحاك : ( طوى ) : واد مستدير عميق مثل الطوي في استدارته .
{ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } أخبره أنه ربه ، وأمره أن يستعد ويتهيأ لمناجاته ، ويهتم لذلك ، ويلقي نعليه ، لأنه بالوادي المقدس المطهر المعظم ، ولو لم يكن من تقديسه ، إلا أن الله اختاره لمناجاته كليمه موسى لكفى ، وقد قال كثير من المفسرين : " إن الله أمره أن يلقي نعليه ، لأنهما من جلد حمار " فالله أعلم بذلك .
ثم بين - سبحانه - ما حدث لموسى بعد أن اقترب من النار فقال : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يا موسى إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } .
أى : فلما أتى موسى - عليه السلام - إلى النار ، واقترب منها . . . { نُودِيَ } من قبل الله - عز وجل - { ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ } الذى خلقك فسواك فعدلك . . . { فاخلع نَعْلَيْكَ } تعظيما لأمرنا . وتأدبا فى حضرتنا .
وقوله { إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } تعليل للأمر بخلع النعل ، أى : أزل نعليك من رجليك لأنك الآن موجود بالوادى { المقدس } أى : المظهر المبارك ، المسمى طوى : فهو عطف بيان من الوادى .
ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء : إني أنا ربك فاخلع نعليك . إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك . . .
إن تلك الذرة الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي لا تدركه الأبصار . الجلال الذي تتضاءل في ظله الأرض والسماوات . ويتلقى . يتلقى ذلك النداء العلوي بالكيان البشري . . فكيف ? كيف لولا لطف الله ?
إنها لحظة ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى - عليه السلام - فبحسب الكيان البشري أن يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة . وبحسب البشرية أن يكون فيها الاستعداد لمثل هذا الاتصال على نحو من الأنحاء . . كيف ? لا ندري كيف ! فالعقل البشري ليس هنا ليدرك ويحكم ، إنما قصاراه أن يقف مبهوتا يشهد ويؤمن !
( فلما أتاها نودي يا موسى : إني أنا ربك . . )نودي بهذا البناء للمجهول . فما يمكن تحديد مصدرالنداء ولا اتجاهه . ولا تعيين صورته ولا كيفيته . ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه . . نودي بطريقة ما فتلقى بطريقة ما . فذلك من أمر الله الذي نؤمن بوقوعه ، ولا نسأل عن كيفيته ، لأن كيفيته وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان
يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى . . إنك في الحضرة العلوية . فتجرد بقدميك . وفي الوادي الذي تتجلى عليه الطلعة المقدسة ، فلا تطأه بنعليك .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ يَمُوسَىَ * إِنّيَ أَنَاْ رَبّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدّسِ طُوًى } .
يقول تعالى ذكره : فلما أتى النار موسى ، ناداه ربه : يا مِوسَى إنّي رَبّك فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، قال : خرج موسى نحوها ، يعني نحو النار ، فإذا هي في شجر من العليق ، وبعض أهل الكتاب يقول في عوسجة فلما دنا استأخرت عنه فلما رأى استئخارها رجع عنها ، وأوجس في نفسه منها خيفة فلما أراد الرجعة ، دنت منه ثم كلم من الشجرة ، فلما سمع الصوت استأنس ، وقال الله تبارك وتعالى : يا مُوسَى اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى فخلعها فألفاها .
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه ، فقال بعضهم : أمره بذلك ، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت ، فكره أن يطأ بهما الوادي المقدّس ، وأراد أن يمسه من بركة الوادي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي قلابة ، عن كعب ، أنه رآهم يخلعون نعالهم اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوى فقال : كانت من جلد حمار ميت ، فأراد الله أن يمسه القدس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " قال : كانتا من جلد حمار ميت .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعد ، عن قَتادة ، قال : حدثنا ، أن نعليه كانتا من جلد حمار ، فخلعهما ثم أتاه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج . قال : وأخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة وأبو سفيان ، عن معمر ، عن جابر الجعفي ، عن عليّ بن أبي طالب " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما . قال : وقال قَتادة مثل ذلك .
وقال آخرون : كانتا من جلد بقر ، ولكن الله أراد أن يطأ موسى الأرض بقدميه ، ليصل إليه بركتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال الحسن : كانتا ، يعني نعلي موسى ، من بقر ، ولكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض ، وكان قد قدس مرّتين . قال ابن جُرَيْج : وقيل لمجاهد : زعموا أن نعليه كانتا من جلد حمار أو ميتة ، قال : لا ، ولكنه أمر أن يباشر بقدميه بركة الأرض .
حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر ، يعني ابن علية ، سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالْوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : يقول : أفض بقدميك إلى بركة الوادي .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي ، إذ كان واديا مقدسا .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنجاستهما ، ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة ، وإن في قوله إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ بعقبه دليلاً واضحا ، على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا . ولو كان الخبر الذي :
حدثنا به بشر قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «يَوْمَ كَلّمَ اللّهُ مُوسَى ، كانَتْ عَلَيْهِ جُبّةُ صُوفٍ وكساءُ صُوفٍ ، وسَرَاوِيلُ صُوفٍ ، وَنَعْلانِ مِنْ جِلْدِ حِمارٍ غيرِ مُذَكَى » صحيحا لم نعده إلى غيره ، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه .
واختلفت القراءة في قراءة قوله : " إنّي أنا رَبّكَ " فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة : «نُودِيَ يا مُوسَى أنّي » بفتح الألف من «أني » ، فأنّ على قراءتهم في موضع رفع بقوله : نودي ، فإن معناه كان عندهم : نودي هذا القول . وقرأه بعض عامة قرّاء المدينة والكوفة بالكسر : نُودِيَ يا موسى إني على الابتداء ، وأن معنى ذلك قيل : يا موسى إني .
قال أبو جعفر : والكسر أولى القراءتين عندنا بالصواب ، وذلك أن النداء قد حال بينه وبين العمل في أن قوله «يا موسى » ، وحظ قوله «نودي » أن يعمل في أن لو كانت قبل قوله «يا موسى » ، وذلك أن يقال : نودي أن يا موسى إني أنا ربك ، ولا حظّ لها في «إن » التي بعد موسى .
وأما قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ " فإنه يقول : إنك بالوادي المطهر المبارك ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ " يقول المبارك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، قوله " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : قُدّس بُورك مرّتين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : بالوادي المبارك .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله طُوًى فقال بعضهم : معناه : إنك بالوادي المقدس طويته ، فعلى هذا القول من قولهم طوى مصدر خرج من غير لفظه ، كأنه قال : طويت الوادي المقدس طوى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قوله : " إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " يعني الأرض المقدسة ، وذلك أنه مرّ بواديها ليلاً فطواه ، يقال : طويت وادي كذا وكذا طوى من الليل ، وارتفع إلى أعلى الوادي ، وذلك نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : مرّتين ، وقال : ناداه ربه مرّتين فعلى قول هؤلاء طوى مصدر أيضا من غير لفظه ، وذلك أن معناه عندهم : نودي يا موسى مرّتين نداءين . وكان بعضهم ينشد شاهدا لقوله طوى ، أنه بمعنى مرّتين ، قول عديّ بن زيد العبادي :
أعاذِلَ إنّ اللّوْمَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ *** عَليّ طُوىً مِنْ غَيّكِ المُتَرَدّدِ
وروى ذلك آخرون : «عليّ ثِنىً » : أي مرّة بعد أخرى ، وقالوا : طُوىً ونِثىً بمعنى واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، " فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " كنا نحدّث أنه واد قدّس مرّتين ، وأن اسمه طُوَى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه قدّس طوى مرّتين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال الحسن : كان قد قدّس مرّتين .
وقال آخرون : بل طُوى : اسم الوادي . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : طُوَى : اسم للوادي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طُوى : قال : اسم الوادي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : ذاك الوادي هو طوى ، حيث كان موسى ، وحيث كان إليه من الله ما كان . قال : وهو نحو الطور .
وقال آخرون : بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : حدثنا صالح بن إسحاق ، عن جعفر بن برقان ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تبارك وتعالى : " اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنّكَ بالوَادِ المُقَدّسِ طُوًى " قال : طأ الوادي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله : طُوًى قال : طأ الوادي .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن سعيد بن جبير ، في قول الله طُوًى قال : طأ الأرض حافيا ، كما تدخل الكعبة حافيا ، يقول : من بركة الوادي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد طُوًى طأ الأرض حافيا .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء المدينة : «طُوَى » بضم الطاء وترك التنوين ، كأنهم جعلوه اسم الأرض التي بها الوادي ، كما قال الشاعر :
نَصَرُوا نَبِيّهُمُ وَشَدّوا أزْرَهُ *** بِحُنَيْنَ حِينَ تَوَاكُلِ الأبْطالِ
فلم يجرّ حنين ، لأنه جعله اسما للبلدة لا للوادي ولو كان جعله اسما للوادي لأجراه كما قرأت القرّاء : " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ، إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ " ، وكما قال الاَخر :
ألَسْنا أكْرَمَ الثّقَلَيْنِ رَحْلاً *** وأعْظَمَهُمْ بِبَطْنِ حرَاءَ نارَا
فلم يجرّ حراء ، وهو جبل ، لأنه جعله اسما للبلدة ، فكدلك «طُوَى » في قراءة من لم يجره جعله اسما للأرض . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة : طُوًى بضم الطاء والتنوين وقارئو ذلك كذلك مختلفون في معناه على ما قد ذكرت من اختلاف أهل التأويل فأما من أراد به المصدر من طويت ، فلا مؤنة في تنوينه وأما من أراد أن يجعله اسما للوادي ، فإنه إنما ينوّنه لأنه اسم ذكر لا مؤنث ، وأن لام الفعل منه ياء ، فزاده ذلك خفة فأجراه كما قال الله : " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " إذ كان حنين اسم واد ، والوادي مذكر .
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين ، لأنه إن يكن اسما للوادي فحظه التنوين لما ذكر قبل من العلة لمن قال ذلك ، وإن كان مصدرا أو مفسرا ، فكذلك أيضا حكمه التنوين ، وهو عندي اسم الوادي . وإذ كان ذلك كذلك ، فهو في موضع خفض ردّا على الوادي .
جملة { إنِّي أنا ربُّكَ } بيان لجملة { نُودِيَ } . وبهذا النداء علم موسى أنّ الكلام موجّه إليه من قِبَل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغيّر العوائد التي قررها في الأكوان إلاّ لإرادة الإعلام بأنّ له عناية خاصة بالمغيّر ، فالله تعالى خلق أصواتاً خَلقاً غير معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد ، ولا موجهة له بواسطة ملَك يتولى هو تبليغ الكلام لأنّ قوله { إنِّي أنا ربُّكَ } ظاهر في أنه لم يبلّغ إليه ذلك بواسطة الملائكة ، فلذلك قال الله تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً } [ النساء : 164 ] ، إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى . والمرادُ التي تدلّ عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي . وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزّه عن الحروف والأصوات والتعلّق بالأسماع .
والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه ربّ المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطِبه فإن شأن الرب الرفق بالمربوب .
وتأكيد الخبر بحرف ( إنّ ) لتحقيقه لأجل غرابته دفعاً لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير « أني » بفتح الهمزة على حذف باء الجر . والتقدير : نودي بأني أنا ربّك . والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين .
وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربّه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حلّه التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه .
والخلع : فصل شيء عن شيء كان متّصلاً به .
والنعلان : جلدان غليظان يجعلان تحت الرجل ويشدّان برباط من جلد لوقاية الرِّجل ألم المشي على التّراب والحصى ، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل .
وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيماً منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي . وروى الترمذي{[274]} عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كانت نعلاه من جلد حمارٍ ميّت " أقول : وفيه أيضاً زيادة خشوع . وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى : { إنَّكَ بالوادِ المُقَدَّسِ } فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد . وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكمٌ يقتضي نزع النعل عند الصلاة .
والواد : المَفْرج بين الجبال والتلاللِ . وأصله بياء في آخره . وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثُني لزمتْه الياء يقال : وادِيان ولا يقال وادَان .
وكذلك إذا أضيف يقال : بوادِيك ولا يقال بوادِك .
والمقدّس : المطهّر المنزّه . وتقدم في قوله تعالى : { ونُقدس لك } في أول البقرة ( 30 ) . وتقديس الأمكنة يكون بما يحلّ فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قِبَل الله تعالى .
واختلف المفسرون في معنى طُوَىً } وهو بضم الطاء وبكسرها ، ولم يقرأ في المشهور إلاّ بضم الطاء ، فقيل : اسم لذلك المكان ، وقيل : هو اسم مصدر مثل هُدى ، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول ، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة ، كأنه قيل له : إنك بالواد المقدّس الذي طويتَه سَيراً ، فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد . وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعَدَ إلى أعلاه لتلقي الوحي . وقد قيل : إنّ موسى صَعِدَ أعلى الوادي . وقيل : هو بمعنى المقدس تقديسين ، لأن الطي هو جعل الثوب على شقين ، ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل : { ثم ارجع البصر كرتين } [ الملك : 4 ] . فالمعنى : المقدّس تقديساً شديداً . فاسم المصدر مفعول مطلق مبيّن للعدد ، أي المقدّس تقديساً مضاعفاً .
والظاهر عندي : أنّ { طُوىً } اسم لصنف من الأودية يكون ضيقاً بمنزلة الثوب المطوي أو غائراً كالبئر المطوية ، والبئر تسمى طَوِيّاً . وسمي وادٍ بظاهر مكة ( ذا طوى ) بتثليث الطاء ، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده .
وقد اختلف في ( طوى ) هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو ، مثل عُمر عن عامر .
وقرأ الجمهور { طوى } بلا تنوين على منعه من الصرف . وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف منوّناً ، لأنه اسم واد مذكّر .