الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى} (12)

فيه خمس مسائل :

الأولى-قوله تعالى " فاخلع نعليك " روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف ، وجبة صوف ، وكمة صوف ، وسراويل صوف ، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت ) قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج [ حميد - هو ابن علي الكوفي{[11009]} - ] منكر الحديث ، وحميد بن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة ، والكمة القلنسوة الصغيرة . وقرأ العامة " إني " بالكسر ، أي نودي فقيل له : يا موسى إني ، واختاره أبو عبيد . وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن محيصن وحميد " أني " بفتح الألف بإعمال النداء . واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين . والخلع النزع . والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض . فقيل : أمر بطرح النعلين ؛ لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى ، قاله كعب وعكرمة وقتادة . وقيل : أمر بذلك لينال بركة الوادي المقدس ، وتمس قدماه تربة الوادي ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج . وقيل أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى . وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت . وقيل : إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له . قال سعيد بن جبير : قيل له طأ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا . والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع ، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه ، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها . وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة ، والجثة الكريمة . ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه : ( إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك ) قال : فخلعتهما . وقول خامس : إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد . وقد يعبر عن الأهل بالنعل . وكذلك هو في التعبير{[11010]} : من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج . وقيل : لأن الله تعالى بسط له بساط النور والهدى ، ولا ينبغي أن يطأ بساط رب العالمين بنعله . وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه ، وكان ذلك أول فرض عليه ، كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ( قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر{[11011]} ) [ المدثر : 2 - 3 - 4 - 5 ] والله أعلم بالمراد من ذلك .

الثانية-في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي . وقال أبو الأحوص : زار عبد الله أبا موسى في داره ، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى ، فقال أبو موسى لعبد الله : تقدم . فقال عبد الله : تقدم أنت دارك . فتقدم وخلع نعليه ، فقال عبد الله : أبالوادي المقدس أنت ؟ ! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال : قلت لأنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين ؟ قال نعم . ورواه النسائي عن عبد الله بن السائب : أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره . وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما حملكم على إلقائكم نعالكم ) قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمك( إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا ) وقال : ( إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ) . صححه أبو محمد عبد الحق . وهو بجمع بين الحديثين قبله ، ويرفع بينهما التعارض . ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي ، حتى لقد قال بعض العلماء : إن الصلاة فيهما أفضل ، وهو معنى قوله تعالى : " خذوا زينتكم عند كل مسجد{[11012]} " [ الأعراف : 31 ] على ما تقدم . وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم : لوددت أن محتاجا جاء فأخذها .

الثالثة-فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك ، فإن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه ) قال أبو هريرة للمقبري : اخلعهما بين رجليك ولا تؤذ بهما مسلما . وما رواه عبد الله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما ، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت ، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك ، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك ، ولكن قدام قدميك . وروي عن جبير بن مطعم أنه قال : وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة .

الرابعة : فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول{[11013]} بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء ، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء ، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا ؟ قولان عندنا . وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور . وقال أبو حنيفة : يزيله إذا يبس الحك والفرك ، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول ، فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل . وقال الشافعي : لا يطهر شيئا من ذلك إلا الماء . والصحيح قول من قال : إن المسح يطهره من الخف والنعل ؛ لحديث أبي سعيد . فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق ، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث ، على ما تقدم بيانه في سورة " النحل " {[11014]} ومضى في سورة " براءة " {[11015]} القول في إزالة النجاسة والحمد لله .

الخامسة-قوله تعالى : " إنك بالوادي المقدس طوى " المقدس : المطهر . والقدس : الطهارة ، والأرض المقدسة أي المطهرة ، سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين . وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض ، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض ، ولبعض الحيوان كذلك . ولله أن يفضل ما شاء . وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين ، فقد شاركه في ذلك غيره . و( طوى ) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وقال الضحاك هو واد عميق مستدير مثل الطوي . وقرأ عكرمة " طِوًى " . الباقون " طُوًى " . قال الجوهري : " طوى " اسم موضع بالشام ، تكسر طاؤه وتضم ، ويصرف ولا يصرف ، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة . وقال بعضهم : " طوى " مثل " طوى " وهو الشيء المثني ، وقالوا في قوله " المقدس طوى " : طوي مرتين أي قدس . وقال الحسن : ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين . وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قيل له " طوى " لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي ، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه ، فكأنه قال : ( إنك بالواد المقدس ) الذي طويته طوى ، أي تجاوزته فطويته بسيرك . الحسن : معناه أنه قدس مرتين ، فهو مصدر من طويته طوى أيضا .


[11009]:الزيادة من الترمذي.
[11010]:قوله في التعبير: يعني تعبير الرؤيا.
[11011]:من ب و جـ و ز و ط و ي.
[11012]:راجع جـ 7 ص 188 فما بعد.
[11013]:في ك: من قبل.
[11014]:راجع جـ 10 ص 156 فما بعد.
[11015]:راجع جـ 8 ص 262 فما بعد.