قوله : { إِنِّي } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح على تقدير الباء أي : بأِنِّي{[23288]} ، لأن{[23289]} النداء{[23290]} يوصل بها . تقول{[23291]} : ناديتُه بكذا ، وأنشد الفارسيُّ{[23292]} قول الشاعر :
نَادَيْتُ باسْمِ رَبيعَةَ بنِ مُكْدَّمٍ *** إنَّ المُنَوَّه باسْمِهِ المَوْثُوقُ{[23293]}
وجوز ابن عطية أن تكون بمعنى : لأجل{[23294]} ، وليس بظاهر . والباقون بالكسر{[23295]} إمَّا على إضمار القول كما هو رأي البصريين ( أي فقيل ){[23296]} {[23297]} . وإما{[23298]} لأن النداء في معنى القول عند الكوفيين{[23299]} . وقوله : { أَنَّا } يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبر والجملة خبر ( إنَّ ) ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب{[23300]} . ويجوز أن يكون ( فصلاً ){[23301]} {[23302]} .
قال المفسرون : لمَّا نُودِي يَا مُوسَى{[23303]} أجاب سريعاً ما يدري{[23304]} من دعاه ، فقال : إنِّي أسمع{[23305]} صوتك ولا أرَى مكانَك ، فأين أنت ؟ فقال : أنا فوقَكَ ، وَمعَكَ ، وأمَامَكَ ، وخلفَكَ ، وأقربُ إليكَ منْ نفسِك . فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا الله عزّ وجلّ فأيقن به . " فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " روى ابن مسعود مرفوعاً في قوله : { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ } قيل : كانَتَا{[23306]} من جلد حمار ميت . ويروى غير مدبوغ .
وقال عكرمة ومجاهد : ليباشر بقَدَمَيْه{[23307]} تراب{[23308]} الأرض المقدسة ، فيناله بركتها ، لأنه قُدِّسَتْ مرتين ، فخلعهما وأَلقاهُما من وراء الوادي{[23309]} .
قيل : إنه عرف أن المنادي هو الله تعالى ، لأنه رأى النار في الشجرة الخضراء{[23310]} بحيث أن الخُضْرة{[23311]} ما كانت تطفئ تلك النار ، وتلك النار ما كانت تنضر بتلك الخُضْرة ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى{[23312]} .
قوله : { طُوَى } قرأ الكوفيون{[23313]} وابنُ عامر " طُوًى " بضم الطاء والتنوين .
وقرأ الباقون{[23314]} : بضمها من غير تنوين{[23315]} .
وقرأ الأعمش والحسن وأبو حيوة{[23316]} وابن محيصن بكسر الطاء منوناً{[23317]} ، وأبو{[23318]} زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون{[23319]} .
فمن ضمَّ ونوَّنَ فإنه صرفه : لأنَّه أوَّله بالمكان{[23320]} . ومن منعه فيحتمل أوجهاً{[23321]} :
أحدها{[23322]} : أنه منعه للتأنيث باعتبار والعلمية{[23323]} .
الثاني{[23324]} : أنَّه منعه للعدل إلى فُعَل ، وإن لم يعرف اللفظ المعدول{[23325]} عنه وجعله كُعَمر وزُفَر{[23326]} .
الثالث : أنه اسم أعجميٌّ فمَنْعُهُ للعلمية والعجمة{[23327]} . ومن كَسَر ولم يُنوّن فباعتبار البقعة أيضاً{[23328]} . فإن كان اسماً فهو نظير عِنَب ، وإن كان صفة فهو نظير عِدَى وسِوَى{[23329]} . ومن نَوَّنه فباعتبار المكان{[23330]} .
وعن الحسن البصري : أنه بمعنى الثناء بالكسر والقصر ، والثناء المتكرر مرتين فيكون معنى هذه القراءة : أنه طهر مرتين ، فيكون مصدراً منصوباً بلفظ ( المقدس ) ، لأنه بمعناه ، كأنه قيل : المقدس مرتين من التقديس{[23331]} .
وقرأ عيسى بن عمر والضَّحَّاك " طَاوِيْ اذْهِب " {[23332]} . وطُوَى{[23333]} : إما بدل من الوادي{[23334]} أو عطف{[23335]} بيان له{[23336]} . أو مرفوع على إضمار مبتدأ{[23337]} ، أو منصوب على إضمار أعْنِي .
فصل{[23338]}
استدلت المعتزلة بقوله : { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ } على أن كلام الله تعالى ليس{[23339]} بقديم ، إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى : اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى ، ومعلوم أن ذلك سفه ، فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا يزيد افعل ، ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً{[23340]} لا{[23341]} يكونان حاضرين{[23342]} يعد ذلك جنوناً وسفهاُ .
فكيف يليق ذلك{[23343]} بالإله سبحانه وتعالى ؟ وأجيب عن ذلك بوجهين :
الأول : أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً .
الثاني : أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء ، كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ، ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة ، فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة ، فكذا ههنا ، وهذا كلام فيه غموض وبحث دقيق .
فصل{[23344]}
قال بعضهم : في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل ، والصحيح عدم الكراهة ، لأنا عللنا الأمر بخلع النعلين لتعظيم الوادي ، وتعظيم كلام{[23345]} الله تعالى كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة .
وإن عللناه بأن النعليْن كانتا من جلد حمار ميِّت ، فجائز أن يكون محظوراً لبس جلد الحمار الميت ، وإن كان مدبوغاً ، فإنْ كان ذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ طَهُرَ " {[23346]} " وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نعليْه ثم خلعهما في الصلاة ، فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم ؟ قالوا : خلعتَ فخلعنا قال : " فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ{[23347]} أخبرَنِي أنَّ فيهِمَا قذراً " {[23348]} فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في النعل{[23349]} ، وأنكر على الخالعين خلعها ، وأخبرهم أنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر .
قال عكرمة وابن زيد : طُوَى : اسم للوادي{[23350]} .
قال الضَّحاك : طُوَى : واد{[23351]} مستدير عميق الطويّ في استدارته{[23352]} .
وقيل : طُوَى معناه مرتين نحو ثنى . أي : قدِّس الوادي مرتين أي : نُودِيَ{[23353]} موسَى نِدَاءَيْن{[23354]} يقال : ناديته طُوًى أي : مثنى{[23355]} . وقيل : طُوى أي ؛ طيًّا . قال ابن عباس : إنه مرَّ بذلك الوادي ليلاً{[23356]} فطواه{[23357]} ، فكان المعنى بالوادي الذي طويته طيًّا أي : قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ، ومن ذهب إلى هذا قال : طُوًى مصدر أخرج عن لفظه ، كأنه قال : طويتُه أطوِي طُوًى كما يقال : هدى يهدي هُدًى{[23358]} .