اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى} (12)

قوله : { إِنِّي } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح على تقدير الباء أي : بأِنِّي{[23288]} ، لأن{[23289]} النداء{[23290]} يوصل بها . تقول{[23291]} : ناديتُه بكذا ، وأنشد الفارسيُّ{[23292]} قول الشاعر :

نَادَيْتُ باسْمِ رَبيعَةَ بنِ مُكْدَّمٍ *** إنَّ المُنَوَّه باسْمِهِ المَوْثُوقُ{[23293]}

وجوز ابن عطية أن تكون بمعنى : لأجل{[23294]} ، وليس بظاهر . والباقون بالكسر{[23295]} إمَّا على إضمار القول كما هو رأي البصريين ( أي فقيل ){[23296]} {[23297]} . وإما{[23298]} لأن النداء في معنى القول عند الكوفيين{[23299]} . وقوله : { أَنَّا } يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبر والجملة خبر ( إنَّ ) ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب{[23300]} . ويجوز أن يكون ( فصلاً ){[23301]} {[23302]} .

فصل

قال المفسرون : لمَّا نُودِي يَا مُوسَى{[23303]} أجاب سريعاً ما يدري{[23304]} من دعاه ، فقال : إنِّي أسمع{[23305]} صوتك ولا أرَى مكانَك ، فأين أنت ؟ فقال : أنا فوقَكَ ، وَمعَكَ ، وأمَامَكَ ، وخلفَكَ ، وأقربُ إليكَ منْ نفسِك . فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا الله عزّ وجلّ فأيقن به . " فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " روى ابن مسعود مرفوعاً في قوله : { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ } قيل : كانَتَا{[23306]} من جلد حمار ميت . ويروى غير مدبوغ .

وقال عكرمة ومجاهد : ليباشر بقَدَمَيْه{[23307]} تراب{[23308]} الأرض المقدسة ، فيناله بركتها ، لأنه قُدِّسَتْ مرتين ، فخلعهما وأَلقاهُما من وراء الوادي{[23309]} .

قيل : إنه عرف أن المنادي هو الله تعالى ، لأنه رأى النار في الشجرة الخضراء{[23310]} بحيث أن الخُضْرة{[23311]} ما كانت تطفئ تلك النار ، وتلك النار ما كانت تنضر بتلك الخُضْرة ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى{[23312]} .

قوله : { طُوَى } قرأ الكوفيون{[23313]} وابنُ عامر " طُوًى " بضم الطاء والتنوين .

وقرأ الباقون{[23314]} : بضمها من غير تنوين{[23315]} .

وقرأ الأعمش والحسن وأبو حيوة{[23316]} وابن محيصن بكسر الطاء منوناً{[23317]} ، وأبو{[23318]} زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون{[23319]} .

فمن ضمَّ ونوَّنَ فإنه صرفه : لأنَّه أوَّله بالمكان{[23320]} . ومن منعه فيحتمل أوجهاً{[23321]} :

أحدها{[23322]} : أنه منعه للتأنيث باعتبار والعلمية{[23323]} .

الثاني{[23324]} : أنَّه منعه للعدل إلى فُعَل ، وإن لم يعرف اللفظ المعدول{[23325]} عنه وجعله كُعَمر وزُفَر{[23326]} .

الثالث : أنه اسم أعجميٌّ فمَنْعُهُ للعلمية والعجمة{[23327]} . ومن كَسَر ولم يُنوّن فباعتبار البقعة أيضاً{[23328]} . فإن كان اسماً فهو نظير عِنَب ، وإن كان صفة فهو نظير عِدَى وسِوَى{[23329]} . ومن نَوَّنه فباعتبار المكان{[23330]} .

وعن الحسن البصري : أنه بمعنى الثناء بالكسر والقصر ، والثناء المتكرر مرتين فيكون معنى هذه القراءة : أنه طهر مرتين ، فيكون مصدراً منصوباً بلفظ ( المقدس ) ، لأنه بمعناه ، كأنه قيل : المقدس مرتين من التقديس{[23331]} .

وقرأ عيسى بن عمر والضَّحَّاك " طَاوِيْ اذْهِب " {[23332]} . وطُوَى{[23333]} : إما بدل من الوادي{[23334]} أو عطف{[23335]} بيان له{[23336]} . أو مرفوع على إضمار مبتدأ{[23337]} ، أو منصوب على إضمار أعْنِي .

فصل{[23338]}

استدلت المعتزلة بقوله : { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ } على أن كلام الله تعالى ليس{[23339]} بقديم ، إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى : اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى ، ومعلوم أن ذلك سفه ، فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا يزيد افعل ، ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً{[23340]} لا{[23341]} يكونان حاضرين{[23342]} يعد ذلك جنوناً وسفهاُ .

فكيف يليق ذلك{[23343]} بالإله سبحانه وتعالى ؟ وأجيب عن ذلك بوجهين :

الأول : أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً .

الثاني : أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء ، كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ، ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة ، فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة ، فكذا ههنا ، وهذا كلام فيه غموض وبحث دقيق .

فصل{[23344]}

قال بعضهم : في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل ، والصحيح عدم الكراهة ، لأنا عللنا الأمر بخلع النعلين لتعظيم الوادي ، وتعظيم كلام{[23345]} الله تعالى كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة .

وإن عللناه بأن النعليْن كانتا من جلد حمار ميِّت ، فجائز أن يكون محظوراً لبس جلد الحمار الميت ، وإن كان مدبوغاً ، فإنْ كان ذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ طَهُرَ " {[23346]} " وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نعليْه ثم خلعهما في الصلاة ، فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم ؟ قالوا : خلعتَ فخلعنا قال : " فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ{[23347]} أخبرَنِي أنَّ فيهِمَا قذراً " {[23348]} فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في النعل{[23349]} ، وأنكر على الخالعين خلعها ، وأخبرهم أنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر .

فصل

قال عكرمة وابن زيد : طُوَى : اسم للوادي{[23350]} .

قال الضَّحاك : طُوَى : واد{[23351]} مستدير عميق الطويّ في استدارته{[23352]} .

وقيل : طُوَى معناه مرتين نحو ثنى . أي : قدِّس الوادي مرتين أي : نُودِيَ{[23353]} موسَى نِدَاءَيْن{[23354]} يقال : ناديته طُوًى أي : مثنى{[23355]} . وقيل : طُوى أي ؛ طيًّا . قال ابن عباس : إنه مرَّ بذلك الوادي ليلاً{[23356]} فطواه{[23357]} ، فكان المعنى بالوادي الذي طويته طيًّا أي : قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ، ومن ذهب إلى هذا قال : طُوًى مصدر أخرج عن لفظه ، كأنه قال : طويتُه أطوِي طُوًى كما يقال : هدى يهدي هُدًى{[23358]} .


[23288]:انظر السبعة 317، الحجة لابن خالويه (240)، الكشف 2/96، النشر 2/319 الإتحاف (302).
[23289]:في ب: أي لأنّ البنا.
[23290]:في ب: والنداء.
[23291]:في ب: فيقال.
[23292]:انظر إيضاح الشعر 439.
[23293]:البيت من بحر الكامل ولم ينسبه أبو علي إلى قائل. وهو في إيضاح الشعر 459، تفسير ابن عطية: 10/9، البحر المحيط 6/230، الخزانة 6/57، المنوه: ناه الشيء ينوه ارتفع وعلا، يقال: نوّه فلان باسمه، ونوّه فلان بفلان إذا رفعه وطير به وقوّاه. الموثوق: يريد الموثوق به. والشاهد فيه قوله (ناديت باسم)، حيث وصل الفعل (نادى) بحرف الجر. وفيه شاهد آخر وهو أن الحذف من الصلات قد جاء في الشعر والتقدير: الموثوق به.
[23294]:تفسير ابن عطية 10/9.
[23295]:انظر السبعة (417)، الحجة لابن خالويه (240)، الكشف 2/96، النشر 2/319 الإتحاف (302).
[23296]:الكشاف 2/428، التبيان 2/886، البحر المحيط 6/230.
[23297]:ما بين القوسين في ب: أو فعيل. وهو تحريف.
[23298]:وأما: سقط من ب.
[23299]:انظر البحر المحيط 6/230.
[23300]:لأن الضمير المرفوع المنفصل يؤكد به كل ضمير متصل مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا، قال السيوطي: (ويؤكد بالضمير المرفوع المنفصل كل ضمير متصل مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا مع مطابقته البدل له في التكلم والإفراد والتذكير وأضدادها نحو قمت أنا، وأكرمتني أنا، ومررت بك أنت، وأكرمته هو وهكذا) همع الهوامع 2/125.
[23301]:انظر التبيان 2/886، البحر المحيط 6/230.
[23302]:في ب: فعلا. وهو تحريف.
[23303]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/414. بتصرف يسير.
[23304]:في ب: لا.
[23305]:في ب: سمعت.
[23306]:في النسختين: كانت، وما أثبته هو الصواب.
[23307]:في الأصل: برجليه.
[23308]:في ب: تراب الوادي أغنى.
[23309]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/414 بتصرف يسير.
[23310]:في ب: الخضرة. وهو تحريف.
[23311]:في ب: الشجرة وهو تحريف.
[23312]:انظر الفخر الرازي 22/17.
[23313]:وهم: عاصم، حمزة، والكسائي.
[23314]:وهم: ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو.
[23315]:انظر السبعة: 417، الحجة لابن خالويه (340)، الكشف 2/96 النشر 2/319، الإتحاف (302).
[23316]:في ب: أبو حيان. وهو تحريف.
[23317]:انظر البحر المحيط 6/231، والإتحاف : 302.
[23318]:في الأصل: أبي. وهو تحريف.
[23319]:انظر السبعة: 147. والبحر المحيط 6/231.
[23320]:انظر البيان 2/139، والتبيان 2/886، والبحر المحيط 6/231.
[23321]:في ب: وجهان. وهو تحريف.
[23322]:في ب: الأول.
[23323]:انظر البيان 2/139، والتبيان 2/886، والبحر المحيط 6/231.
[23324]:في ب: والثاني.
[23325]:في ب: للعدول. وهو تحريف.
[23326]:البيان 2/139، التبيان 2/886، البحر المحيط 6/231. العدل: هو صرفك لفظا أولى بالمسمى إلى آخر، وهو فرع عن غيره، لأن أصل الاسم أن لا يكون محرفا عما يستحقه بالوضع لفظا أو تقديرا، ويمنع من الصرف مع الوصفية والعلمية، فالأول مقصور على شيئين: أحدهما: أخر جمع أخرى تأنيث آخر. والثاني: ألفاظ العدد المعدولة على وزن فعال ومفعل، والمسموع من ذلك أحاد وموحد، وثنى ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، وخماس ومخمس وعشار ومعشر. ويمنع مع العلمية في خمسة أشياء: أحدها: ما جاء على فعل موضوعا علما، وهو معدول عن صيغة فاعل، والمسموع من ذلك: عمر، زفر، مضر، ثعل، هبل، زحل، عُصم، قُزح، جشم، جمح، جحا، دلف، بلع، بطن، وذكر الأخفش أن طوى من هذا النوع. الثاني: فعل المختص بالنداء كفسق، غدر، لكع، فإنها معدولة عن فاسق، غادر، ألكع. الثالث: فعل المؤكد به، وهو جمع كتع، بصع، بتع، جمع جمعاء، كتعاء بصعاء بتعاء. الرابع: سحر الملازم الظرفية، وهو المعين، أي المراد به وقت بعينه. الخامس: فعال علم المؤنث، كحذام، قطام، رقاش، غلاب سجاح أعلام لنسوة، وسكاب لفرس، وعرار لبقرة، وظفار لبلدة. الهمع 1/25 – 29.
[23327]:البحر المحيط 6/231. المراد بالعجمي: كل ما نقل إلى اللسان العربي من لسان غيرها سواء كان من لغة الفرس أو الروم أم الحبشة أم الهند أم البربر أم الإفرنج أم غير ذلك، وتعرف عجمة الاسم بوجوه، أحدها: أن تنقل ذلك الأئمة. الثاني: خروجه عن أوزان الأسماء العربية نحو: إبريسم، فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي. الثالث: أن يكون في أوله نون بعدها راء نحو: نرجس، أو آخره زاي بعد دال نحو مهندزه فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. الرابع: أن يجتمع في الكلمة من الحروف ما لا يجتمع في كلام العرب كالجيم والصاد نحو: صولجان، أو والقاف نحو منجنيق، أو الكاف نحو: أسرجة الخامس: أن يكون عاريا من حروف الذلاقة، وهو خماسي، أو رباعي، وحروف الذلاقة ستة يجمعها قولك (مر بنفل) الهمع 1/32 – 33.
[23328]:البحر المحيط 6/231.
[23329]:التبيان 2/886.
[23330]:الكشف 2/96، البيان 2/139، التبيان 2/886.
[23331]:البحر المحيط 6/231.
[23332]:المختصر (87)، المحتسب 472، البحر المحيط 6/231.
[23333]:طُوى: سقط من ب.
[23334]:البيان 2/139، التبيان 2/886، البحر المحيط 6/231.
[23335]:عطف: سقط من ب.
[23336]:البحر المحيط 6/231.
[23337]:أي: هو طوى. التبيان 2/886.
[23338]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/17 – 18.
[23339]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23340]:في الأصل: مع أن زيد وعمرو. وهو تحريف.
[23341]:في الأصل: لم. وهو تحريف.
[23342]:في الأًصل: حاضرون. وهو تحريف.
[23343]:في ب: ذلك يليق.
[23344]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/18.
[23345]:كلام : سقط في ب.
[23346]:أخرجه مسلم (حيض) 1/277، وأبو داود (لباس) 4/367، والترمذي (لباس) 3/135، والنسائي (فرع) 7/173، ومالك (صيد) 2/498 وأحمد 1/211، 270، 343. الإرهاب: الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ. اللسان (أهب).
[23347]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23348]:أخرجه أبو داود (صلاة) 1/426 – 427، والدارمي (صلاة) 1/320، أحمد 3/20، 92.
[23349]:في ب: فلم يره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكره الصلاة في النعل.
[23350]:انظر الفخر الرازي 22/18.
[23351]:واد: سقط من ب.
[23352]:انظر البغوي 5/414 – 415.
[23353]:في ب: نادى.
[23354]:في ب: للمرائين. وهو تحريف.
[23355]:انظر الفخر الرازي 22/18.
[23356]:ليلا: سقط من ب.
[23357]:في ب: وطواه.
[23358]:انظر الفخر الرازي 22/18.