قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم } . أي ولا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم .
قوله تعالى : { بل هو } . يعني البخل .
قوله تعالى : { شر لهم سيطوقون } . أي سوف يطوقون .
قوله تعالى : { ما بخلوا به يوم القيامة } . يعني يجعل ما منعه من الزكاة حيةً تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا علي بن عبد الله المديني ، أنا هاشم بن قاسم ، أخبرنا عبد الرحمن بن دينار ، عن أبيه عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ، يعني شدقيه ، ثم يقول :أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا ( ولا يحسبن الذين يبخلون ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن حفص بن غياث ، أنا أبي أنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : انتهيت إليه ، يعني : النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، أو والذي لا إله غيره أو كما حلف ، ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاوزت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس .
قال إبراهيم النخعي معنى الآية ، يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من النار ، قال مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم .
وروى عطية عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) . ومعنى قوله " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، أي يحملون وزره وإثمه ، كقوله تعالى ( يحملون أوزارهم على ظهورهم ) .
قوله تعالى : { ولله ميراث السماوات والأرض } . يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم ، نظيره قوله تعالى ( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ) .
قوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } . قرأ أهل البصرة ومكة بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
أي : ولا يظن الذين يبخلون ، أي : يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله ، من المال والجاه والعلم ، وغير ذلك مما منحهم الله ، وأحسن إليهم به ، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده ، فبخلوا بذلك ، وأمسكوه ، وضنوا به على عباد الله ، وظنوا أنه خير لهم ، بل هو شر لهم ، في دينهم ودنياهم ، وعاجلهم وآجلهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي : يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم ، يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح ، " إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك ، أنا كنزك " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك ، هذه الآية .
فهؤلاء حسبوا أن بخلهم نافعهم ، ومجد عليهم ، فانقلب عليهم الأمر ، وصار من أعظم مضارهم ، وسبب عقابهم .
{ ولله ميراث السماوات والأرض } أي : هو تعالى مالك الملك ، وترد جميع الأملاك إلى مالكها ، وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ولا دينار ، ولا غير ذلك من المال .
قال تعالى : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب الغائي ، الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله .
أخبر أولا : أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة ، ليس ملكا للعبد ، بل لولا فضل الله عليه وإحسانه ، لم يصل إليه منه شيء ، فمنعه لذلك منع لفضل الله وإحسانه ؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى : { وأحسن كما أحسن الله إليك }
فمن تحقق أن ما بيده ، فضل من الله ، لم يمنع الفضل الذي لا يضره ، بل ينفعه في قلبه وماله ، وزيادة إيمانه ، وحفظه من الآفات .
ثم ذكر ثانيا : أن هذا الذي بيد العباد كلها ترجع إلى الله ، ويرثها تعالى ، وهو خير الوارثين ، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك .
ثم ذكر ثالثا : السبب الجزائي ، فقال : { والله بما تعملون خبير } فإذا كان خبيرا بأعمالكم جميعها -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات ، والعقوبات على الشر- لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب ، ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء مصير الذين يبخلون بنعم الله ، فلا يؤدون حقها . ولا يقومون بشكرها فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } .
وقوله { يَبْخَلُونَ } من البخل وهو ضد الجود والسخاء ، ومعناه : أن يقبض الإنسان يده عن إعطاء الشىء لغيره ، وأن يحرص حرصاً شديداً على ما يملكه من مال أو علم أو غير ذلك .
ويرى جمهور المفسرين أن المراد بالبخل هنا البخل بالمال ، لأنه هو الذى يتفق مع السياق .
ويرى بعضهم أن المراد بالبخل هنا البخل بالعلم وكتمانه ، وذلك لأن اليهود كتموا صفات النبى صلى الله عليه وسلم التى جاءت بها التوراة .
والذى تراه أن ما عليه الجمهور هو الأرجح ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، وهو المتفق من سياق الكلام .
ولذا قال الآلوسى : قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } بيان لحال البخل وسوء عاقبته ، وتخطئة لأهله فى دعواهم خيريته عقب بيان حال الإملاء . . .
وقيل : وجه الارتباط أنه - تعالى - لما بالغ فى التحريض على بذل الأرواح فى الجهاد وغيره ، شرع هنا فى التحريض على بذل المال ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل به " .
والمعنى : ولا يظنن أولئك الذين يبخلون بما أعطاهم الله من نعم وأموال أن بخلهم فيه خير لهم ، كلا ، بل إن بخلهم هذا فيه شر عظيم لهم .
والنهى عن الحسبان بأن البخل فيه خير فى قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } يدل على النفى المؤكد .
اى لا يصح لهم أن يظنوا بأية حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم . بل الحقيقة أن فيه شراً كبيراً لهم .
وفى قوله { بِمَآ آتَاهُمُ الله } إشعار بسوء صنيعهم ، وخبث نفوسهم ، حيث بخلوا بشىء ليس وليد عملهم واجتهادهم ، وإنما هذا الشىء منحه الله - تعالى - لهم بفضله وجوده ، فكان الأولى لهم أن بشكروه على ما أعطى ، وأن يبذلوا مما أعطاهم فى سبيله .
والضمير " هو " يعود على البخل المستفاد من قوله { يَبْخَلُونَ } .
ويرى الزمخشرى أنه ضمير فصل لتأكيد نفى الظن فى الخيرية .
وفى إعادة الضمير ، وذكر الجملة الإسمية فى قوله { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } تأكيد لمعنى الشر فى البخل ، وأنه لا خير من ورائه قط ، ففى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .
ثم بين - سبحانه - المصير المؤلم لأولئك البخلاء فقلا - تعالى - { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } .
وقوله { سَيُطَوَّقُونَ } مشتق من الطوق ، وهو ما يلبس من أسفل الرقبة . أى تجعل أموالهم أطواقا حول رقابهم ، وأغلالا حول أجسادهم ، فيعذبون عذابا أليما بحملها .
وجمهور المفسرين على أن الكلام على ظاهره ، وأن عذاب هؤلاء البخلاء بنعم الله ، سيكون نوعا من العذاب الأخروى المحسوس . وقد أيد القرطبى هذا الاتجاه فقال :
" وهذه الآية نزلت فى البخل بالمال والإنفاق فى سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ، ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم : ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل .
قالوا : ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } هو الذى ورد لى الحديث عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - أى شدقيه - ثم يقول له . أنا مالك أنا كنزك . ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
ويرى بعض العلماء أن هذا الوعيد على سبيل التمثيل ، وأن الظاهر غير مراد ومعنى قوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } عند هذا البعض : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم ، فلا يأتون لأنهم ليس فى قدرتهم ذلك .
و المعنى : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، ويتحملون وزر ذلك يوم القيامة .
فالآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الجود والسخاء من أجل إعلاء كلمة الله ، وتتوعد البخلاء باقسى ألوان الوعيد وأفطعها . وتبين أن كل ما فى هذا الكون إنما هو ملك لله - تعالى - وحده ، فهو المعطى وهو المانع ، ولذا قال - تعالى - : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
والميراث : مصدر كالميعاد . وأصله موارث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . والمراد به ما يتوارث .
والمعنى : أن لله - تعالى - وحده لا لأحد غيره ما فى السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما بال هؤلاء القوم يبخلون عليه بما يملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله . وعلى هذا يكون الكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه .
ويصح أن يكون المعنى : أن الله - تعالى - يرث من هؤلاء ما فى أيديهم مما بخلوا به من مال وغيره وينتقل منهم إليه حين يميتهم ويفنيهم ، وتبقى الحسرة والندامة عليهم . وعلى هذا يكون الكلام على سبيل المجاز .
قال الزجاج : أى أن الله - تعالى - يفنى أهلهما . فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك . فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ، ملكا له " .
وقوله { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } تذييل قصد به حضهم على الإنفاق ، ونهيهم عن البخل ، أى أن الله - تعالى - خبير ومطلع على ما يصدر عنكم من سخاء أو بخل أو غيرهما ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا الحسنى .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، وبشرتهم بأن العاقبة ستكون لهم ، وفضحت المنافقين وهتكت ما تستروا به من ريا وخداع ، وبينت أن من سنن الله فى خلقه أن يبتلى عباده بشتى ألوان البلاء ليتميز الخبيث من الطيب ، وأنه - سبحانه - يلمى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وأن البخلاء بما آتاهم الله من فضله ستكون عاقبتهم شرا ، ومصيرهم إلى العذاب الأليم .
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض ، والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم ، إن كنتم صادقين ؟ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة ، عم تعنيهم ، ومن تحذرهم البخل ، وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات ، في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .
وقد نزل هذا التحذير التهديدي ، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم ، ومن كذب تعلاتهم ؛ ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم ، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل ، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل :
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير )
إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم ، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم ، يحفظ لهم أموالهم ، فلا تذهب بالإنفاق .
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم ( يبخلون بما آتاهم الله من فضله ) . . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا " من فضله " شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل ، وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) . . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده ، بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !
{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لّهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لّهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَلونَ } بالياء من يحسبنّ وقرأته جماعة أخر : «وَلا تَحسَبنّ » بالتاء .
ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : لا يحسبنّ الباخلون البخل هو خيرا لهم . فاكتفى بذكر يبخلون من البخل ، كما تقول : قدم فلان فسررت به ، وأنت تريد فسررت بقدومه ، وهو عماد . وقال بعض نحويي أهل البصرة : إنما أراد بقوله : «وَلا تَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَلونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ » لا تحسبن البخل هو خيرا لهم ، فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان به وهو البخل ، لأنه قد ذكر الحسبان ، وذكر ما آتاهم الله من فضله ، فأضمرهما إذ ذكرهما ، قال : وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا ، قال : { لا يَستَوِي مِنكُمْ مَنْ انْفَقَ مِنْ قَبْل الفَتْحِ وَقاتَلَ } ولم يقل : ومن أنفق من بعد الفتح ، لأنه لما قال : { أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ } كان فيه دليل على أنه قد عناهم .
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة ، أن «من » في قوله : { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ } في معنى جمع . ومعنى الكلام : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم ، فكيف من أنفق من بعد الفتح ، فالأول مكتف . وقال في قوله : { لا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خيْرا لَهُمْ } محذوف ، غير أنه لم يحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف ، لأن «هو » عائد البخل ، و«خيرا لهم » عائد الأسماء ، فقد دلّ هذان العائدان على أن قبلهما اسمين ، واكتفى بقوله : يبخلون ، من البخل . قال : وهذا إذا قرىء بالتاء ، فالبخل قبل الذين ، وإذا قرىء بالياء ، فالبخل بعد الذين ، وقد اكتفى بالذين يبخلون من البخل ، كما قال الشاعر :
إذَا نُهِيَ السّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ *** وخالَفَ وَالسّفيهُ إلى خِلافِ
كأنه قال : جرى إلى السفه ، فاكتفى عن السفه بالسفيه ، كذلك اكتفى بالذين يبخلون من البخل .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالتاء بتأويل : ولا تحسبنّ أنت يا محمد بخل الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله ، هو خيرا لهم ، ثم ترك ذكر البخل ، إذ كان في قوله هو خيرا لهم ، دلالة على أنه مراد في الكلام ، إذ كان قد تقدّمه قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضلِهِ } .
وإنما قلنا قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء ، لأن المحسبة من شأنها طلب اسم وخبر ، فإذا قرىء قوله : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالياء لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : { هُوَ خَيْرا لَهُمْ } خبرا عنه ، وإذا قرىء ذلك بالتاء كان قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } اسما له ، قد أدّى عن معنى البخل الذي هو اسم المحسبة المتروك ، وكان قوله : { هُوَ خَيْرا لَهُمْ } خبرا لها ، فكان جاريا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح . فلذلك اخترنا القراءة بالتاء في ذلك على ما بيناه ، وإن كانت القراءة بالياء غير خطأ ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب .
وأما تأويل الاَية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبنّ يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال ، فلا يخرجون منه حقّ الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات هو خيرا لهم عند الله يوم القيامة ، بل هو شرّ لهم عنده في الاَخرة . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُو شَرّ لَهُمْ » : هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدّوا زكاتها .
وقال آخرون : بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، قال : قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » . . . إلى { سُيَطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني بذلك : أهل الكتاب أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » قال : هم يهود ، إلى قوله : { وَالكتاب المُنِير } .
وأولى التأويلين بتأويل هذه الاَية التأويل الأوّل وهو أنه معنيّ بالبخل في هذا الموضع : منع الزكاة لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأوّل قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : البخيل الذي منع حقّ الله منه أنه يصير ثعبانا في عنقه ، ولقول الله عقيب هذه الاَية : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهْ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغْنِياءُ } فوصف جلّ ثناؤه قول المشركين من اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقير .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخَلِوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { سَيُطَوّقُونَ } : سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاة طوقا في أعناقهم ، كهيئة الأطواق المعروفة . كالذي :
حدثني الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن أبي مالك العبدي ، قال : ما من عبد يأتيه ذو رحم له يسأله من فضل عنده فيبخل عليه إلا أخرج له الذي بخل به عليه شجاعا أقرع . وقال : وقرأ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ » . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن رجل ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِيَ ذَا رَحِمِهِ فَيَسألُهُ فَضْلٍ جَعَلَهُ الله عِنْدَهُ فَيَبْخَلَ بِهِ عَلَيْهِ إلاّ أُخْرِجَ مِنْ لَهُ مِنْ جَهَنّمَ شُجاعٌ يَتَلَمّظُ حتى يُطَوّقَهُ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة حجر بن بيان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ فَيَسألَهُ مِنْ فَضْلٍ أعْطاهُ اللّهُ إيّاهُ فَيَبْخَلَ بِهِ عَلَيْهِ ، إلاّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعٌ مِنَ النّارِ يَتَلَمّظُ حتى يُطَوّقَهُ » ثم قرأ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » حتى انتهى إلى قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } .
حدثني زياد بن عبيد الله المرّي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، وحدثني محمد بن عبد الله الكلابي ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد ، واللفظ ليعقوب جميعا ، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا يَأْتِي رَجُلٌ مَوْلاهُ فَيَسألَهُ مِنْ فَضْل مالٍ عِنْدَهُ فَيَمْنَعُهُ إيّاهُ إلاّ دَعا لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعا يَتَلَمّظُ فَضْلَهُ الّذِين مَنَعَ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : ثعبان ينقر رأس أحدهم ، يقول : أنا مالك الذي بخلت به .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا وائل يحدّث أنه سمع عبد الله ، قال في هذه الاَية : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : شجاع يلتوي برأس أحدهم .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، قال : حدثنا خلاد بن أسلم ، قال أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، بمثله ، إلا أنهما قالا : قال شجاع أسود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : يجيء ماله يوم القيامة ثعبانا ، فينقر رأسه فيقول : أنا مالك الذي بخلت به ، فينطوي على عنقه .
حُدثت عن سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا جامع بن شداد وعبد الملك بن أعين ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ أحَدٍ لا يُؤَدّي زَكاةَ مالِهِ إلاّ مُثّلَ لَهُ شُجاعٌ أقْرَعُ يُطَوّقُهُ » ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ » . . . الاَية .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { سَيُطَوّقون ما بَخِلُوا بِهِ } فإنه يجعل ماله يوم القيامة شجاعا أقرع يطوّقه ، فيأخذ بعنقه ، فيتبعه حتى يقذفه في النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم ، عن أبي وائل ، قال : هو الرجل الذي يرزقه الله مالاً ، فيمنع قرابته الحقّ الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية فيطوّقها ، فيقول : مالي ولك ؟ فيقول : أنا مالك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق ، قال : سألت ابن مسعود عن قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : يطوّقون شجاعا أقرع ، ينهش رأسه .
وقال آخرون : معنى ذلك : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } فيجعل في أعناقهم طوقا من نار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوقا من النار .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الاَية : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوقا من نار .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : { سَيُطَوّقُونَ } قال : طوقا من نار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوق من نار .
وقال آخرون : معنى ذلك : سيحمل الذين كتموا نبوّه محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود ما كتموا من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } ألم تسمع أنه قال : { يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } يعني : أهل الكتاب ، يقول : يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان .
وقال آخرون : معنى ذلك : سيكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به ، إلى قوله : { وَالكِتابِ المُنِير } .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { سَيُطَوّقونَ } سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة .
وأولى الأقوال بتأويل هذه الاَية التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ } للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد أعلم بما عنى الله تبارك وتعالى بتنزيله منه عليه الصلاة والسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وِللّهِ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه الحيّ الذي لا يموت ، والباقي بعد فناء جميع خلقه .
فإن قال قائل : فما معنى قوله : { لَهُ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } والميراث المعروف : هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده ؟ قيل : إن معنى ذلك ما وصفنا من وصفه نفسه بالبقاء ، وإعلام خلقه أنه كتب عليهم الفناء . وذلك أن ملك المالك إنما يصير ميراثا بعد وفاته ، فإنما قال جلّ ثناؤه : { ولِلّهِ مِيراثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } إعلاما بذلك منه عباده أن أملاك جميع خلقه منتقلة عنهم بموتهم ، وأنه لاأحد إلا وهو فان سواء ، فإنه الذي إذا هلك جميع خلقه ، فزالت أملاكهم عنهم لم يبق أحد يكون له ما كانوا يملكونه غيره .
وإنما معنى الاَية : لا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ، بعد ما يهلكون ، وتزول عنهم أملاكهم في الحين الذي لا يملكون شيئا ، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه . ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل ، وغيرهم من سائر خلقه ، ذو خبرة وعلم ، محيط بذلك كله ، حتى يجازي كلاّ منهم على قدر استحقاقه ، المحسن بالإحسان ، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره .
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ }
القراءات في قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون } كالتي تقدمت آنفاً في قوله { ولا يحسبن الذين كفروا } سواء ، وقال السدي وجماعة من المتأولين : الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك ، قالوا : ومعنى : { سيطوقون بما بخلوا } هو الذي ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله عن فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع أقرع من الناس يتلمظ حتى يطوقه{[3742]} . والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة{[3743]} . وقال ابن عباس : الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل التفسير ، وقوله تعالى { سيطوقون } على هذا التأويل معناه سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة كما قال تعالى : { وعلى الذين يطيقونه }{[3744]} وليس من التطويق ، وقال إبراهيم النخعي : { سيطوقون } سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار ، وهذا يجري مع التأويل الأول الذي ذكرته للسدي وغيره ، وقال مجاهد : سيكلفون بأن يأتوا بمثل ما بخلوا به يوم القيامة ، وهذا يضرب مع قوله : إن البخل هو بالعلم الذي تفضل الله عليهم بأن علمهم إياه وإعراب قوله تعالى : { الذين يبخلون } رفع في قراءة من قرأ «يحسبن » بالياء من أسفل والمفعول الأول مقدر بالصلة تقديره «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم من فضله بخلهم هو خيراً » ، والمفعول الثاني خيراً ، وهو فاصلة وهي العماد عند الكوفيين ، ودل قوله : { يبخلون } على هذا البخل المقدر كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر : [ الوافر ]
إذا نُهِيَ السَّفيهُ جَرى إليهِ . . . وَخَالَفَ ، وَالسَّفيهُ إلى خلافِ{[3745]}
فالمعنى جرى إلى السفه{[3746]} ، وأما من قرأ «تحسبن » بالتاء من فوق ففي الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول ، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم ، قال الزّجاج ، وهي مثل { واسأل القرية }{[3747]} وقوله تعالى : { ولله ميراث السماوات } خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلا الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «والله بما يعملون » بالياء من أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون ، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم