قوله تعالى : { فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } ، وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام ، وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون ، فلما استقرت لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحا من أرض الشام ، وهي الأرض المقدسة ، وكانت لها ألف قرية ، في كل قرية ألف بستان ، وقال : يا موسى إني كتبتها لكم داراً وقراراً ، فاخرج إليها ، وجاهد من فيها من العدو ، فإني ناصرك عليهم ، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا ، ً من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به ، فاختار موسى النقباء ، وسار موسى ببني إسرائيل ، حتى قربوا من أريحا فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ، ويعلمون علمها ، فلقيهم رجل من الجبارين يقال له : عوج بن عنق ، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاث وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع ، وكان يحتجز بالسحاب ، ويشرب منه ، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه أليها ، ثم يأكله ، ويروى أن الماء في زمن نوح عليه السلام طبق ما على الأرض من جبل ، وما جاوز ركبتي عوج ، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام ، وذلك أنه جاء وقلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام ، وكان فرسخاً في فرسخ ، وحملها ليطبقها عليهم ، فبعث الله الهدهد فقور الصخرة بمنقاره ، فوقعت في عنقه فصرعته ، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله ، وكانت أم عنق إحدى بنات آدم ، وكان مجلسها جريباً من الأرض ، فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة من حطب ، أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته ، وانطلق بهم إلى امرأته ، وقال : انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا ، وطرحهم بين يديها وقال : ألا أطحنهم برجلي ؟ فقالت امرأته : لا ، بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ، ففعل ذلك . وروي أنه جعلهم في كمه ، وأتى بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه ، فقال الملك : ارجعوا فأخبروهم بما رأيتم ، وكان لا يحمل عنقوداً من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس ، فرجع النقباء ، وجعلوا يتعرفون أحوالهم ، قال بعضهم لبعض : يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ، ولكن اكتموا ، وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ، ثم إنهم نكثوا العهد ، وجعل كل واحد منهم ينهي سبطه عن قتالهم ، ويخبرهم بما رأى إلا رجلان فذلك قوله تعالى :{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } . قوله تعالى : { وقال الله إني معكم } . ناصركم على عدوكم ، ثم ابتدأ الكلام .
قوله تعالى : { لئن أقمتم الصلاة } يا معشر بني إسرائيل } .
قوله تعالى : { وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم } ، نصرتموهم ، وقيل : ووقرتموهم وعظمتموهم .
قوله تعالى : { وأقرضتم الله قرضاً حسناً } . قيل : هو إخراج الزكاة ، وقيل : هو النفقة على الأهل .
قوله تعالى : { لأكفرن عنكم سيئاتكم } ، لأمحون عنكم سيئاتكم .
قوله تعالى : { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } ، أي : أخطأ قصد السبيل ، يريد طريق الحق . وسواء كل شيء وسطه .
{ 12 ، 13 ْ } { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ْ }
يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد ، وذكر صفة الميثاق وأجرهم إن قاموا به ، وإثمهم إن لم يقوموا به ، ثم ذكر أنهم ما قاموا به ، وذكر ما عاقبهم به ، فقال : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ْ } أي : عهدهم المؤكد الغليظ ، { وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ْ } أي : رئيسا وعريفا على من تحته ، ليكون ناظرا عليهم ، حاثا لهم على القيام بما أُمِرُوا به ، مطالبا يدعوهم .
{ وَقَالَ اللَّهُ ْ } للنقباء الذين تحملوا من الأعباء ما تحملوا : { إِنِّي مَعَكُمْ ْ } أي : بالعون والنصر ، فإن المعونة بقدر المؤنة .
ثم ذكر ما واثقهم عليه فقال : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ ْ } ظاهرا وباطنا ، بالإتيان بما يلزم وينبغي فيها ، والمداومة على ذلك { وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ْ } لمستحقيها { وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ْ } جميعهم ، الذين أفضلهم وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ْ } أي : عظمتموهم ، وأديتم ما يجب لهم من الاحترام والطاعة { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ْ } وهو الصدقة والإحسان ، الصادر عن الصدق والإخلاص وطيب المكسب ، فإذا قمتم بذلك { لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ْ } فجمع لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم ، واندفاع المكروه بتكفير السيئات ، ودفع ما يترتب عليها من العقوبات .
{ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ْ } العهد والميثاق المؤكد بالأيمان والالتزامات ، المقرون بالترغيب بذكر ثوابه .
{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ْ } أي : عن عمد وعلم ، فيستحق ما يستحقه الضالون من حرمان الثواب ، وحصول العقاب .
{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ . . . }
قال الفخر الرازي : قوله - تعالى - { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ } اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أنه - تعالى - خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به ، فلا تكونوا - أيها المؤمنون - مثلهم في هذا الخلق الذميم .
الثاني : أنه لما ذكر قوله : { اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } وقد ذكرت بعض الروايات أنها نزلت في اليهود ، وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالمؤمنين . فلما ذكر - سبحانه - ذلك أتبعه بذكر فضائحهم ، وبيان أنهم كانوا أبدا مواظبين على نقض العهود والمواثيق .
الثالث : أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان . فذكر - سبحانه - أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم ، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده .
والميثاق : العهد الموثق المؤكد ، مأخذو من لفظ وثق المتضمن معنى الشد والربط على الشيء بقوة وإحكام .
والمراد به : ما أخذه الله على بني إسرائيل لكي يؤدوا ما أوجب عليهم من تكاليف ولكي يعملوا بما تضمنته التوراة من أحكام وتشريعات وغير ذلك مما جاء فيها .
والنقيب : كبير القوم . والكفيل عليهم والمنقب عن أحوالهم وأسرارهم فيكون شاهدهم وضمينهم وعريفهم ، وأصله من النقب وهو الثقب الواسع .
قال الآلوسي : والنقيب : قيل فعيل بمعنى فاعل مشتق من النقب بمعنى التفتيش ومنه { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأمرهم .
قال الزجاج : وأصله من النقيب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل :
ويقول : فلان حسن النقيبة . أي : جميل الخليقة ، ويقال : فلان نقاب ؛ للعالم بالأشياء ، الذكي القلب ، الكثير البحث عن الأمور .
والمعنى : ولقد أخذ الله العهود المؤكدة على بني إسرائيل . لكي يعملوا بما كلفهم من تكاليف ، وأمر نبيه موسى - عليه السلام - أن يختار متهم اثني عشر نقيبا . وأن يرسل هؤلاء النقباء إلى الأرض المقدسة لكي يطلعوا على أحوال ساكنيها ، ثم يخبروا نبيهم موسى - عليه السلام - بعد ذلك بما شاهدوه من أحوالهم .
وسنفصل القول في شأن بعث هؤلاء النقباء عند تفسيرنا لقوله - تعالى - بعد ذلك { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } وأكد - سبحانه - ما أخذه على بني إسرائيل من عهود بقد وباللام ، للاهتمام بشأن هذا الخبر ، ولترغيب المؤمنين في الوفاء بعهودهم مع الله - تعالى - حتى لا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل من عقوبات بسبب نقضهم لمواثيقهم .
وأسند - سبحانه - الأخذ إليه ، لأنه هو الذي أمر به موسى - عليه السلام - ولأن في إسناد أخذ الميثاق إليه - سبحانه - ما أخذه على بني إسرائيل من عهود بقد وباللام ، للاهتمام بشأن هذا الخبر ، ولترغيب المؤمنين في الوفاء بعهودهم مع الله - تعالى - حتى لا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل من عقوبات بسبب نقضهم لمواثيقهم .
وأسند - سبحانه - الأخذ إلأيه ، لأنه هو الذي أمر به موسى - عليه السلام - ولأن في إسناد أخذ الميثاق إليه - سبحانه - زيادة في توثيقه ، وتعظيم توكيده وأي عهد يكون أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب ؟
وفي قوله : { وَبَعَثْنَا } التفات إلى المتلكم العظيم - سبحانه - لتهويل شأن هذا الابتعاث ، لأن الله - تعالى - هو الذي أمر به .
وإنما اختار موسى - عليه السلام - اثني عشر نقيبا من بني إسرائيل لأنهم كانوا اثني عشر سبطا ، كما قال - تعالى - { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } ولأن كل نقيب كان بمنزلة الرقيب على القبيلة التي هو منها يذكرها بالفضائل ويرغبها في اتباع موسى - عليه السلام - وينهاها عن معصيته .
والمعية في قوله - تعالى - { وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ } معية مجازية بمعنى الحفظ والرعاية والنصرة .
أي : أخذ الله على بني إسرائيل العهود الموثقة ، وأمر نبيه موسى أن يرسل منهم اثني عشر نقيبا لمعرفة أحوال الجبارين الذين يسكنون الأرض المقدسة وقال الله - تعالى - لهؤلاء النقباء ، أو لبني إسرائيل جميعا : إني معكم لا تخفى علىَّ خافية من أحوالكم . وسأؤيدكم برعايتي ونصري متى وفيتم بعهدي ، واتبعتم رسلي . فالجملة الكريمة تحذير لهم من معصية الله ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ، ووعد لهم بالنصر متى أطاعوه .
ثم بين - سبحانه - بعض التكاليف التي كلفهم بها ، وأخذ عليهم العهد بالمحافظة عليها فقال : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
واللام في قوله { لئن } موطئة للقسم المحذوف ، و " إن " شرطية ، وقوله : { لأكفرن } جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه .
وقوله : { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } من التعزيز بمعنى النصر والإِعانة مع التعظيم والتفخيم يقال : عزر فلان فلانا إذا نصره وقواه ، وأصل معناه : المنع والذب ؛ لأن من نصر إنسانا منع عنه أعداءه .
والمعنى : لئن داومتم على إقامة الصلاة ، وعلى أدائها على الوجه الأكمل بخضوع وخشوع ، وأعطيتم الزكاة لمستحقيها { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } إيمانا كاملا ، ونصرتموهم مع تعظيمهم وطاعتهم { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } بأن أنفقتم جانبا من أموالكم في وجوه الخير والبر ، لئن فعلتم ذلك { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } بأن أغفرها لكم ، ولأدخلنكم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد كلف بني إسرائيل بخمسة أمور نافعة ووعدهم على أدائها بتكفير سيئاتهم في الدنيا ، وبإدخالهم جناته في الآخرة .
قال الإِمام الرازي : وأخر - سبحانه - الإِيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها ؛ لأن اليهود كانوا مقربين بأنه لا بد من حصول النجاة من الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل . فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإِيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود . وإلا لم يكن لإِقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإِيمان بجميع الرسل .
والمراد بالزكاة في قوله { وَآتَيْتُمُ الزكاة } الزكاة المفروضة .
والمراد بالقرض الحسن في قوله { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } الصدقات غير المفروضة التي يبذلها القادرون عليها في وجوه الخير المتنوعة بدون رياء أو أذى وفي التعبير بقوله : { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } تأنيس للقلوب وترغيب للنفوس في البذل والعطاء ، حيث شبه - سبحانه - ما يعطي للمحتاج رغبة في الثواب بالقرض الذي سيكافئ الله - تعالى - صاحبه عليه بأضعافه من الخير والنعم .
وأضاف - سبحانه - الرسل إليه في قوله { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } لتشريفهم وتكريمهم وتعظيم شأن رسالاتهم وللإِشارة إلى أن الإِيمان بهم جميعا واجب ، فمن أطاعهم قد أطاع الله ، ومن كفر بواحد منهم كفر بالله - تعالى - .
ثم بعد أن فتح الله - تعالى - لهم باب كرمه إن أدوا ما أمرهم به حذرهم من المخالفة والعصيان فقال : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } أي : فمن جحد منكم شيئاً مما أمرته به فتركه ، أو أعرض عن التكاليف التي كلفته بها بعد أن عرفها فقد بعد عن السبيل المستوية ، أخطأ الطريق الواضح المستقيم ، وسار في متاهات الضلال التي لا هداية فيها ولا خير معها .
فالجملة الكريمة تهديد شديد لمن ترك الدين الحق واتجه إلى الأديان الباطلة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل سواء السبيل ، فلم قال : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } قلت : أجل من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل . ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم : لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعم المكفورة ، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية العظمى .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت أن الله - تعالى - قد أخذ الميثاق على بني إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم بها ، وحذرهم من النقض والخيانة والكفر ، ورغبهم في الطاعة والإِيمان فماذا كان موقفهم من عهود الله - تعالى - ؟
في نهاية الدرس الماضي ، ذكر الله المسلمين بميثاقهم الذي واثقهم به ؛ وذكرهم نعمته التي أنعم بها عليهم في هذا الميثاق . ذلك كي يؤدوا من جانبهم ما استحفظوا عليه ؛ ويتقوا أن ينقضوا ميثاقهم معه .
فالآن يستغرق هذا الدرس كل كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى . . الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة ؛ وجاءهم به الرسول الأخير . ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد ، ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم ، فنسوا ولبس عليهم الأمر . . فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير . فسقطت الحجة ، وقام الدليل .
ومن خلال هذه الدعوة ، تتبين وحدة دين الله - في أساسه - ووحده ميثاق الله مع جميع عباده : أن يؤمنوا به ، ويوحدوه ، ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم ، وينصروهم ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وينفقوا في سبيل الله من رزق الله . . فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة ، ويقرر العبادة الصحيحة ، ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح . .
فالآن نأخذ في استعراض هذه الحقائق كما وردت في السياق القرآني الكريم :
( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا . وقال الله . إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم ؛ وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ؛ وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به ، ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ فنسوا حظا مما ذكروا به ، فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) . .
لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقا بين طرفين ؛ متضمنا شرطا وجزاء . والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه ، بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده . . لقد كان عقدا مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر ، الذين يمثلون فروع بيت يعقوب - وهو إسرائيل - وهم ذرية الأسباط - أحفاد يعقوب - وعدتهم اثنا عشر سبطا . . وكان هذا نصه :
( وقال الله : إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم ، فقد ضل سواء السبيل ) . .
( إني معكم ) . . وهو وعد عظيم . فمن كان الله معه ، فلا شيء إذن ضده . ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود - في الحقيقة - له ولا أثر . ومن كان الله معه فلن يضل طريقه ، فإن معية الله - سبحانه - تهديه كما أنها تكفيه . ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى ، فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده . . وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن ، وقد وصل ، وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم .
ولكن الله - سبحانه - لم يجعل معيته لهم جزافا ولا محاباة ؛ ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده . . إنما هو عقد . . فيه شرط وجزاء .
شرطه : إقامة الصلاة . . لا مجرد أداء الصلاة . . إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب ؛ وعنصرا تهذيبيا وتربويا وفق المنهج الرباني القويم ؛ وناهيا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر !
وإيتاء الزكاة . . اعترافا بنعمة الله في الرزق ؛ وملكيته ابتداء للمال ؛ وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه - وهو المالك والناس في المال وكلاء - وتحقيقا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن ؛ وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته ؛ كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب ، وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه . . كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة ؛ ويحول دونه منهج الله في توزيع المال ؛ وفي دورة الاقتصاد . .
والإيمان برسل الله . . كلهم دون تفرقة بينهم . فكلهم جاء من عند الله ؛ وكلهم جاء بدين الله . وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعا ، وكفر بالله الذي بعث بهم جميعا . .
وليس هو مجرد الإيمان السلبي ، إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل ، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له ، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه . . فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به ، وليقيمه في الأرض ، وليحققه في حياة الناس . فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي ، ولا مجرد شعائر تعبدية . إنما هو منهج واقعي للحياة . ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة . والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة ، وتعزيز ، وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه . . وإلا فما وفي المؤمن بالميثاق .
وبعد الزكاة إنفاق عام . . يقول عنه الله - سبحانه - إنه قرض لله . . والله هو المالك ، وهو الواهب . . ولكنه - فضلا منه ومنة - يسمي ما ينفقه الموهوب له - متى أنفقة لله - قرضا لله . .
ذلك كان الشرط . فأما الجزاء فكان :
تكفير السيئات . . والإنسان الذي لا يني يخطى ء ، ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة . . تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة ، وتدارك لضعفة وعجزه وتقصيره . .
وجنة تجري من تحتها الأنهار . . وهي فضل خالص من الله ، لا يبلغه الإنسان بعمله ، إنما يبلغه بفضل من الله ، حين يبذل الجهد ، فيما يملك وفيما يطيق . .
وكان هنالك شرطا جزائي في الميثاق :
( فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .
فلا هدى له بعد ذلك ، ولا أوبة له من الضلال . بعد إذ تبين له الهدى ، وتحدد معه العقد ، ووضح له الطريق ، وتأكد له الجزاء . .
ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل . . عمن وراءهم . وقد ارتضوه جميعا ؛ فصار ميثاقا مع كل فرد فيهم ، وميثاقا مع الأمة المؤلفة منهم . . فماذا كان من بني إسرائيل !
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لاُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ } . .
وهذه الاَية أنزلت إعلاما من الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أخلاقَ الذين هموا ببسط أيديهم إليهم من اليهود . كالذي :
حدثنا الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن في قوله : ولقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ قال : اليهود من أهل الكتاب .
وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديما ، واحتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود باطلاعه إياه على ما كان علمه عندهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم ، وتوبيخا لليهود في تماديهم في الغيّ ، وإصرارهم على الكفر مع علمهم بخطإ ما هم عليهم مقيمون . يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تستعظموا أمر الذين هموا ببسط أيديهم إليهم من هؤلاء اليهود بما هموا به لكم ، ولا أمر الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم ، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم ، لا يعدُون أن يكونوا على منهاج أوّلهم وطريق سلفهم . ثم ابتدأ الخبر عزّ ذكره عن بعض غدراتهم وخياناتهم وجراءتهم على ربهم ونقضهم ميثاقهم الذي واثقهم عليه بارئهم ، مع نعمه التي خصهم بها ، وكراماته التي طوّقهم شكرها ، فقال : ولقد أخذ الله ميثاق سلف من همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ قال : أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره .
وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَى عَشَرَ نَقِيبا يعني بذلك : وبعثنا منهم اثني عشر كفيلاً ، كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ، وفما نهاهم عنه . والنقيب في كلام العرب ، كالعريف على القوم ، غير أنه فوق العريف ، يقال منه : نَقَبَ فلان على بني فلان فهو يَنْقُب نقبا ، فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا ، قيل : قد نَقُب فهو يَنْقب نَقَابة ، ومن العريف : عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافَةً . فأما المناكب فإنهم كالأعوان يكونون مع العرفاء ، واحدهم مَنْكِب . وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول : هو الأمين الضامن على القوم . فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله ، فقال بعضهم : هو الشاهد على قومه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائيل وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبا : من كلّ سبط رجل شاهد على قومه .
وقال آخرون : النقيب : الأمين . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : النقباء : الأمناء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
وإنما كان الله أمر موسى نبيه صلى الله عليه وسلم ببعثه النقباء الأثني عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشام ليتجسسوا لموسى أخبرهم إذ أراد هلاكهم ، وأن يورّث أرضهم وديارهم موسى وقومه ، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه ، وأخرجهم من أرض مصر ، فبعث موسى الذين أمره الله ببعثهم إليها من النقباء . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أريحاء ، وهي أرض بيت المقدس ، فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم بعث موسى اثني عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل ، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة ، فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عاج ، فأخذ الاثني عشر ، فجعلهم في حُجْزته وعلى رأسه حزمة حطب ، فانطلق بهم إلى امرأته ، فقال : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها ، فقال : ألا أطحنهم برجلي ؟ فقالت امرأته : بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك . فلما خرج القوم ، قال بعضهم لبعض : يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ، ارتدّوا عن نبيّ الله عليه السلام ، لكن اكتموه وأخبروا انِيَ الله ، فيكونان فيما يريان رأيهما ، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه . ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد ، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاج ، وكتم رجلان منهم ، فأتوا موسى وهارون ، فأخبروهما الخبر ، فذلك حين يقول الله : وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبا من كلّ سبط من بني إسرائيل رجل أرسلهم موسى إلى الجبارين ، فوجدوهم يدخل في كمّ أحدهم اثنان منهم يلفونهم لفّا ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربع . فرجع النقباء كلّ منهم ينهي سبطه عن قتالهم إلا يُوشَع ابن نون وكالب بن يوقنا يأمران الأسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم ، فعصوا هذين وأطاعوا الأخرين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : من بني إسرائيل رجال ، وقال أيضا : يلقونهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ، وقال : إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً ، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ ، فإني ناصركم عليهم ، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كلّ سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به ، وقل لهم إن الله يقول لكم : إنّي معكُمْ لِئن أقمتُم الصّلاةَ وآتيتمُ الزكاة . . . إلى قوله : فقدْ ضلّ سواءَ السّبِيلِ . وأخذ موسى منهم اثني عشر نقيبا اختارهم من الأسباط كُفلاء على قومهم بما هم فيه على الوفاء بعهده وميثاقه ، وأخذ من كلّ سبط منهم خيرهم وأوفاهم رجلاً . يقول الله عزّ وجلّ : ولَقَدْ أَخَذَ اللّهُ ميثاقَ بَنِي إسْرائِيل وبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْني عَشرَ نَقِيبا فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله ، حتى إذا نزل التيه بني مصر والشام ، وهي بلاد ليس فيها شجر ولا ظلّ ، دعا موسى ربه حين آذاهم الحرّ ، فظلّل عليهم بالغمام ، ودعا لهم بالرزق ، فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى . وأمر الله موسى فقال : أرسل رجالاً يتجسسون إلى أرض كنعان التي وهبت لبني إسرائيل ، من كلّ سبط رجلاً . فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فيهم ، وهذه أسماء الرهط الذين بعث الله من بني إسرائيل إلى أرض الشام ، فيما يذكر أهل التوراة ليجوسوها لبني إسرائيل : من سبط روبيل : شامون بن ركون ، ومن سبط شمعون سافاط بن حربي ، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا ، ومن سبط كاذ ميخائيل بن يوسف ، ومن سبط يوسف وهو سبط إفرائيم يوشع بن نون ، ومن سبط بينامين فلط بن ذنون ، ومن سبط ربالون كرابيل بن سودي ، ومن سبط منشا بن يوسف حدي بن سوشا ، ومن سبط دان حملائل بن حمل ، ومن سبط أشار سابور بن ملكيل ، ومن سبط نفتالي محرّ بن وقسي ، ومن سبط يساخر حولايل بن منكد . فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتجسسون له الأرض ، ويومئذٍ سَمّى يوشع بن نون : يوشع بن نون ، فأرسلهم وقال لهم : ارتفعوا قبل الشمس ، فارقوا الجبل ، وانظروا ما في الأرض ، وما الشعب الذي يسكنونه ، أقوياء هم أم ضعفاء ؟ أقليل هم أم هم كثير ؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون أشمسة هي أم ذات شجر ؟ واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض وكان في أوّل ما سَمّى لهم من ذلك ثمرة العنب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبا فهم من بني إسرائيل ، بعثهم موسى لينظروا له إلى المدينة . فانطلقوا فنظروا إلى المدينة ، فجاءوا بحبة من فاكهتهم وِقْرَ رجل ، فقالوا : قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم . فعند ذلك فتنوا ، فقالوا : لا نستطيع القتال فَاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلاَ إنّا هَهُنا قَاعِدونَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج المروزي ، قال : سمع أبا معاذ الفضل بن خالد يقول في قوله : وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبا أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم فلما كانوا قريبا من المدينة ، قال لهم موسى : ادخلوها فأبوا وجبنوا ، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا إليهم . فانطلقوا فنظروا ، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوِقْر الرجل ، فقالوا : قدرّوا قوّة قوم وبأسهم ، هذه فاكهتهم فعند ذلك قالوا لموسى : اذْهَبْ أنْتَ ورَبّكَ فَقَاتِلاَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقالَ اللّهُ إنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أقَمْتُمُ الصّلاةَ وآتَيْتُمُ الزّكاةَ وآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتمُوهُمْ وأقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنَا .
يقول الله تعالى ذكره وَقالَ اللّهُ لبني إسرائيل إنّي مَعَكُمْ يقول : إنى ناصركم على عدوّكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم . وفي الكلام محذوف استُغني بما ظهر من الكلام عما حذف منه ، وذلك أن معنى الكلام : وقال الله لهم : إني معكم ، فترك ذكر «لهم » ، استغناء بقوله : وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ إذ كان متقدم الخبر عن قوم مسمّين بأعيانهم كان معلوما أن سياق ما في الكلام من الخبر عنهم ، إذ لم يكن الكلام مصروفا عنهم إلى غيرهم . ثم ابتدأ ربنا جلّ ثناؤه القسم ، فقال : قسم لَئِنْ أقَمْتُمْ معشر بني إسرائيل الصّلاةَ وآتَيْتُمُ الزّكاةَ : أي أعطيتموها من أمرتكم باعطائها ، وآمَنْتُمْ بِرُسُلِي يقول : وصدّقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني . وكان الربيع بن أنس يقول : هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر .
حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : أن موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثني عشر : سيروا إليهم يعني إلى الجبارين فحدثوني حديثهم ، وما أمَرُهم ، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا .
وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب ، غير أن من قضاء الله في جميع خلقه أنه ناصرٌ من أطاعه ، وولىّ من اتبع أمره وتجنب معصيته وجافي ذنوبه . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان من طاعته : إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالرسل ، وسائر ما ندب القوم إليه كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم ، فكان ذلك بأن يكون ندبا للقوم جميعا وحضّا لهم على ما حضهم عليه ، أحقّ وأولى من أن يكون ندبا لبعض وحضّا لخاصّ دون عام .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَعَزّرْتُمُوهُمْ فقال بعضهُم : تأويل ذلك : ونصرتموهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَعَزّرْتُمُوهُمْ قال : نصرتموهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قوله : وَعَزّرْتُمُوهُمْ قال : نصرتموهم بالسيف .
وقال آخرون : هو الطاعة والنصرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله : وَعَزّرْتموهُم قال : التعزر والتوقير : الطاعة والنصرة .
واختلف أهل العربية في تأويله ، فذكر عن يونس الحِرمرِي أنه كان يقول : تأويل ذلك : أثنيتم عليهم .
حُدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه .
وكان أبو عبيدة يقول : معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقرتموهم وعظمتموهم وأيدتموهم ، وأنشد في ذلك :
وكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ***ومِنْ لَيْثٍ يُعَزّزُ في النّدِيّ
وكان الفرّاء يقول : العزر الردّ عزررته رددته : إذا رأيته يظلم ، فقلت : اتق الله أو نهيته ، فذلك العزر .
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : نصرتموهم ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال في سورة الفتح : إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدا وَمُبَشّرا وَنَذِيرا لِتُؤْمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ وتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ . فالتوقير : هو التعظيم . وإذا كان ذلك كذلك ، كان القول في ذلك إنما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه . وإذا فسد أن يكون معناه التعظيم ، وكان النصر قد يكون باليد واللسان فأما باليد فالذبّ بها عنه بالسيف وغيره ، وأما باللسان فحسن الثناء ، والذبّ عن العرض ، صحّ أنه النصر إذ كان النصر يحوي معنى كلّ قائل قال فيه قولاً مما حكينا عنه .
وأما قوله : وأقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فإنه يقول : وأنفقتم في سبيل الله ، وذلك في جهاد عدوّه وعدوّكم ، قَرْضا حَسَنا يقول : وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله ، فأصبتم الحقّ في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك ، ولم تتعدّوا فيه حدود الله وما ندبكم إليه وحثكم عليه إلى غيره .
فإن قال لنا قائل : وكيف قال : وأقْرَضْتُمْ اللّهَ قَرْضا حَسَنا ولم يقل : إقراضا حسنا ، وقد علمت أن مصدر أقرضت : الإقراض ؟ قيل : لو قيل ذلك كان صوابا ، ولكن قوله : قَرْضا حَسَنا أخرج مصدرا من معناه لا من لفظه ، وذلك أن في قوله : أقرض معنى قرض ، كما في معنى أعطى أخذ ، فكان معنى الكلام : وقرضتم الله قرضا حسنا ، ونظير ذلك : واللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرضِ نَبَاتا إذ كان في أنبتكم معنى فنبتم ، وكما قال امرؤ القيس :
*** وَرُضْتُ فَذَلّتْ صَعْبَةً أيّ إذْلالِ ***
إذ كان في رضت معنى أذللت ، فخرج الإذلال مصدرا من معناه لا من لفظه .
القول في تأويل قوله تعالى : لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ .
يعني جلّ ثناؤه بذلك بني إسرائيل ، يقول لهم جلّ ثناؤه : لئن أقمتم الصلاة أيها القوم الذين أعطوني ميثاقهم بالوفاء بطاعتي ، واتباع أمري ، وآتيتم الزكاة ، وفعلتم سائر ما وعدتكم عليه جنتي لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتَكُمْ يقول : لأغطين بعفوي عنكم وصفحي عن عقوبتكم ، على سالف إجرامكم التي أجرمتموها فيما بين وبينكم على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم ولأدْخِلَنّكُمْ مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ فالجنات : البساتين .
وإنما قلت : معنى قوله : لأُكَفّرَنّ : لأغطينّ ، لأن الكفر معناه الجحود والتغطية والستر ، كما قال لبيد :
*** فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجومَ غَمامُها ***
يعني : «غطاها » . التفعيل من الكَفْر .
واختلف أهل العربية في معنى «اللام » التي في قوله : لأُكَفّرَنّ فقال بعض نحوييّ البصرة : اللام الأولى على معنى القَسَم ، يعني اللام التي في قوله : لَئِنْ أقَمْتُمْ الصّلاةَ قال : والثانية معنى قسم آخر .
وقال بعض نحوييّ الكوفة : بل اللام الأولى وقعت موقع اليمين ، فاكتفى بها عن اليمين ، يعني باللام الأولى : لئن أقمتم الصلاة . قال : واللام الثانية ، يعني قوله : لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتَكُمْ جواب لها ، يعني للام التي في قوله : لَئِنْ أقَمْتُمُ الصّلاةَ . واعتلّ لقيله ذلك بأن قوله : لَئِنْ أقَمْتُمُ الصّلاةَ غير تام ولا مستغن عن قوله : لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ . وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز أن يكون قوله : لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ قسما مبتدأ ، بل الواجب أن يكون جوابا لليمين إذ كانت غير مستغنية عنه . وقوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول : يجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها الأنهار .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ .
يقول عزّ ذكره : فمن جحد منكم يا معشر بني إسرائيل شيئا مما أمرته به ، فتركه ، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي ، فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ يقول : فقد أخطأ قصد الطريق الواضح ، وزلّ عن منهج السبيل القاصد . والضلال : الركوب على غير هدى وقد بينا ذلك بشاهده في غير هذا الموضع . وقوله : سَوَاءَ يعني به : وسط السبيل ، وقد بيّنا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير ، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها ، والنقاب : الرجل العظيم الذي هو في الناس كلهم على هذه الطريقة ، ومنه قيل في عمر : إنه كان لنقاباً ، فالُنقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي العقبة الثالثة بايع فيها سبعون رجلاَ وامرأتان فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا وسماهم النقباء ، وقال الربيع ، والسدي ، وغيرهما :إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعاً فجعلهم في حجزته .
قال القاضي أبو محمد : في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، وأسند الطبري عن ابن عباس قال : النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل{[4485]} ، فقالوا : اقدروا قدر قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائل ونكولهم ، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى : { وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } أي ملكاً وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك ، قال فما وفى منهم إلا خمسة : داود عليه السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه ، وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم ، والضمير في { معكم } لبني إسرائيل جميعاً ولهم كانت هذه المقالة ، وقال الربيع : بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أرجح و { معكم } معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله { لئن } هي المؤذنة بمجيء لام القسم ، ولام القسم هي قوله { لأكفرن } والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحياناً ويتم الكلام دونها ، ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك ، وإقامة الصلاة توفية شروطها و { الزكاة } هنا شيء من المال كان مفروضاً فيما قال بعض المفسرين ، ويحتمل أن يكون المعنى : وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه ، وقدم هذه على الإيمان تشريفاً للصلاة والزكاة ، وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «برسْلي » ساكنة السين في كل القرآن .
{ وعزرتموهم } معناه : وقرتموهم ، وعظمتموهم ، ونصرتموهم ، ومنه قول الشاعر :
وكم من ماجد لهم كريم *** ومن ليث يعزر في الندى{[4486]}
وقرأ عاصم الجحدري «وعَزرتموهم » خفيفة الزاي حيث وقع ، وقرأ في سورة الفتح «وتَعزروه »{[4487]} بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي ، وقد تقدم في سورة البقرة تفسير الإقراض ، وتكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة . و { سواء السبيل } وسطه ، ومنه { سواء الجحيم }{[4488]} ومنه قول الأعرابي قد انقطع سوائي ، وأوساط الطرق : هي المعظم اللاحب منها ، وسائر ما في الآية بيّن والله المستعان .