في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{۞وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (12)

في نهاية الدرس الماضي ، ذكر الله المسلمين بميثاقهم الذي واثقهم به ؛ وذكرهم نعمته التي أنعم بها عليهم في هذا الميثاق . ذلك كي يؤدوا من جانبهم ما استحفظوا عليه ؛ ويتقوا أن ينقضوا ميثاقهم معه .

فالآن يستغرق هذا الدرس كل كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى . . الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة ؛ وجاءهم به الرسول الأخير . ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد ، ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم ، فنسوا ولبس عليهم الأمر . . فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير . فسقطت الحجة ، وقام الدليل .

ومن خلال هذه الدعوة ، تتبين وحدة دين الله - في أساسه - ووحده ميثاق الله مع جميع عباده : أن يؤمنوا به ، ويوحدوه ، ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم ، وينصروهم ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وينفقوا في سبيل الله من رزق الله . . فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة ، ويقرر العبادة الصحيحة ، ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح . .

فالآن نأخذ في استعراض هذه الحقائق كما وردت في السياق القرآني الكريم :

( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا . وقال الله . إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم ؛ وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ؛ وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به ، ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ فنسوا حظا مما ذكروا به ، فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) . .

لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقا بين طرفين ؛ متضمنا شرطا وجزاء . والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه ، بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده . . لقد كان عقدا مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر ، الذين يمثلون فروع بيت يعقوب - وهو إسرائيل - وهم ذرية الأسباط - أحفاد يعقوب - وعدتهم اثنا عشر سبطا . . وكان هذا نصه :

( وقال الله : إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم ، فقد ضل سواء السبيل ) . .

( إني معكم ) . . وهو وعد عظيم . فمن كان الله معه ، فلا شيء إذن ضده . ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود - في الحقيقة - له ولا أثر . ومن كان الله معه فلن يضل طريقه ، فإن معية الله - سبحانه - تهديه كما أنها تكفيه . ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى ، فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده . . وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن ، وقد وصل ، وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم .

ولكن الله - سبحانه - لم يجعل معيته لهم جزافا ولا محاباة ؛ ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده . . إنما هو عقد . . فيه شرط وجزاء .

شرطه : إقامة الصلاة . . لا مجرد أداء الصلاة . . إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب ؛ وعنصرا تهذيبيا وتربويا وفق المنهج الرباني القويم ؛ وناهيا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر !

وإيتاء الزكاة . . اعترافا بنعمة الله في الرزق ؛ وملكيته ابتداء للمال ؛ وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه - وهو المالك والناس في المال وكلاء - وتحقيقا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن ؛ وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته ؛ كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب ، وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه . . كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة ؛ ويحول دونه منهج الله في توزيع المال ؛ وفي دورة الاقتصاد . .

والإيمان برسل الله . . كلهم دون تفرقة بينهم . فكلهم جاء من عند الله ؛ وكلهم جاء بدين الله . وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعا ، وكفر بالله الذي بعث بهم جميعا . .

وليس هو مجرد الإيمان السلبي ، إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل ، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له ، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه . . فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به ، وليقيمه في الأرض ، وليحققه في حياة الناس . فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي ، ولا مجرد شعائر تعبدية . إنما هو منهج واقعي للحياة . ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة . والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة ، وتعزيز ، وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه . . وإلا فما وفي المؤمن بالميثاق .

وبعد الزكاة إنفاق عام . . يقول عنه الله - سبحانه - إنه قرض لله . . والله هو المالك ، وهو الواهب . . ولكنه - فضلا منه ومنة - يسمي ما ينفقه الموهوب له - متى أنفقة لله - قرضا لله . .

ذلك كان الشرط . فأما الجزاء فكان :

تكفير السيئات . . والإنسان الذي لا يني يخطى ء ، ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة . . تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة ، وتدارك لضعفة وعجزه وتقصيره . .

وجنة تجري من تحتها الأنهار . . وهي فضل خالص من الله ، لا يبلغه الإنسان بعمله ، إنما يبلغه بفضل من الله ، حين يبذل الجهد ، فيما يملك وفيما يطيق . .

وكان هنالك شرطا جزائي في الميثاق :

( فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .

فلا هدى له بعد ذلك ، ولا أوبة له من الضلال . بعد إذ تبين له الهدى ، وتحدد معه العقد ، ووضح له الطريق ، وتأكد له الجزاء . .

ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل . . عمن وراءهم . وقد ارتضوه جميعا ؛ فصار ميثاقا مع كل فرد فيهم ، وميثاقا مع الأمة المؤلفة منهم . . فماذا كان من بني إسرائيل !