وأكد الخبر بذلك لئلا يظن لشدة انهماكهم في النفس{[24585]} أنه لم يسبق لهم عهد{[24586]} قبل{[24587]} ذلك فقال تعالى : { ولقد أخذ الله } أي بما له من جميع الجلال والعظمة والكمال { ميثاق بني إسرائيل } أي العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة { وبعثنا } أي بما لنا من العظمة { منهم اثني عشر نقيباً } أي شاهداً ، على كل سبط نقيب يكفلهم{[24588]} بالوفاء بما عليهم من{[24589]} الوفاء به - كما بعثنا منكم ليلة العقبة{[24590]} اثني عشر نقيباً{[24591]} وأخذنا منكم الميثاق على ما أحاله{[24592]} الإسلام - كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن تبوك : " ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام " وأما تفصيله فمذكور في السير ، والنقيب : الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل : عريف ، لأنه يتعرفها ، ومن ذلك المناقب وهي الفضائل ، لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها { وقال الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لبني إسرائيل ، وأكد{[24593]} لتكرر{[24594]} جزعهم وتقلبهم فقال : { إني معكم } وهو كناية عن الكفاية لأن القادر إذا كان مع أحد كان كذلك{[24595]} إذا لم يغضبه .
ولما أنهى{[24596]} الترغيب بالمعية استأنف{[24597]} بيان شرط{[24598]} ذلك بقوله مؤكداً لمثل ما مضى : { لئن اقمتم } أي أنشأتم{[24599]} { الصلاة } أي التي هي صلة ما بين العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها ؛ ولما كان{[24600]} المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء قال : { وآتيتم الزكاة } أي التي هي بين{[24601]} الحق والخلائق{[24602]} .
ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام ، وكانوا في{[24603]} كل قليل يتردعون عن اتباعه أو كمال اتباعه ، وكان سبحانه عالماً بأن ميلهم بعده يكون أكثر ، فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل يحفظونهم عن الزيغ ويقومون منهم الميل قال{[24604]} : { وآمنتم برسلي } أي أدمتم الإيمان بموسى عليه السلام ، وجددتم الإيمان بمن يأتي بعده ، فصدقتموهم{[24605]} في جميع ما يأمرونكم به{[24606]} { وعزرتموهم } أي ذببتم عنهم ونصرتموهم ومنعتموهم أشد المنع ، والتعزير والتأزير من باب واحد .
ولما كان من أعظم المصدق للإيمان ونصر الرسل بذل المال فهو البرهان قال : { وأقرضتم الله } أي الجامع لكل وصف جميل { قرضاً حسناً } أي بالإنفاق في جميع سبل الخير ، وأعظمها الجهاد والإعانة فيه للضعفاء .
ولما كان الإنسان محل النقصان ، فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صالح العمل ، قال سادّاً . بجواب القسم الذي وطّأت له اللام الداخلة على الشرط - مسدّ جواب الشرط : { لأكفرن } أي لأسترن { عنكم سيئاتكم } أي فعلكم لما من شأنه أن يسوء { ولأدخلنكم } أي فضلاً مني { جنات تجري } ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال : { من تحتها الأنهار } أي من{[24607]} شدة الريّ { فمن كفر } ولما{[24608]} كان الله{[24609]} سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً . وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله ، نزع الجار فقال : { بعد ذلك } أي الشرط المؤكد{[24610]} بالأمر{[24611]} العظيم الشأن { منكم } أي بعد ما رأى من الآيات واقرّ به من المواثيق{[24612]} { فقد ضل } أي ترك وضيّع ، يُستعمل قاصراً بمعنى : حار{[24613]} ، ومتعدياً كما هنا { سواء } أي وسط وعدل{[24614]} { السبيل * } أي{[24615]} لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره ، وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة ، لأن المعنى : فإن نقضتم{[24616]} الميثاق - كما نقضوا - بمثل استدراج شاس بن قيس وغيره{[24617]} ، صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا ، من إلزامهم الذلة والمسكنة وغير{[24618]} ذلك من آثار الغضب ، وإن وفيتم بالعقود آتيناكم أعظم مما آتيناهم من فتح البلاد والظهور{[24619]} على سائر العباد ؛ قال ابن الزبير : ولهذا الغرض والله أعلم - أي غرض{[24620]} التحذير من نقض العهد - ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى
أوفوا بعهدي{[24621]} }[ البقرة : 40 ] فقال تعالى :{ ولقد أخذ الله{[24622]} ميثاق بني إسرائيل }إلى قوله{ فقد ضل سواء السبيل }[ المائدة : 12 ] ثم بين نقضهم وبنى{[24623]} اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال{ فبما نقضهم ميثاقهم }[ النساء : 55 والمائدة : 13 ] وذكر تعالى عهد الآخرين فقال { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } [ المائدة : 14 ] ، ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين{[24624]} لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا ، وقولهم{[24625]} نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة ، وإسرافهم في القتل وغيره ، وتغييرهم أحكام التوراة - إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة ، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى :{ لتجدن أشد الناس عداوة{[24626]} للذين آمنوا{[24627]} }[ المائدة : 82 ] انتهى . وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم وما دعي إلى ذلك تحقيقاً للأمر وزيادة تبصرة{[24628]} ، أما اليهود فكان{[24629]} فيهم ذلك{[24630]} مرتين : الأولى : قال في السفر الرابع من التوراة : إن الرب تبارك اسمه كلم موسى النبي في جبل سينا وفي قبة الأمد في أول يوم من الشهر الثاني في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر وقال الله : احص عدد جماعة بني إسرائيل كلها في قبائلهم . كل ذكر من أبناء عشرين سنة إلى فوق ، كل من يخرج في الحرب ، وأحصهم أنت{[24631]} وأخوك هارون{[24632]} ، وليكن معكما من كل سبط{[24633]} رجل ويكون الرجل رئيساً في{[24634]} بيته ، ثم بين بعد ذلك أن كل رجل منهم يكون قائد جماعته ، ينزلون بنزوله{[24635]} حول قبة الزمان ويرحلون برحيله ، ويطيعونه فيما يأمر به ، ففعل{[24636]} موسى وهارون ما أمرهما الله به وانتدبوا اثني عشررجلاً كما أمر الله ، فمن سبط روبيل : إليصور بن شداور ، ومن سبط شمعون :{[24637]} سلوميل بن صور يشدي{[24638]} ، ومن سبط يهودا : نحسون{[24639]} بن عمينا ذاب ، ومن سبط إيشاخار : نتنائيل بن ضوغر{[24640]} ، ومن سبط زابلون : أليب بن حيلون{[24641]} ، ومن سبط يوسف من آل{[24642]} إفرائيم : إليسمع بن عميهوذ . ومن سبط منشا : جمليال بن فداهصور{[24643]} - قلت : ومنشا هو ابن يوسف وهو أخو إفرائيم - ومن سبط بنيامين : أبيذان بن جدعوني ، ومن سبط دان{[24644]} :{[24645]} أخيعزر بن عميشدي{[24646]} ، ومن سبط آشير : فجعائيل بن عخرن{[24647]} ، ومن سبط جاد : إليساف{[24648]} بن دعوائيل{[24649]} ، ومن سبط نفتالي{[24650]} : أخيراع ابن عينان{[24651]} ؛ وسبط لاوي هم سبط موسى وهارون عليهما السلام لم يذكروا لأنهم{[24652]} كانوا لحفظ قبة الزمان ، فموسى وهارون عليهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم على قومه - كما سيأتي ، والمرة الثانية كانت ليجسّوا{[24653]} أمر بيت المقدس ، قال في أثناء هذا السفر : وكلم الرب موسى و{[24654]} قال له : أرسل قوماً{[24655]} يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل ، وليكون{[24656]} الذين ترسل{[24657]} رجلاً من كل{[24658]} سبط من رؤساء آبائهم ، فأرسلهم موسى من برية فاران عن قول الرب ، رجالاً{[24659]} من رؤساء بني إسرائيل ، وهذه أسماؤهم من سبط روبيل : ساموع بن ذكور ، ومن سبط شمعون : سافاط بن حوري ، ومن سبط يهودا : كالاب بن يوفنا{[24660]} ، ومن سبط إيشاخار : إجال{[24661]} بن يوسف ، ومن سبط إفرائيم{[24662]} : هو ساع بن نون ، ومن سبط بنيامين : فلطي{[24663]} بن رافو ، ومن سبط زابلون : جدي إيل{[24664]} بن سودي ، ومن سبط{[24665]} يوسف من سبط منشا : جدي بن سوسي ، ومن سبط دان{[24666]} : عميال بن جملي ، ومن سبط آشير : ساتور{[24667]} بن ميخائيل ، ومن سبط{[24668]} نفتالي : نجني بن وفسي{[24669]} ، ومن سبط جاد{[24670]} : جوائل{[24671]} بن ماخي ؛ هؤلاء الذين أرسلهم{[24672]} وتقدم إليهم بالوصية .
وأما النصارى{[24673]} ففي إنجيل متى ما نصه : ودعا يعني عيسى عليه السلام . تلاميذه الاثني عشر ، وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض ؛ وفي إنجيل مرقس : وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه ، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ، ولكي يرسلهم ليكروزا{[24674]} ، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين ؛ وفي إنجيل لوقا : ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وإشفاء المرضى{[24675]} ، وأرسلهم يكرزون مملكوت الله ويشفون الأوجاع ، وهذه أسماؤهم : شمعون{[24676]} المسمى بطرس ، وأندراوس أخوه ، ويعقوب بن زبدي{[24677]} ، ويوحنا أخوه - وقال في إنجيل{[24678]} مرقس : وسماهما باسم{[24679]} بوانرجس{[24680]} اللذين هما ابنا الرعد - وفيلبس{[24681]} ، وبرتولوماوي ، وتوما{[24682]} ، ومتى العَشّار ، ويعقوب بن حلفا ، وليا الذي يدعى بداوس ، وقد اختلفت الأناجيل في هذا ، ففي إنجيل مرقس بدله : تدي ، وفي إنجيل لوقا : يهودا بن يعقوب ، ثم اتفقوا : وشمعون{[24683]} القاناني - وفي إنجيل لوقا{[24684]} : المدعو الغيور{[24685]} - ويهودا الإسخريوطي الذي أسلمه . وأما نقباء الإسلام فكانوا ليلة العقبة الأخيرة حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار رضي الله عنهم على الحرب وأن يمنعوه إذا وصل إلى بلدهم ، وقال لهم صلى الله عليه وسلم : " أخرجوا إلي منكم{[24686]} اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم كما اختار موسى من قومه ، وأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ، فقال لهم : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم ، وهذه اسماؤهم من الخزرج : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وسعد بن عبادة ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، والبراء بن معرور{[24687]} ، وعبد الله بن عمرو بن حرام{[24688]} أبو جابر ، وعبادة بن الصامت ، والمنذر بن عمرو ؛ ومن{[24689]} الأوس : أسيد بن حضير{[24690]} ، وسعد بن خثيمة ، ورفاعة بن عبد المنذر ، وأبو الهيثم بن{[24691]} التيهان ، قال ابن هشام : وقال كعب بن مالك يذكرهم فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري وذكر أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة فقال :
أبلغ أبيّاً أنه قال{[24692]} رأيه *** وحان غداة الشعب والحين واقع
أبى الله{[24693]} ما منتك{[24694]} نفسك إنه *** بمرصاد{[24695]} أمر الناس راءٍ وسامع
وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا *** بأحمد نور من هدى{[24696]} الله ساطع
فلا ترغبن في حشد أمر تريده *** وألب وجمع كل ما أنت جامع
ودونك فاعلم أن نقض عهودنا *** أباه عليك الرهط حين تبايعوا{[24697]}
أباه البراء و{[24698]} ابن عمرو كلاهما *** وأسعد يأباه عليك ورافع
وسعد أباه الساعدي ومنذر *** لأنفك إن حاولت ذلك{[24699]} جادع{[24700]}
وما ابن ربيع إن تناولت عهده *** بمسلمه{[24701]} لا يطمعن ثم طامع
وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة *** وإخفاره{[24702]} من دونه السم ناقع{[24703]}
وفاء به والقوقلي بن صامت *** {[24704]} بمندوحة عما تحاول{[24705]} يافع{[24706]}
أبو هيثم أيضاً وفى بمثلها *** وفاء بما أعطى من العهد خانع
وما ابن حضير إن أردت بمطمع *** فهل أنت عن{[24707]} أحموقة الغي نازع{[24708]}
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه *** ضروح لما حاولت ملأمر{[24709]} مانع
اولاك{[24710]} نجوم لا يغبك{[24711]} منهم *** عليك بنحس في دجى الليل طالع
فأما نقباء اليهود في{[24712]} جسّ{[24713]} الأرض فلم يوف منهم إلا اثنان - كما سيأتي قريباً عن بعض التوراة التي{[24714]} بين أيديهم ، وأما نقباء النصارى{[24715]} فنقض منهم واحد - كما مضى عند قوله تعالى :
{ وما قتلوه وما صلبوه{[24716]} }[ النساء : 157 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام عند قوله تعالى :
{ لأنذركم به ومن بلغ{[24717]} }[ الأنعام : 19 ] ، وأما نقباؤنا فكلهم وفي وبرّ بتوفيق الله وعونه فله{[24718]} أتم الحمد