{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا *مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا }
الحمد لله هو الثناء عليه بصفاته ، التي هي كلها صفات كمال ، وبنعمه الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، وأجل نعمه على الإطلاق ، إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله ، محمد صلى الله عليه وسلم فحمد نفسه ، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم ، وإنزال الكتاب عليهم ، ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين ، على أنه الكامل من جميع الوجوه ، وهما نفي العوج عنه ، وإثبات أنه قيم{[481]} مستقيم ، فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب ، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث ، وإثبات الاستقامة ، يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الإخبارات وهي الأخبار ، التي تملأ القلوب معرفة وإيمانا وعقلا ، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله ، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة ، وأن أوامره ونواهيه ، تزكي النفوس ، وتطهرها وتنميها وتكملها ، لاشتمالها على كمال العدل والقسط ، والإخلاص ، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له . وحقيق بكتاب موصوف . بما ذكر ، أن يحمد الله نفسه على إنزاله ، وأن يتمدح إلى عباده به .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فقد كان من فضل الله –عز وجل- على ، أن أعارتني جامعة الأزهر إلى قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
وقد امتدت هذه الإعارة لمدة أربع سنوات ، من سنة 1400 إلى 1404 ه 1980 – 1984م .
وقد وفقني الله –تعالى- خلال هذه المدة ، أن أكتب –وأنا في الجوار الطيب- تفسيراً محرراً ونافعاً –إن شاء الله- لسور : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل ، والإسراء .
وهأنذا –وأنا في الأشهر الأخيرة من الإعارة- انتهي من كتابة تفسير سورة الكهف .
أسأل الله –تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وأن يعينني على خدمة كتابه الكريم ، وعلى السير في تفسيره حتى النهاية ، وأن يزيل من طريقي كل عقبة تمنعني من ذلك .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المدينة المنورة – مساء الخميس 18 من رجب سنة 1404ه .
1- سورة الكهف هي السورة الثامنة عشرة في ترتيب سور المصحف ، فقد سبقتها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران . . إلخ .
أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثامنة والستون ، فقد ذكر قبلها صاحب الإتقان سبعا وستين سورة ، كما ذكر أن نزولها كان بعد سورة الغاشية( {[1]} ) .
ومما ذكره صاحب الإتقان يترجح لدينا ، أن سورة الكهف من أواخر السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ، إذ من المعروف عند العلماء أن السور المكية زهاء اثنتين وثمانين سورة .
قال الآلوسي : سورة الكهف ، ويقال لها سورة أصحاب الكهف . . وهي مكية كلها في الشهور ، واختاره الداني . . وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة واحدة .
وقيل : مكية إلا قوله –تعالى- [ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . ] الآية .
وقيل هي مكية إلا أولها إلى قوله –تعالى- [ جرزا ] وقيل : مكية إلا قوله –تعالى- [ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا . . ] إلى آخر السورة .
وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين . . . ( {[2]} ) .
والذين تطمئن إليه النفس أن سورة الكهف كلها مكية ، وقد ذكر ذلك دون أن يستثنى منها شيئا الإمام ابن كثير ، والزمخشري ، وأبو حيان ، وغيرهم ، وفضلا عن ذلك فالذين قالوا بأن فيها آيات مدنية ، لم يأتوا بما يدل على صحة قولهم ، كما سيتبين لنا عند تفسير الآيات التي قيل بأنها مدنية .
2- وقد صدر الإمام ابن كثير تفسيره لهذه السورة ، بذكر الأحاديث التي وردت في فضلها فقال ما ملخصه : ذكر ما ورد في فضلها ، والعشر الآيات من أولها وآخرها ، وأنها عصمة من الدجال .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ، عُصِم من الدجال " .
وفي رواية عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " .
وأخرج الحاكم عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " ( {[3]} ) .
( أ ) عندما نقرأ سورة الكهف ، نراها في مطلعها تفتتح بالثناء على الله –تعالى- وبالتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذي نزل عليه ثم تنذر الذين نسبوا إلى الله –عز وجل- مالا يليق به ، وتصمهم بأقبح ألوان الكذب ، ثم تنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التأسف عليهم ، بسبب إصرارهم على كفرهم .
قال –تعالى- : [ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما لينذر بأسا شديداً من لدنه ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسنا . ماكثين فيه أبدا . وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا . مالهم به من علم ولا لآبائهم ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ] .
( ب ) ثم ساقت السورة بعد ذلك فيما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف ، فحكت أقوالهم عندما التجأوا إلى الكهف ، وعندما استقروا فيه واتخذوه مأوى لهم ، كما حكت جانبا من رعاية الله ، تعالى ، لهم ، ورحمته بهم . . ثم صورت أحوالهم وهم رقود ، وذكرت تساؤلهم فيما بينهم بعد أن بعثهم الله –تعالى- من رقادهم الطويل ، وإرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار بعض الأطعمة ، وإطلاع الناس عليهم . وتنازعهم في أمرهم ، ونهى الله –تعالى- عن الجدال في شأنهم ، كما ذكرت المدة التي لبثوها في كهفهم .
قال –تعالى- [ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض . أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحداً ] .
( ج ) ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الفقراء من أصحابه . ومدحتهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . . كما أمرته بأن يجهر بكلمة الحق ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فإن الله –تعالى- قد أعد لكل فريق ما يستحقه من ثواب أو عقاب .
قال –تعالى- [ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ، ون يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ] .
( د ) ثم ضربت السورة الكريمة مثلا للشاكرين والجاحدين ، وصورت بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة الرائعة التي دارت بين صاحب الجنتين الغني المغرور ، وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور ، وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد .
استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك بأسلوبه فيقول : [ وأحبط بثمره ، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ، ويقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ] .
( ه ) ثم أتبعت السورة هذا المثل للرجلين ، بمثال آخر لزوال الحياة الدنيا وزينتها ، وببيان أحوال الناس يوم القيامة ، وأحوال المجرمين عندما يرون صحائف أعمالهم وقد خلت من كل خير .
قال –تعالى- : [ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدرا ، المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا . ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ] .
( و ) وبعد أن ذكرت السورة الكريمة طرفا من قصة آدم وإبليس ، وبينت أن هذا القرآن قد صرف الله فيه للناس من كل مثل ، وحددت وظيفة المرسلين عليهم الصلاة والسلام .
بعد كل ذلك ساقت في أكثر من عشرين آية قصة موسى مع الخضر –عليهما السلام- وحكت ما دار بينهما من محاورات . انتهت بأن قال الخضر لموسى : [ وما فعلته عن أمري ، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ] .
( ز ) ثم جاءت بعد قصة موسى والخضر –عليهما السلام- قصة ذي القرنين في ست عشرة آية ، بين الله ، تعالى ، فيها جانبا من النعم التي أنعم بها على ذي القرنين ، ومن الأعمال العظيمة التي مكنه –سبحانه- من القيام بها .
قال –تعالى- [ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا . قال ما مكني في ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ] .
( ح ) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ما أعده –سبحانه- للكافرين من سوء العذاب وما أعده للمؤمنين من جزيل الثواب ، وببيان مظاهر قدرته ، -عز وجل- التي توجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة .
قال –تعالى- : [ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا . ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا . خالدين فيها لا يبغون عنها حولا . قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا . قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد . فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ] .
4- وبعد : فهذا عرض إجمالي لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة الكهف ، ومن هذا العرض نرى :
( أ ) أن القصص قد اشتمل على جانب كبير من آياتها ، ففي أوائلها نرى قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من أعناب . ثم بعد ذلك جاء طرف من قصة آدم وإبليس ، ثم جاءت قصة موسى والخضر –عليهما السلام- ثم ختمت بقصة ذي القرنين .
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية ، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة .
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية ، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة .
( ب ) اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه ، وعلى إثبات أن هذا القرآن من عنده –تعالى- .
نرى ذلك في أمثال قوله –تعالى- [ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ] .
وقوله –تعالى- : [ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ] .
وفي غير ذلك من الآيات التي حكت لنا تلك القصص المتعددة .
( ج ) برز في السورة عنصر الموازنة والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، ترى ذلك في قصة أصحاب الكهف ، وفي قصة الرجلين وفي قصة ذي القرنين .
وفي الآيات التي ذكرت الكافرين وسوء مصيرهم ، ثم أعقبت ذلك بذكر المؤمنين وحسن مصيرهم كما برز فيها عنصر التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتهوين من شأن أعدائه [ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ] .
كما برز فيها التصوير المؤثر لأهوال يوم القيامة كما في قوله –تعالى- : [ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا . وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ] .
والخلاصة : أن سورة الكهف قد –ساقت- بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة – ألوانا من التوجيهات السامية ، التي من شأنها أنها تهدي إلى العقيدة الصحيحة ، وإلى السلوك القويم . وإلى الخلق الكريم ، وإلى التفكير السليم الذي يهدي إلى الرشد ، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة .
سورة الكهف هى إحدى السور الخمس ، التى افتتحت بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء التام ، هو الله رب العالمين .
والسور الأربع الأخرى التى افتتحت بقوله - تعالى - : { الحمد لله } هى : الفاتحة ، والأنعام ، وسبأ ، وفاطر .
وقد بينا عند تفسيرنا لسورة الأنعام ، أن هذه السورة وإن كانت قد اشتركت فى هذا الافتتاح ، إلا أن لكل سورة طريقتها فى بيان الأسباب التى من شأنها أن تقنع الناس ، بأن المستحق للحمد المطلق هو الله - تعالى - وحده .
وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة على الله - تعالى - ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ؛ إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو فى الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذى وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه .
وقد بين بعض المفسرين الحكمة فى افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه : أعلم أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر ، أما بيان أن المدح أعم من الحمد ، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، فقد يمدح الرجل لعقله ، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله .
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار ، على ما يصدر منه من الإِنعام ، فثبت أن المدح أعم من الحمد .
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام ، سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك ، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك ، فثبت أن الحمد أعم من الشكر .
وكان قوله { الحمد لله } تصريحا بأن المؤثر فى وجود العالم هو الفاعل المختار ، الذى وصلت نعمه إلى جميع خلقه ، لا إلى بعضهم . . ، .
وقوله : { الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً . . } بيان للأسباب التى توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله - تعالى - وحده ، إذ الوصف بالموصول ، يشعر بعلية ما فى حيز الصلة لما قبله .
والعوج - بكسر العين - أكثر ما يكون استعمالا فى المعانى ، تقول ، هذا كلام لا عوج فيه ، أى : لا ميل فيه .
أما العوج - بفتح العين - فأكثر ما يكون استعمالا فى الأعيان تقول : هذا حائط فيه عوج .
وقوله : { قيما } أى : مستقيما معتدلا لا ميل فيه ولا زيغ وهما - أى : عوجا وقيما - حالان من الكتاب ويصح أن يكون قوله { قيما } منصوبا بفعل محذوف أى : جعله قيما .
والمعنى : الحمد الكامل ، والثناء الدائم ، لله - تعالى - وحده ، الذى أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم ، ولم يجعل فيه شيئا من العوج أو الاختلاف أو التناقض ، لا فى لفظه ، ولا فى معناه ، وإنما جعله فى أسمى درجات الاستقامة والإِحكام .
وإنما أمر الله - تعالى - الناس بأن يحمدوه لإِنزال الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلم لأن فى هذا الكتاب من الهدايات ما يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وما يسعدهم فى دينهم ودنياهم وآخرتهم .
وفى التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد ، مضافا إلى ضميره - تعالى - ، تعظيم وتشريف له صلى الله عليه وسلم وإشعار بأنه مهما سمت منزلته ، وعلت مكانته " فهو عبد الله - تعالى - ، وأن الذين بعدوا أو أشركوا مع الله - تعالى - بعض مخلوقاته ، قد ضلوا ضلالا بعيدا " .
والتعبير عن القرآن الكريم بالكتاب ، إشارة إلى كماله وشهرته ، أى : أنزل - سبحانه - على عبده محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الكامل فى بابه ، الغنى عن التعريف ، الحقيق باختصاص هذا الاسم به ، المعروف بهذا الاسم من بين سائر الكتب .
والمراد به إما جميع القرآن الكريم سواء منه ما نزل فعلا وما هو مترقب النزول ، وإما ما نزل منه فقط حتى نزول هذه الآية فيكون من باب التعبير عن البعض بالكل تحقيقا للنزول للجميع .
وجاء لفظ { عوجا } بصيغة التنكير ، ليشمل النهى جميع أنواع الميل والعوج ، إذ النكرة فى سياق النفى تعم ، أى : لم يجعل له - سبحانه - أى شئ من العوج . وقوله : { قيما } تأكيد فى المعنى لقوله - سبحانه - : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } لأنه قد يكون الشئ مستقيما فى الظاهر ، إلا أنه لا يخلو عن اعوجاج فى حقيقة الأمر ، ولذا جمع - سبحانه - بين نفى العوج ، وإثبات الاستقامة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة ، وفى أحدهما غنى عن الآخر ؟
قلت : فائدته التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ، ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح ، وقيل : قيما على سائر الكتب ، مصدقا لها ، شاهدا بصحتها ، وقيل : قيما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع .
وشبيه بهذه الآية فى مدح القرآن الكريم قوله - تعالى - : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وقوله - سبحانه - . { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ . . } وقوله - عز وجل : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وقوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً }
بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا } .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الحمد لله الذي خصّ برسالته محمدا وانتخبه لبلاغها عنه ، فابتعثه إلى خلقه نبيا مرسلاً ، وأنزل عليه كتابه قيما ، ولم يجعل له عِوَجا .
وعُنِي بقوله عزّ ذكره : قَيّما معتدلاً مستقيما . وقيل : عُنِي به : أنه قيم على سائر الكتب يصدّقها ويحفظها . ذكر من قال : عني به معتدلاً مستقيما :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما يقول : أنزل الكتاب عَدلاً قيما ، ولم يجعل له عِوَجا ، فأخبر ابن عباس بقوله هذا مع بيانه معنى القيم أن القيم مؤخر بعد قوله ، ولم يجعل له عوجا ، ومعناه التقديم بمعنى : أنزل الكتاب على عبده قَيّما .
حُدثت عن محمد بن زيد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله قَيّما قال : مستقيما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوْجا قَيّما : أي معتدلاً لا اختلاف فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَوَجا قَيّما قال : أنزل الله الكتاب قيما ، ولم يجعل له عِوَجا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَوَجا قَيّما .
قال : وفي بعض القراءات : «وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيّما » .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله ابن عباس ، ومن قال بقوله في ذلك ، لدلالة قوله : ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا فأخبر جلّ ثناؤه أنه أنزل الكتاب الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم قَيّما مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، بل بعضه يصدق بعضا ، وبعضه يشهد لبعض ، لا عِوَج فيه ، ولا ميل عن الحقّ ، وكُسرت العين من قوله عَوِجا لأن العرب كذلك تقول في كلّ اعوجاج كان في دين ، أو فيما لا يُرَى شخصه قائما ، فيُدْرَك عِيانا منتصبا كالعاج في الدين ، ولذلك كُسِرت العين في هذا الموضع ، وكذلك العِوَج في الطريق ، لأنه ليس بالشخص المنتصب . فأما ما كان من عِوَج في الأشخاص المنتصبة قياما ، فإن عينها تفتح كالعَوج في القناة ، والخشبة ، ونحوها . وكان ابن عباس يقول في معنى قوله ولَمَ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا : ولم يجعل له ملتبسا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ولَمَ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما ولم يجعل له ملتبسا .
ولا خلاف أيضا بين أهل العربية في أن معنى قوله قَيّما وإن كان مؤخرا ، التقديم إلى جنب الكتاب . وقيل : إنما افتتح جلّ ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بما هو له أهل ، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من أهل مكة ، بأن محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير ، وأمروهم بمسألتهموه عنها ، وقالوا : إن أخبركم بها فهو نبيّ ، وإن لم يخبركم بها فهو منقوّل ، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا ، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء ، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم ، فتحدّث المشركون بأنه أخلفهم موعدَه ، وأنه متقوّل ، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم ، وافتتح أوّلها بذكره ، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدّثوها بينهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فيما يروي أبو جعفر الطبري قال : بعثت قريش النضْر بن الحارث ، وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصِفُوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأوّل ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قَدِما المدينة ، فسألوا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالت لهم أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل ، فَرَوْا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طَوّاف ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك ، فإنه نبيّ فاتّبعوه ، وإن هو لم يخبركم ، فهو رجلّ متقوّل ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضْر وعقبة حتى قَدِما مكة على قريش ، فقالا : يا معشر قريش : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهودَ أن نَسأله ، عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا ، فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُخْبِرُكُمْ غَدا بِمَا سألْتُمْ عَنْهُ » ، ولم يستثن فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يُحَدِث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعَدَنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه . وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه ، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبرائيل عليه السلام ، من الله عزّ وجلّ ، بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتية والرجل الطوّاف ، وقول الله عزّ وجلّ وَيَسألُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً قال ابن إسحاق : فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال الحَمْدِ لِلّهِ الّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ يعني محمدا إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما : أي معتدلاً ، لا اختلاف فيه .