معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

قوله تعالى : { أياماً معدودات } . شهر رمضان وهي غير منسوخة ونصب { أياماً } على الظرف ، أي في أيام معدودات ، وقيل : على التفسير ، وقيل : على أنه هو خبر ما لم يسم فاعله .

قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة } . أي فأفطر فعدة .

قوله تعالى : { من أيام أخر } . أي فعليه عدة ، والعدد والعدة واحد ، من أيام أخر ، أي غير أيام مرضه وسفره ، { وأخر } في موضع خفض لكنها لا تنصرف فلذلك نصبت .

قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه } . اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها ، فذهب أكثرهم إلى أن الآية منسوخة ، وهو قول ابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، وغيرهما ، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا ، خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ، ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) قال قتادة : هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ، ولكن يشق عليه ، رخص له في أن يفطر ويفدي ثم نسخ . وقال الحسن : هذا في المريض الذي به ما يقع عليه اسم المرض وهو مستطيع للصوم خير بين أن يصوم وبين أن يفطر أو يفدي ، ثم نسخ بقوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) . وثبتت الرخصة للذين لا يطيقون ، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة غير منسوخة ، ومعناه : وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه في حال الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم ، وقرأ ابن عباس : ( وعلى الذين يطيقونه ) بضم الياء وفتح الطاء وتخفيفها وفتح الواو وتشديدها ، أي يكلفون الصوم وتأويله على الشيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم ، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه فهم يكلفون الصوم ولا يطيقونه ، فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكيناً ، وهو قول سعيد بن جبير ، وجعل الآية محكمة .

قوله تعالى : { فدية طعام مسكين } . قرأ أهل المدينة والشام مضافاً ، وكذلك في المائدة : ( كفارة طعام مساكين ) أضاف الفدية إلى الطعام ، وإن كان واحداً لاختلاف اللفظين ، كقوله تعالى ( وحب الحصيد ) وقولهم : مسجد الجامع ، وربيع الأول ، وقرأ الآخرون : فدية وكفارة منونة ، طعام رفع وقرأ مساكين بالجمع هنا أهل المدينة والشام ، والآخرون على التوحيد ، فمن جمع نصب النون ومن وحد خفض النون ونونها ، والفدية : الجزاء ، ويجب أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد ، هذا قول فقهاء الحجاز ، وقال بعض فقهاء أهل العراق : عليه لكل مسكين نصف صاع لكل يوم يفطر ، وقال بعضهم : نصف صاع من قمح أو صاع من غيره ، وقال بعض الفقهاء ما كان المفطر يتقوته يومه الذي أفطره ، وقال ابن عباس : يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره .

قوله تعالى : { فمن تطوع خيراً فهو خير له } . أي زاد على مسكين واحد فأطعم مكان كل يوم مسكينين فأكثر ، قاله مجاهد وعطاء وطاووس ، وقيل : من زاد على القدر الواجب عليه فأعطى صاعاً وعليه مد فهو خير له . قوله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم } . فمن ذهب إلى النسخ قال : معناه الصوم خير له من الفدية ، وقيل : هذا في الشيخ الكبير لو تكلف الصوم وإن شق عليه خبر له من أن يفطر ويفدي .

قوله تعالى : { إن كنتم تعلمون } . واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلف في إفطار رمضان إلا لثلاثة : أحدهم يجب عليه القضاء والكفارة ، والثاني عليه القضاء دون الكفارة ، والثالث عليه الكفارة دون القضاء . أما الذي عليه القضاء والكفارة فالحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فإنهما تفطران وتقضيان وعليهما مع القضاء الفدية ، وهذا قول ابن عمر وابن عباس ، وبه قال مجاهد وإليه ذهب الشافعي رحمه الله ، وقال قوم : لا فدية عليهما ، وبه قال الحسن وعطاء وإبراهيم النخعي والزهري وإليه ذهب الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي ، وأما الذي عليه القضاء دون الكفارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء . وأما الذي عليه الكفارة دون القضاء فالشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام ، أخبر أنه أيام معدودات ، أي : قليلة في غاية السهولة .

ثم سهل تسهيلا آخر . فقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة ، في الغالب ، رخص الله لهما ، في الفطر .

ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن ، أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض ، وانقضى السفر ، وحصلت الراحة .

وفي قوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان ، كاملا كان ، أو ناقصا ، وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة ، عن أيام طويلة حارة كالعكس .

وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام ، لما كانوا غير معتادين للصيام ، وكان فرضه حتما ، فيه مشقة عليهم ، درجهم الرب الحكيم ، بأسهل طريق ، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم ، وهو أفضل ، أو يطعم ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }

ثم بعد ذلك ، جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق ، يفطر ويقضيه في أيام أخر [ وقيل : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتكلفونه ، ويشق عليهم مشقة غير محتملة ، كالشيخ الكبير ، فدية عن كل يوم مسكين{[123]}  وهذا هو الصحيح ]{[124]} .


[123]:- ظاهر أن المراد عن كل يوم طعام مسكين.
[124]:- زيادة من هامش ب.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

وقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي : معينات بالعد أو قليلات ، لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافاً .

والمراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان عند جمهور العلماء .

قالوا : وتقريره أنه - سبحانه - قال أولا { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } وهذا محتمل ليوم ويومين ثم بينه بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان ، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره .

وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة - أيضاً - تهوينا لأمره على المكلفين ، وإشعاراً لهم بأن الله - تعالى - ما فرض عليهم إلا ما هو في وسعهم وقدرتهم .

وقيل : إن المراد بالأيام المعدودات غير رمضان ، وذكروا أن المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر مضافاً إليها يوم عاشوراء . ثم نسخ ذلك بوجوب صوم شهر رمضان .

والمعتمد بين المحققين من العلماء هو القول الأول ، لأنه - كما قال الإِمام الرازي - لا وجه لحمله على غيره ، والقول بالنسخ زيادة لا دليل عليها .

وقوله : { أَيَّاماً } منصوب على الظرفية ، أو بفعل مضمر مقدر أي : صوموا أياماً . وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } زيادة بيان ليسر شريعة الإِسلام بعد أن أخبرهم - سبحانه - بأن الصوم المفروض عليهم إنما هو أيام معدودات ، وتعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال .

والمرض : الخروج عن الاعتدال الخاص بالإِنسان ، بأن يصاب بانحراف في جسده يجعله في حالة وجع أو اضطراب بدني .

قال القرطبي : وللمريض حالتان :

إحداهما : ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً .

الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة فهذا يستحب له الفطر . . فالفطر مباح في كل مرض إلا المرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام .

وقوله : { أَوْ على سَفَرٍ } قال الآلوسي معناه : أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه ، بأن استغشل به قبل الفجر ، ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر . واستدل بإطلاق السفر على أن السفر القصير وسفر المعصية مرخص للإِفطار . وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وبما يلزمه العسر غالباً وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع " .

والعدة فعله من العد ، وهي بمعنى المعدود ، كالطحن بمعنى المطحون ومنه عدة المرأة .

والمعنى : لقد فرضنا عليكم الصوم أيها المؤمنون ، وجعلناه كما هو الشأن من كل ما شرعناه متسماً باليسر لا بالعسر ، ومن مظاهر ذلك أننا فرضنا عليكم صوم أيام معدودات وهي أيام شهر رمضان ، ولم نفرض عليكم صوم الدهر . وأننا شرعنا لمن كان مريضا مرضا يضره الصوم أو يعسر معه ، أو كان على سفر يشق عليه معه الصوم ، شرعنا له أن يفطر وأن يصوم بدل الأيام التي أفطرها أياما آخر مساوية لها في العدد .

قال الإِمام الرازي : قال القفال : أنظروا إلى عجب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، إذ أنه بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم المتقدمة ، والغرض منه ما ذكرناه من أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت . ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم وهو أنه سبب الحصول التقوى فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف ، ثم بين ثالثاً أنه مختص بأيام معدودة فإنه لو جعله أبداً أو أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة . ثم بين .

رابعاً : أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة . ثم بين خامساً : إزالة المشقة في إلزامه أباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون . فهو - سبحانه- راعي في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمة كثيراً " .

هذا ، وقد نص الفقهاء على أن الأفطار مشروع على سبيل الرخصة للمريض والمسافر ، وهما بالخيار في ذلك إن شاءا أفطر وإن شاءا صاما ، إلا أن أكثر الفقهاء قالوا : الصوم أفضل لمن قوى عليه .

والذي نراه الله - تعالى - قد أباح الفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر ، لأن كلا منهما مظنة المشقة والحرج . والحكم الشرعي يوجد حيث توجد مظنته وينتفى حيث تنتفي . وعلى المسلم أن يقدر حال نفسه ، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس في الصوم معه مشقة أو عسر صام عملا يقول- تعالى- { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . وإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره يجعل الصوم شاقاً عليه أفطر عملا بقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } فالمسألة ترجع إلى ضمير الفرد ودينه واستفتاء قلبه .

والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر وأفطر ، وخير بعض أصحابه بين الصوم والفطر . فقد روى البخاري ومسلم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم " وفي إحدى روايتي مسلم - في شهر رمضان - ، في يوم حار ، حتى ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحه " .

وروى الإِمام مسلم في صحيحه عن قزعة قال : " أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر فقال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام ، قال : فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فكانت رخصة . فمنا من صام ومنا من أفطر . ثم نزلنا منزلا آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا . وكانت عزمة فأفطرنا . ثم قال : ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من السفر " .

وروى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

وهناك مسألة أخرى تعرض لها الفقهاء بالحديث وهي مسألة قضاء الأيام التي أفطرها المريض أو المسافر هل يقضيها متتابعة أو متفرقة وهل يقضيها على الفور أو على التراخي ؟

وجمهور الفقهاء على أن للمفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يقضي ما أفطره متتابعاً أو متفرقاً ؛ لأن قوله - تعالى - : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . دل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ، لأن اللفظ - كما قال القرطبي - مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض .

وله كذلك أن يقضي ما عليه على الفور أو على التراخي على حسب ما يتيسر له . ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يكون علىَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نص وزيادة بيان للآية " .

ويرى داود الظاهري أن على المفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يشرع في قضاء ما أفطره في اليوم الثاني من شوال المعاقب له ، وأن يتابع أيام القضاء .

والمعتمد بين العلماء هو قول الجمهور لقوة أدلته التي سبق بيانها .

وقوله - تعالى - : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } بيان لحكم آخر من أحكام الشريعة فيما يتعلق بصوم رمضان يتجلى فيه تيسير الله على عبادة فيما شرع لهم من عبادات .

ومعنى { يُطِيقُونَهُ } يقدرون عليه ويتحملونه بمشقة وتعب ، لأن الطاقة اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة ، والوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة .

قال الراغب : والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإِنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ، ومنه { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه : " لا تحملنا ما لا قدرة لنا به " .

والعرب لا تقول فلان أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمله بمشقة وعسر . فلا يقال - مثلا - فلان يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد ، وإنما يقال : هو يطيق حمل قنطارين أو حمل الأمتعة الثقيلة .

وللعلماء أقوال في المراد بقوله - تعالى - { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } أشهرها :

1 - إن هذا راجع إلى المقيم الصحيح خيره الله - تعالى - بين الصوم وبين الفداء ، وكان ذلك في بدء الإِسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم ، فرخص لهم في الإِقطار والفدية ، ثم نسخ ذلك وأوجب الله عليهم الصوم .

ويشهد لهذا القول ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها .

وفي رواية للإِمام مسلم من طريق آخر عن سلمة - أيضاً - قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أفطر فافتدى بطعا مسكين حتى أنزلت هذه الآية { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .

2 - ويرى بعض اللعماء أن قوله - تعالى - : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } إلخ ، ليس بمنسوخ بل هو محكم ، وأنه نزل في شأن الشيخ الكبير الهرم ، والمرأة العجوز ، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطرا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا .

وأصحاب هذا الرأي يستدلون بما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فعليها أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً " .

3 - وهناك رأى ثالث لبعض العلماء يرى أصحابه أن قوله - تعالى - { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ليس بمنسوخ - أيضاً - بل هو محكم ، وأن معنى الآية عندهم : وعلى الذين يطيقونه ، أي : يقدرون على الصيام بمشقة شديدة إذا أرادوا أن يفطروا أن يطعموا عن كل يوم يفطرونه مسكيناً . ( بأن يقدموا له نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ، أو قيمة ذلك ) .

ولم يقصروا ذلك على الرجل الكبير والمرأة العجوز - كما فعل أصحاب الرأي الثاني - وإنما أدخلوا في حكم الذين يقدرون على الصوم بمشقة وتعب المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ومن في حكمها ممن يشق عليهم الصوم مشقة كبيرة .

وأصحاب هذا الرأي يستدلون على ما ذهبوا إليه بمنطوق الآية ، إذا أن الوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة ، والطاقة اسم للقدرة عليه مع الشدة والمشقة - كما سبق أن بينا - ، كما يستدلون - أيضاً - على ما ذهبوا إليه بقراءة { يُطِيقُونَهُ } - بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية - أي يتجشمونه ، ويتكلفونه بمشقة وتعب ، وقد انتصر بعض العلماء لهذا الرأي بناء على أن منطوق الآية يؤيده .

كما انتصر بعضهم للرأي الأول بناء على أن الأحاديث الصحيحة تسانده وعلى أنه هو الأقرب إلى روح الشريعة الإِسلامية في التدرج في تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس ، كما انتصر بعضهم للرأي الثاني الذي روى عن ابن عباس .

وهناك أقوال أخرى في الآية رأينا أن نضرب عنها صفحاً لضعفها .

وقوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } حض من الله - تعالى - لعباده على الإِكثار من عمل الخير .

والتطوع : السعي في أن يكون الإِنسان فاعلا للطاعة باختياره بدون إكراه والخير : مصدر خار إذا حسن وشرف ، وهو منصوب لتضمين تطوع معنى أتى ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي تطوعاً خيراً .

والمعنى : فمن تطوع خيراً بأن زاد على القدر المفروض في الفدية ، أو أطعم أكثر من مسكين ، أو جمع بين الإِطعام والصوم ، فتطوعه سيكون خيراً عند الله - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا .

وقوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ترغيب في الصوم وتحبيب فيه . أي : وأن تصوموا أيها المطيقون للصوم ، أو أيها المكلفون جميعاً خير لكم من كل شيء سواه ، إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في حياتكم ، وحسن جزائه في آخرتكم .

روى النسائي وابن خزيمة عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : " قلت يا رسول الله مرني بعمل قال : عليك بالصوم فإنه لا عدل له - أي لا يعادل ثوابه بشيء - فقلت يا رسول الله مرني بعمل ، فقال : عليك بالصوم فإنه لا عدل له . فقلت : يا رسول الله مرني بعمل أدخل به الجنة . فقال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له " .