فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

{ أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } .

{ أياما معدودات } أي معينات بعدد معلوم ومقدرات ، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام أي قليلات ، يعني أقل من أربعين ، وقيل انه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا وصوم عاشوراء ، ثم نسخ ذلك بفريضة صوم شهر رمضان ، قال ابن عباس : أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ثم الصوم ، وقيل ان المراد أيام شهر رمضان ، وعلى هذا فتكون الآية غير منسوخة .

وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني عن دغفل ابن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرا ثم كان آخر فأكل لحما ، فأوجع فوه فقال لئن شفاه الله ليزيدن سبعة ثم كان عليهم ملك آخر فقال ما ندع من هذه الثلاثة الأيام نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما ) وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت كان عاشوراء يصام فلما أنزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر{[166]} .

{ فمن كان } حين حضوره ووجود الشخص فيه { منكم مريضا } ولو في أثناء اليوم بخلاف السفر ، فلا يبيح له الفطر إذا طرأ في أثناء اليوم وهذا سر التعبير بعلى في السفر دون المرض ، قيل للمريض حالتان إن كان رخصة لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة وإن كان يطيقه مع تضرر ومشقة كان رخصة ، وبهذا قال الجمهور { أو على سفر } أي مستعليا على السفر ومتمكنا منه بأن كان متلبسا به وقت طلوع الفجر .

واختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار ؛ فقيل مسافة قصر الصلاة ، والخلاف في قدرها معروف ، وبه قال الجمهور ، وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها ، والحق إن ما صدق عليه مسمى المرض فهو الذي يباح عنده الفطر ، وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة ، واختلفوا في الأسفار المباحة ، والحق أن الرخصة ثابتة فيه وكذا اختلفوا في سفر المعصية .

{ فعدة من أيام أخر } أي فعليه عدة ما أفطر من أيام أخر بصومها بدله ، وأخر جمع أخرى تأنيث أخر بفتح الخاء أو جمع أخرى بمعنى آخره تأنيث آخر بكسر الخاء ، وفيه الوصف والعدل ، واختلف النحاة في كيفية العدل فيه على أقوال ، والعدة فعلة من العدد ، وهو بمعنى المعدود أي فعليه عدة أو فالحكم عدة أو فالواجب عدة من غير أيام مرضه وسفره ، وإليه ذهب الظاهرية ، وبه قال أبو هريرة ، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء .

{ وعلى الذين } لا { يطيقونه } لكبر أو مرض لا يرجى برؤه ، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فقيل إنها منسوخة ، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام ، لأنه شق عليهم ، وكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم وهو يطيقه ثم نسخ ذلك وهو قول الجمهور ، وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة ، وهذا يناسب قراءة التشديد وهو يطوقونه أي يكلفونه والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } { فدية طعام مسكين } وقرئ مساكين ، والفدية الجزاء وهو القدر الذي يبدله الإنسان يقي به نفسه من تقصير وقع منه في عبادة ونحوها .

وقد اختلفوا في مقدار الفدية فقيل كل يوم صاع من غير البر ونصف صاع منه ، وقيل مد فقط أي من غالب قوت البلد ، وقال ابن عباس : يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره أي قدر ما يأكله في يومه وروي أن أنس ابن مالك ضعف عن الصوم عاما قبل موته فصنع جفنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ، عن ابن عباس بسند صحيح أنه قال : لأم ولد له حامل أو مرضعة أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصوم . عليك الطعام لا قضاء عليك ، عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان وهي حامل ، قال : تفطر وتطعم كل يوم مسكينا ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين .

{ فمن تطوع خيرا فهو خير له } قال ابن شهاب : معناه من أراد الإطعام مع الصوم ، وقال مجاهد : ومعناه من زاد في الإطعام على المد ، وقيل من أطعم مع المسكين مسكينا آخر .

{ وأن تصوموا } أي أن صيامكم { خير لكم } أيها المطيقون من الإفطار مع الفدية ، وكان هذا قبل النسخ ، وقيل معناه وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق ، وقيل هو خطاب مع الكافة ، لأن اللفظ عام فرجوعه إلى الكل أولى ، وهو الأصح . وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جدا { إن كنتم تعلمون } أن الصوم خير لكم وقيل المعنى إذا صمتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للخير والتقوى ، ولا رخصة لأحد من المكلفين في إفطار رمضان بغير عذر ، والأعذار المبيحة للفطر ثلاثة " أحدها " السفر والمرض والحيض والنفاس وأهلها إذا أفطروا فعليهم القضاء دون الفدية " والثاني " الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء والفدية ، وبه قال الشافعي وذهب أهل الرأي إلى أنه لا فدية عليهما " الثالث " الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه فعليهم الفدية دون القضاء .


[166]:جاء في البخاري عن عبد الله ابن عمر: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك.