غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

183

ومعنى معدودات مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل مثل { دراهم معدودة } [ يوسف : 20 ] وأصله أن المال القليل يعدّ عدّاً ، والكثير يحثى حثياً كأنه قال : إني رحمتكم فلم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا أكثره ولكن أياماً معدودة قليلة ، وعلى هذا يحتمل أن يكون وجه الشبه بين الفرضين مجرد تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان . ثم إن الأئمة اختلفوا في هذه الأيام على قولين : الأول : أنها غير رمضان . فعن عطاء : ثلاثة أيام من كل شهر . وعن قتادة : هي مع صوم عاشوراء . ثم اختلفوا أيضاً فقيل : كان تطوّعاً ثم فرض وقيل بل كان واجباً . واتفقوا أنه نسخ بصوم رمضان واستدلوا على قولهم إنها غير صوم رمضان بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن صوم رمضان نسخ كل صوم " فدل على أن صوماً آخر كان واجباً . وأيضاً ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية وفي التي تتلوها ، فلو اتحد الصومان كان تكريراً محضاً . وأيضاً ذكر في هذه الآية التخيير بين الصوم والفدية وصوم رمضان واجب على التعيين فيختلفان . والثاني : وهو اختيار أبي مسلم والحسن وأكثر المحققين أنها شهر رمضان أجمل أولاً ذكر الصيام ، ثم بينه بعض البيان بقوله { أياماً معدودات } ثم كمل البيان بقوله { شهر رمضان } وهذا ترتيب في غاية الحسن من غير زيادة ولا نقصان . وأجيب عن استدلالهم الأول بأنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يراد به نسخ كل صوم وجب الشرائع المتقدمة . سلمنا أن المراد به صوم ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية . وعن الثاني أن صوم رمضان كان واجباً مخيراً ، وفي الآية الثانية جعل واجباً على التعيين ، فأعيد حكم المريض والمسافر ليعلم أن حالهما ثانياً في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً . وعن الثالث أن الاختلاف مسلم لكن في التخيير والتعيين ، أما في نفس الصوم فلا . وههنا سؤال وهو أن قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } كيف كان ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ ؟ والجواب أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول ، بل المقدم في التلاوة يمكن أن يكون ناسخاً والمتأخر منسوخاً كآية الاعتداد بالحول . وهكذا نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير . قال القفال : انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فبين أولاً أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم السالفة ، فإن الأمور الشاقة إذا عمت خفت . ثم بين ثانياً وجه الحكمة في إيجاب الصوم وحصول التقوى . ثم بين ثالثاً أنه مختص بأيام قلائل لا بكلها ولا بأكثرها . ثم بين رابعاً أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن ليعلم شرفه فتوطن النفس له . ثم ذكر خامساً إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى زمن الرفاهية والصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنها الأفعال كلها سليمة والمرض زوالها . واختلف الأئمة في المرض والسفر المبيحين للإفطار على أقوال : أحدها أن أيّ مريض كان ، وأيّ مسافر كان ، فله أن يترخص تنزيلاً للفظ المطلق على أقل أحواله ، وهذا قول الحسن وابن سيرين . يروى أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه . وعن داود : الرخصة حاصلة في كل سفرٍ ولو كان فرسخاً . وثانيها أنه المرض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وكذا السفر وهو قول الأصم . وحاصله تنزيل اللفظ على أكمل أحواله . وثالثها وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء أنه الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في العقل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتد حماه ، والأرمد يخاف أن يشتد وجع عينه . قالوا : وكيف يمكن أن يقال : كل مرض مرخص مع علمنا بأن في الأمراض ما ينفعه الصوم ؟ فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته تأثيراً يعتد به والتأثير اليسير لا عبرة به . المرض المرخص لا يفرق فيه بين أن يعرف كونه كذلك بنفسه أو يخبره بذلك طبيب حاذق بشرط كونه مسلماً بالغاً عدلاً . وأصل السفر من الكشف لأنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم . وعن الأزهري : سمي مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء . قال الأوزاعي : السفر المبيح مسافة يوم . وعند الشافعي مقدر بستة عشر فرسخاً ولا يحسب منه مسافة الإياب . كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدر أميال البادية ، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة .

وإلى هذه ذهب مالك وأحمد وإسحاق ، وذلك أن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله بخلاف ما إذا تكرر في يومين فحينئذٍ يناسب الرخصة ، ولما روى الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان " قال أهل اللغة : كل بريد أربعة فراسخ . وروى الشافعي أيضاً أن عطاء قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة ؟ فقال : لا فقال : إلى مرّ الظهران ؟ فقال : لا . ولكن اقصر إلى جدّة وعسفان والطائف . قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد . وقال أبو حنيفة والثوري : رخصة السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل ، أربعة وعشرين فرسخاً قياساً على المسح . والإجماع على الرخصة في هذا المدة والخلاف فيما دون ذلك فيبقى المختلف فيه على أصل وجوب الصوم . وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم " يمسح المقيم يوماً وليلة " لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة ، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة يصير مقيماً . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم " والمسافر ثلاثة أيام " لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام . وأيضاً الترجيح للإفطار لقوله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة " هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وإنما قيل { أو على سفرٍ } دون أن يقول مسافراً كما قال { مريضاً } لأن السفر يتعلق بقصده واختياره حتى لو عزم على الإقامة في منزل من المنازل لم يبق على قصد السفر ، فلا يصح الإفطار وإن كان مسافراً وهذا بخلاف المرض فإنه صفة قائمة به إن حصلت حصلت وإلا فلا .

وعدّة فعلة من العدّ بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ، وعدة المرأة من هذا . وإنما قيل { فعدّة } على التنكير ولم يقل " فعدتها " أي فعدة الأيام المعدودات للعلم بأنه لا يؤثر عدد على عددها وأنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد ظاهراً ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة . والمعنى فعليه صوم عدّة . وقرئ بالنصب أي فليصم عدّة . وأخر جمع أخرى تأنيث آخر ، وإنه غير مصروف للصفة والعدل من أخر من كذا . واعلم أن قوماً من علماء الصحابة ذهبوا إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر حتى قالا : لو صام في السفر قضى في الحضر . واختاره داود بن علي الأصفهاني وهو مذهب الإمامية لأن قوله تعالى { فعدّة } أي فعليه عدّة مشعر بالوجوب عليه . ولأن قوله { يريد بكم اليسر } ينبئ عن إرادته الإفطار ولقوله صلى الله عليه وسلم " ليس من البر الصيام في السفر " وفي الرواية بدل لام التعريف ميم التعريف . وقوله " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " وذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام لما يجيء من قوله تعالى { وإن تصوموا خيرٌ لكم } ولما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل أصوم في السفر فقال " صم إن شئت وأفطر إن شئت " . قالوا وفي الآية إضمار التقدير : فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى { أو به أذى من رأسه ففديةٌ } [ البقرة : 196 ] أي فحلق فعليه فدية . ثم اختلف هؤلاء فعن الشافعي وأبو حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد : أن الصوم أفضل . وقالت طائفةٌ : الأفضل الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق . وقيل : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء . واختلف أيضاً في القضاء فعامة العلماء على التخيير . وعن أبي عبيدة بن الجراح : أن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق . وعن علي كرم الله وجهه وابن عمر والشعبي وغيرهم : أنه يقضي كما فات متتابعاً ويؤيده قراءة أبي { فعدة من أيامٍ أخر متتابعات } قوله سبحانه { وعلى الذين يطيقونه } فيه ثلاثة أقوال :

الأول : وهو قول أكثر المفسرين : أن المعنى وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم لكونهم مقيمين صحيحين إن أفطروا فدية هي طعام مسكين . والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وأنه ههنا عند أهل العراق - ومنهم أبو حنيفة - نصف صاع من بر أو صاع من غيره . وعند أهل الحجاز - ومنهم الشافعي - مدّ من غالب قوت البلد لكل يوم ويصرف إلى الفقير والمسكين . قالوا : كان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية . عن سلمة بن الأكوع : لما نزلت { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } كان من أراد أن يفطر يفطر ويفتدي حتى نزلت { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فنسختها . من قرأ بإضافة الفدية إلى طعام فالإضافة فيه كهي في قولك " خاتم حديد " ومن قرأ " مساكين " على الجمع فلأن الذين يطيقونه جمع فكل واحد منهم يلزمه طعام مسكين لكل يوم . والاعتبار بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مائة وثلاثة وسبعون درهماً وثلث الدرهم .

الثاني : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض . وذلك أن المريض والمسافر منهما من لا يطيق أصلاً وإليه الإشارة بقوله { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيامٍ أخر } ومنهما من يطيق الصوم مع الكلفة وهو المراد بقوله { وعلى الذين يطيقونه } قالوا : هذا أولى ليلزم النسخ أقل ، فإن نسخ التخيير بين الصوم والفدية عن المريض المطيق أقل من نسخ التخيير عنه وعن الصحيح المقيم .

الثالث : أنه نزل في الشيخ الهرم . عن السدي : وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ويؤيده القراءة الشاذة { يطوّقونه } تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه ، أو يقلدونه . والتركيب يستعمل فيمن يقدر على شيء مع ضرب من المشقة والكلفة وبعضهم أضاف إلى الشيخ الهرم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وولديهما . واتفقوا على أن الشيخ إذا أفطر فعليه الفدية ، وأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فقال الشافعي : عليهما القضاء والفدية لحق الوقت . وقال أبو حنيفة : لا يجب إلا القضاء كيلا يلزم الجمع بين البدلين . { فمن تطوّع خيراً } بأن يطعم مسكينين أو أكثر أو يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب ، أو صام مع الفدية عن الزهري . { فهو } أي التطوع { خير له وأن تصوموا } أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتهم متاعب الصيام { خيرٌ لكم } من الفدية وتطوّع الخير . ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً عند من يرى أن الصوم لهما أفضل { إن كنتم تعلمون } أن الصوم أشق عليكم وأن أجركم على قدر نصبكم ، أو تعلمون بالله فتخشونه فتمتثلون أمره { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أو تعلمون ما في الصوم من الفوائد الدنيوية والأخروية . عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله عز وجلّ الصوم لي وأنا أجزي به وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه . والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " وعنه صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم " وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه . ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً " وعن النبي صلى الله عليه وسلم " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وفضيلة الصوم ومنافعه أكثر من أن تحصى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجرّدة لكفى به فضلاً ومنقبة . هذا صوم الشريعة ، فأما صوم الطريقة فالإمساك عما حرم الله عز وجلّ والإفطار بما أباح وأحل ، وصوم الحقيقة الإمساك عن الأكوان والإفطار بمشاهدة الرحمان .

صمت عن غيره فلما تجلى *** كأن بي شاغلٌ عن الإفطار

وتشوّقت مدة ثم لما *** زارني جَلّ عن مدى الأنظار