ثم قال تعالى : ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ) [ 183 ] .
قال عطاء : " كان على الناس صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم فرض الله على المسلمين صوم شهر رمضان( {[5629]} ) " .
فهذا القول يدل على أن أياماً منصوبة ب " كُتِبَ( {[5630]} ) " ، وهو قول الفراء( {[5631]} ) . قال ابن عباس : " كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم نسخه الله بصوم شهر رمضان( {[5632]} ) " . وهو قول قتادة( {[5633]} ) .
وقيل : [ الأيام المعدودات( {[5634]} ) ] هي أيام رمضان بعينها . فيكون نصبٌ : " أيام " بالصيام على هذا القول ، وهو قول الأخفش( {[5635]} ) ، فتكون ظرفاً . ولا يكون نصبها على المفعول لأنك تفرق بين الصلة والموصول بالنعت وهو الكاف . وحسن ذلك في الظرف لأن الظرف تعمل فيها المعاني إلا أن تجعل الكاف مفعولاً للصيام ، فيحسن أن تنصب " الأيام " على أنها مفعول( {[5636]} ) بها( {[5637]} ) .
والكاف من " كما " يجوز أن تكون نعتاً( {[5638]} ) لمصدر محذوف أي : [ كَتْباً( {[5639]} ) كَمَا( {[5640]} ) ] ، ويجوز أن يكون " صَوْماً كَمَا " ، فلا يدخل في الصلة على القول الأول ، ويدخل على القول الثاني( {[5641]} ) .
ويجوز أن تكون الكاف نصباً( {[5642]} ) على الحال من الصيام ، أي : مشبهاً لصيام( {[5643]} ) من كان قبلكم( {[5644]} ) .
ويجوز أن يكون في موضع رفع نعتاً( {[5645]} ) للصيام( {[5646]} ) .
ثم قال تعالى : ( فَمَن كَانَ مِنكُم( {[5647]} ) مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنَ اَيَّامٍ اُخَرَ ) [ 183 ] . أي : فمن لم يقدر على الصوم لمرض به أو لسفر( {[5648]} ) فليفطر ، وعليه أن يصوم مثل ما أفطر من أيام أخر .
فمن الفقهاء من يرى أن الصوم في رمضان في السفر أفضل ، ومنهم من يرى الإفطار( {[5649]} ) .
وكان أنس بن( {[5650]} ) مالك يرى الصوم في السفر في رمضان ، فقيل له : أين هذه الآية : ( أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنَ اَيَّامٍ اُخَرَ ) ، فقال : " إنها نزلت يوم نزلت ، ونحن نرتحل جياعاً ، وننزل( {[5651]} ) على شبع ، واليوم نرتحل شباعاً ، وننزل على شبع( {[5652]} ) " .
و " أُخَرَ " لا تنصرف لأنها معدولة عن الألف واللام عند سيبويه ، وذلك أن " فُعَلَ " سبيله أن( {[5653]} ) يأتي بالألف واللام نحو " الكُبَر( {[5654]} ) " و " الفُضَل " ( {[5655]} ) " . وقال الكسائي : " هي معدولة عن " أُخْرَاء( {[5656]} ) " كما تقول " حُمْرَاءَ " و " حُمَرَ " /فامتنعت من الصرف( {[5657]} ) لذلك( {[5658]} ) " .
وقيل : منع من الصرف لأنه على وزن " جُمَع " ، والعرب لا تقول " يوم أخْرَى " ، إنما تقول " يوم أُخَر " ، وإنما جاء " أَيَّامٍ أُخَر " لأن نعت " الأيام( {[5659]} ) " مؤنث ، فلذلك نعت( {[5660]} ) بأخرى( {[5661]} ) .
وقيل( {[5662]} ) : " أُخَر " جمع " أُخْرَى " ، كأنه قال " أيام أُخْرَى " ، ثم كثرت الأيام فجمع " أُخْرَى " على " أُخَرَ( {[5663]} ) " .
ثم قال تعالى( {[5664]} ) : ( وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ ) [ 183 ] . قال( {[5665]} ) معاذ بن جبل : " قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فصام يوم عاشوراء وثلاثة( {[5666]} ) أيام من كل شهر ، ثم إن الله فرض شهر رمضان وقال : ( وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ ) ، فكان من شاء صام( {[5667]} ) ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً . ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم ، وثبت( {[5668]} ) الإطعام على الكبير إذا أفطر ولم يستطع الصوم ، فأنزل الله عز وجل : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) الآية( {[5669]} ) . /وهو قول عكرمة/والحسن( {[5670]} ) .
وقال علقمة( {[5671]} ) : " نسخها : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ( {[5672]} ) ) " .
وكذلك روى نافع عن ابن عمر . وهذه الآية في رواية ابن وهب عن مالك( {[5673]} ) محكمة .
قال ابن وهب : " قال لي( {[5674]} ) مالك : " إنما ذلك في الرجل يمرض فيفطر( {[5675]} ) ثم يبرأ فلا يقضي ما أفطر حتى يدركه رمضان آخر من قابل ، فعليه أن يبدأ برمضان الذي أدركه فيصومه ، ثم( {[5676]} ) يقضي الذي كان أفطر من رمضان الأول ، ويطعم عن كل يوم مسكيناًداً من حنطة . ولو اتصل به المرض إلى أن دخل عليه رمضان آخر ، فليس عليه إطعام إذ لم يفرط( {[5677]} ) " .
فالمعنى على هذا القول : وعلى الذين يطيقونه القضاء لما عليهم فلا يقضون حتى يأتي رمضان آخر فدية طعام مساكين( {[5678]} ) مع القضاء . يعني يطعم مداً لمسكين( {[5679]} ) عن كل يوم فرط في قضائه .
وقال ابن أبي ليلى : " دخلت على عطاء وهو يأكل في رمضان فقال : إني شيخ كبير ، وإن الصوم نزل فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر( {[5680]} ) وأطعم مسكيناً حتى نزلت هذه الآية : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) الآية ، قال( {[5681]} ) : فوجب الصوم على كل أحد إلا مريضاً أو مسافراً أو شيخاً كبيراً مثلي يفتدي( {[5682]} ) " . وهو قول ابن شهاب( {[5683]} ) .
[ وقال ابن عباس( {[5684]} ) ] : " جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مساكين ، فمن شاء [ من مسافر أو مقيم أن يفطر ويطعم مسكيناً( {[5685]} ) ] كان ذلك رخصة لهم ، ثم أنزل الله في الصوم الأخير( {[5686]} ) : ( فَعِدَّةٌ مِنَ اَيَّامٍ اُخَرَ ) ، ولم تدخل فيها الفدية ، وثبت الصوم الآخر( {[5687]} ) " .
وروى/ابن( {[5688]} ) سيرين( {[5689]} ) عن عبيدة أنه قال في قوله ( وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ( {[5690]} ) ) ، قال : " نسختها التي تليها : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) الآية( {[5691]} ) " .
وقال الضحاك : " فرض الله الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة ؛ [ وإذا صلى الرجل العتمة ، حرم عليه( {[5692]} ) ] الطعام( {[5693]} ) والشراب والجماع إلى مثلها من القابلة . ثم نزل الصوم الآخر بإحلال الطعام والشراب والجماع في الليل كله ، وهو قوله ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) الآية ، وأحل الجماع بقوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ( {[5694]} ) الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) الآية . وكان في الصوم الأول فدية ، فمن شاء من( {[5695]} ) مسافر أو( {[5696]} ) مقيم( {[5697]} ) أن يطعم مسكيناً عن كل يوم ويفطر فعل ذلك . ولم يذكر الله عز وجل في الصوم الآخر الفدية لكن قال : ( فَعِدَّةٌ مِنَ اَيَّامٍ اُخَرَ ) فنسخ هذا الصوم الآخر الفدية( {[5698]} ) " .
وقال ابن جبير : " كانت الفدية للشيخ الكبير والعجوز إذا( {[5699]} ) أفطر( {[5700]} ) وهما يطيقان( {[5701]} ) الصوم ثم( {[5702]} ) نسختها الآية التي( {[5703]} ) بعدها قوله : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، فنسخت الإطعام عن الكبيرَيْن إذا كان يطيقان الصوم وأوجب( {[5704]} ) عليهما الصوم ، وثبت للشيخ والعجوز الفدية إذا كانا لا يطيقان( {[5705]} ) الصوم ، وللحبلى والمرضع إذا خافتا( {[5706]} ) . وكذلك قال عكرمة والربيع( {[5707]} ) .
وقال السدي : " الآية محكمة ومعناها : " وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم في صحتهم إذا مرضوا أو كبروا أو عرض لهم مانع من المقدرة على الصوم كالحامل والمرضع ، الفدية إطعام مسكين لكل( {[5708]} ) يوم ، وإن تكلف الصيام على ضره فصام/ فهو خير( {[5709]} ) له( {[5710]} ) " . قال ابن عباس : " إذا خافت الحامل والمرضع [ أفطرتا وأطعمتا( {[5711]} ) ] ولا تقضيان( {[5712]} ) صوماً( {[5713]} ) " .
وقرأ ابن جبير وعطاء وعكرمة : " يُطَوَّفٌونَهُ " على معنى " يُكَلَّفُونَهُ " ( {[5714]} ) ] ، صومه( {[5715]} ) ولا يقدرون . يعني الشيخ والعجوز والحامل( {[5716]} ) .
وهي قراءة( {[5717]} ) تروى عن عائشة( {[5718]} ) . وكان إسماعيل القاضي( {[5719]} ) يضعف هذه القراءة ويقول : كيف [ يقرأ : " يُطَوَّفُونَهُ " على معنى " يُكَلَّفُونَهُ " ( {[5720]} ) ] ، وهم لا يقدرون على صومه وبعده : ( وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ( {[5721]} ) لَّكُمُ ) ، وكيف يقال لمن لا يقدر على الصوم : ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمُ( {[5722]} ) ) ؟ هذا معنى كلامه . وقد قرأ مجاهد به ، أعني بالتشديد للواو( {[5723]} ) . وروي أيضاً عن عكرمة : ( عَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ ) بالتشديد( {[5724]} ) في الياء والطاء( {[5725]} ) على معنى : " يَتَطَيَّقُونَهُ( {[5726]} ) " .
وعن ابن عباس أنه قرأ " " يُطَيِّقُونَهُ( {[5727]} ) " بضم الياء الأولى( {[5728]} ) وتشديد( {[5729]} ) الثانية( {[5730]} ) .
قال ابن [ الأنباري : في هاتين القراءتين( {[5731]} ) ] لحن( {[5732]} ) ، لأن الفعل من الواو مأخوذ من الطوق ، فلا معنى لقلب الواو ياء بغير علة/ولا أصل( {[5733]} ) " . وروي أيضاً عن مجاهد : " يَطَوَّقُونَهُ( {[5734]} ) " بفتح الياء وتشديد الطاء والواو( {[5735]} ) بمعنى " يَتَكَلَّفُونَهُ " . يعني الشيخ الكبير والعجوز لا يقدران على ذلك ، فتكون الآية على هاتين القراءتين محكمة في الشيخ والعجوز( {[5736]} ) والحامل ومن لا يقدر على الصوم لعذر يعرض له ، وتكون الآية الثانية لجميع الأصحاء ، فهما محكمتان( {[5737]} ) .
قال مالك : " إذا خافت الحامل على نفسها أفطرت ولا إطعام عليها لأنه مرض ، وعليها القضاء إذا صحت وقويت( {[5738]} ) " .
وروي عنه أنه قال : " تفطر( {[5739]} ) وتطعم لكل يوم مداً بمد النبي عليه السلام( {[5740]} ) . وذكره( {[5741]} ) عن( {[5742]} ) ابن عمر( {[5743]} ) .
وتفطر المرضع( {[5744]} ) إذا خافت على ولدها ولم تجد من يرضعه وتطعم وتقضي .
فمالك يفرق بين الحامل والمرضع ، فيلزم المرضع( {[5745]} ) الإطعام ولا يلزمه الحامل ، لأنها مريضة .
وروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما( {[5746]} ) . وقيل : بل يفطران ويقضيان . [ ولا إطعام( {[5747]} ) ] عليهما ، وهو قول الحسن وعطاء/والضحاك والزهري( {[5748]} ) وربيعة( {[5749]} ) والأوزاعي( {[5750]} ) وأهل العراق( {[5751]} ) . وقيل : بل يفطران/ويطعمان ويقضيان . وهو قول مجاهد والشافعي( {[5752]} ) وأحمد بن حنبل( {[5753]} ) .
وأجمع أهل العلم على أن الشيخ الكبير والعجوز يفطران إذا لم يقدرا( {[5754]} ) على الصوم . ولا إطعام عليهما عند مالك( {[5755]} ) . وهو قول ربيعة ومكحول( {[5756]} ) وأبي ثور( {[5757]} ) .
وقال ابن جبير وطاوس والأوزاعي والشافعي وأهل الرأي : " يطعم كل واحد منهما عن كل يوم أفطره مسكيناً واحداً( {[5758]} ) " .
والهاء في( {[5759]} ) " يُطِيقُونَهُ " تعود على الصيام( {[5760]} ) .
وقال بعضهم : " تعود على الإطعام " ، وليس بشيء .
ثم قال تعالى : ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) [ 183 ] .
أي : فمن زاد فأطعم( {[5761]} ) عن( {[5762]} ) كل يوم أكثر من مسكين فهو خير وأجر( {[5763]} ) مُدَّخَرٌ له . قاله ابن عباس( {[5764]} ) وغيره( {[5765]} ) .
وعن مجاهد أن معناه : " فمن أطعم المسكين أكثر من مد ، فهو أجر مدخر له ، إنما عليه مد( {[5766]} ) " .
وقال ابن شهاب : " معناه من صام مع الفدية فهو خير له في أخراه( {[5767]} ) " .
ثم قال : ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمُ ) [ 183 ] أي : والصيام خير لكم من أن تفطروا وتفتدوا( {[5768]} ) .
قال السدي : " معناه : من تكلف الصيام فصام ، فهو خير له من الفدية والإفطار( {[5769]} ) " .
وقال من جعل الآية الأولى غير( {[5770]} ) منسوخة : " هذا للشيخ الكبير/والعجوز : اعلموا( {[5771]} ) أن التكلف في الصيام خير لهم من الإفطار والفدية " .
ثم قال : ( وَإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ 183 ] .