الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } يعني شهر رمضان ثلاثين يوماً أوتسعة وعشرون يوماً ، لما روى سعيد بن العاص أنّه سمع ابن عمر يحدّث عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " إنّا أُمّة أُميّة لاتحسب ولا تكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا " وعقد الإبهام في الثالثة والشّهر هكذا وهكذا وهكذا تمام ثلاثين .

ونصب أيّاماً على الظرف أي : في أيّام ، وقيل : على التفسير .

وقيل : على خبر مالم يسمّ فاعله ، وقيل : باضمار فعل أي صوموا أيّاماً معدودات . { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } أي فأفطر فعدّة كقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } : أي فحلّق أو قصّر ففدية ، وقوله : { فَعِدَّةٌ } أي فعليه عدّة ولذلك رفع .

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : فعدة نصباً أي فليصم عدّةً . { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } غير أيّام مرضه أو سفره . والعدّة العدد ، وأُخر في موضع خفض ولكنّها لاتنصرف فلذلك نصبت لأنّها معدولة عن جهتها كأنّ حقّها أواخر وأُخريات ، فلمّا عُدلت إلى فعل لم تجرّ مثل عمر وزفر . { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } قرأ ابن عبّاس وعائشة وعطاء بن رباح وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد : يُطيقونه بضمّ الياء وبفتح الطّاء وتخفيفه وفتح الواو وتشديده أي يلفونه ويحملونه .

وروي عن مجاهد وعكرمة أيضاً : يطّوّقونه بفتح الياء وتشديد الطّاء أراد يتطوقونه أي يتكلفونه . وروى ابن الأنباري عن ابن عبّاس يطيقونه بفتح الياء الأوّل وتشديد الطّاء والياء الثانية وفتحهما بمعنى يطيقونه . يقال : طاق وأطاق واطيق بمعنى واحد . { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قرأ أهل المدينة والشّام : فدية طعام مضافاً مساكين جمعاً أضافوا الطّعام إلى الفدية وإن كان واحداً لاختلاف اللفظين كقوله { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } [ ق : 9 ] وقولهم : المسجد الجامع وربيع الأوّل ونحوها ، وهي قراءة أبي عمرو ومجاهد ، وروى يحيى ابن سعيد عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أنّه قرأها : طعام مساكين على الجمع ، وروى مروان بن معاوية الفزاري عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قرأها كذلك : مساكين .

وقرأ الباقون : فدية منصوبةً ، طعام رفعاً ، مسكين خفض على الواحد وهي قراءة ابن عبّاس . [ روي ابن أبي نجيح ] عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس أنّه قرأها طعام مسكين ، على الواحد ، فمن وحدّ فمعناه : لكل يوم اطعام مسكين واحد ، ومن جمع رده إلى الجميع ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم . { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قرأ عيسى بن عمر ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي : يتطّوع بالتاء وتشديد الطاء وجزم العين على معنى يتطوّع ، وقرأ الآخرون : تطوع بالتاء وفتح العين وتخفيف الطاء على الفعل الماضي .

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها :

فقالو قوم : كان ذلك أول مافُرض الصّوم ؛ وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل فرض صيام شهر رمضان على رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر اصحابه بذلك شق عليهم ، وكانوا قوماً لم يتعودّوا الصّيام فخيّرهم الله بين الصّيام والأطعام . فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بالطّعام ، ثمَّ نسخ الله تعالى ذلك بقوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ونزلت العزيمة في ايجاب الصّوم وعلى هذا القول معاذ بن جبل وأنس بن مالك ، وسلمة بن الأكوع وابن عمر وعلقمة وعمرو بن مرّة والشعبي والزهري وإبراهيم وعبيدة والضحاك ، وأحدى الروايات عن ابن عبّاس .

وقال آخرون : بل هو خاص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والّذين يطيقان الصّوم ولمن يشقّ عليهما رخص لهما : إن شاء أن يفطر مع القدرة ويُطعما لكل يوم مسكيناً ، ثمَّ نسخ ذلك بقوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وثبت الرخصة للذين لايطيقون ، وهذا قول قتادة والرّبيع بن أنس ، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس .

وقال الحسن : هذا في المريض كان إذا وقع عليه اسم المرض وإن كان يستطيع الصّيام الخيار إن شاء صام ، وإن شاء أفطر وأطعم حتّى نُسخ ذلك . فعلى هذه الأقاويل الآية منسوخة وهو [ قول ] أكثر الفقهاء المفسرين .

وقال قوم : لم تُنسخ هذه الآية ولاشيء منها ، وإنّما تأويل ذلك أو على الّذين يطيقونه في حال شبابهم وفي حال صحتهم وقوتهم ، ثمَّ عجزوا عن الصّوم فدية طعام مساكين ؛ لأنّ للقوم كان رُخص لهم في الأفطار وهم على الصّوم [ قادرون إذا اقتدروا ، وآخرون أضمروا ] في الآية وقالوا : هذه عبارة عن أول حالهم وجعلوا الآية محكمة ، وهذا قول سعيد بن المسيب والسّدي ، وأحدى الروايتين عن ابن عبّاس ، فحمله ماذكرنا من هذه الأقاويل على قراءة من قرأ يطيقونه : من الأطاقة وهي القراءة الصحيحة التي عليها عامة أهل القرآن ومصاحف البلدان ، وأمّا الذين قرأوا يطوقونه : فتأولوا بهم الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الذي لا يُرجى برؤه فهم يكلفون الصّوم ولا يطيقونه فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم افطروا مسكيناً .

قالوا : الآية محكمة غير منسوخة ، والفدية : الجزاء والبدل من قولك : فديت هذا بهذا أيّ حرمته وأعطيته بدلاً منه ، يُقال : فديتُ فدية كما يُقال : مشيتُ مشية . فمن تطوّع خيراً : فزاد على مسكين واحد وأطعم مسكينين فصاعداً . قاله مجاهد وعطاء وطاوس والسّدي .

وقال بعضهم : فمن زاد على القدر الواجب من الاطعام يُزاد الطّعام . رواه ابن جُريج وخطيف عن مجاهد ، وقال ابن شهاب : يريد فمن صام مع الفدية وجمع بين الصيّام والطعّام فهو خير له . { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ } ( أن ) صلة تعني والصوم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من ا لا فطار والفدية { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .

فصل في حكم الآية

إعلم أنّه لا رخصة لأحد من المؤمنين البالغين في افطار شهر رمضان إلاّ لأربعة :

أحدهم : عليه القضاء والكفارة .

والثاني : عليه القضاء دون الكفارة .

والثالث : عليه الكفّارة دون القضاء .

والرابع : لاقضاء عليه ولا كفارة .

وأمّا الذي عليه القضاء والكفّارة فمن فرّط في قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر ، والحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما افطرتا وعليهما القضاء والكفّارة ، وإن خافتا على أنفسهما فهما كالمريض حكمهما كحكمه ، هذا قول ابن عمر ومجاهد ومذهب الشّافعي .

وقال بعضهم : في الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما وولدهما أن عليهما الكفّارة ولا قضاء ، وهو قول ابن عبّاس .

وقال قوم : عليهما القضاء ولا كفارة ، وهو قول إبراهيم والحسن وعطاء والضحّاك ، ومذهب أهل العراق ومالك والأوزاعي .

وأمّا الّذي عليه القضاء دون الكفّارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء عليهم القضاء دون الكفّارة .

قال أنس : " أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغذّى فقال : «اجلس » فقلت : إنّي صائم . فقال : «اجلس أحدّثك : إنّ الله وضع على المسافر الصوم وشطر الصّلاة " .

وأمّا الّذي عليه الكفّارة دون القضاء فالشّيخ الهرم والشّيخة الكبيرة ومن به مرض دائم لايرجى برؤه وصاحب العطاش الّذي يخاف منه الموت ، عليهم الكفّارة ولا قضاء ، هذا قول عامّة الفقهاء .

وروي عن ربيعة بن أبي عبد الرّحمن وخالد بن الدريك إنّهما قالا في الشّيخ والشّيخة : إن استطاعا صاما وإلاّ فلا كفّارة عليهما ، وليس عليهما شيء إذا أفطرا .

وقال مالك : لا أرى ذلك واجباً عليهما ، وأحبّ أن يفعلا . فأمّا الّذي لاقضاء عليه ولا كفّارة فالمجنون .

واختلف العلماء في حدّ الاطعام في كفّارة الصّيام فقال بعضهم : القدر الواجب نصف صاع عن كلّ يوم يفطره وهذا قول أهل العراق .

وقال قوم منهم : نصف صاع من قمح أو صاع من تمراً أو زبيب أو سائر الحبوب .

وقال بعض الفقهاء : ما كان المفطر يتقوّته يومه الّذي افطره .

وقال محمّد بن الحنفية ( رضي الله عنه ) : يطعم مكان كلّ يوم مدّ الطعامة ومدّ الأدامة .

وقال ابن عبّاس : يعطي مسكيناً واحداً عشاءه حين يفطر وسحوره حين سحره .

وقال بعضهم : يطعم كلّ يوم مسكيناً واحداً مدّاً ، وهو قول ابن هريرة وعطاء ومحمّد بن عمرو بن حزم واللّيث بن سعيد ومالك بن أنس والشّافعي وعامّة فقهاء الحجاز وبالله التّوفيق ، ثمّ بيّن أيّام الصّيام فقال :