الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

و{ أَيَّامًا معدودات }[ البقرة :184 ] قيل رمضان ، وقيل : الثلاثةُ الأيام من كل شهرٍ ، ويومُ عاشوراءَ ، الَّتي نُسخَتْ بشهر رمضان .

( ص ) و{ أَيَّامًا } : منصوبٌ بفعل مقدَّر يدلُّ عليه ما قبله ، أي : صوموا أياماً ، وقيل : { أَيَّامًا } : نصب على الظرف انتهى .

وقوله سبحانه : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ }[ البقرة :184 ] . التقدير : فأفْطَرَ ، { فَعِدَّةٌ } ، وهذا يسمونه فَحْوَى الخطابِ ، واختلف العلماءُ في حَدِّ المرض الذي يقع به الفطْر ، فقال جمهور العلماء : إِذا كان به مرضٌ يؤذيه ، ويؤلمه ، أو يخاف تَمادِيَهُ ، أو يخافُ من الصوم تزيُّده ، صحَّ له الفطْرُ ، وهذا مذْهَبُ حُذَّاقِ أصحاب مالكٍ ، وبه يناظرونَ ، وأما لفظ مالكٍ . فهو المرضُ الَّذي يَشُقُّ على المرء ، ويبلغ به ، واختلف في الأفضل من الفِطْرِ أو الصَّوْمِ ، ومذهبُ مالكٍ استحباب الصومِ ، لمن قَدَرَ علَيْه ، وتقصيرُ الصَّلاة حَسَنٌ ، لأن الذمَّة تبرأ في رخصة الصلاة ، وهي مشغولةٌ في أمر الصيام ، والصوابُ : المبادرةُ بالأعمال .

والسَّفَرُ : سفَرُ الطاعةِ ، كالحجِّ ، والجهادِ ، بإجماع ، ويتصلُ بهذَيْن سفَرُ صلَةِ الرَّحِمِ ، وطلبِ المعاشِ الضروريِّ .

وأما سفر التجارة ، والمباحاتِ ، فمختلَفٌ فيه بالمنع ، والجواز ، والقولُ بالجواز أرجحُ .

وأما سفر العصْيَان ، فمختلف فيه بالجوازِ ، والمنعِ ، والقولُ بالمنع أرجحُ .

ومسافةُ سفر الفطر ، عند مالك ، حيث تقصر الصلاة ثمانيةٌ وأربعون ميلاً .

وقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ }[ البقرة :184ُ ] .

أي : فالحكم أو الواجب عِدَّةٌ ، وفي وجوبِ تتابعها قولانِ ، و{ أُخَرَ } لا ينصرف للعَدْلِ .

وقوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ . . . } [ البقرة :184 ] .

قرأ باقي السبعة غيْرَ نافعٍ وابنِ عامر : ( فِدْيَةٌ ) ، بالتنوين { طَعَامُ مِسْكِينٍ }[ البقرة :184 ] ، بالإِفراد ، وهي قراءة حَسَنةٌ ، لأنها بيَّنت الحكم في اليوم .

واختلفوا في المراد بالآية ، فقال ابن عُمَر وجماعةٌ كان فرضُ الصيامِ هكذا على الناس ، مَنْ أراد أن يصوم صام ، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكيناً ، وأفطر ، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] . وقالتْ فرقةٌ : في الشيوخ الذين يطيقونه بتكلُّف شديدٍ ، والآيةُ عند مالك : إِنما هي فيمَنْ يدركه رمضانٌ ثانٍ ، وعليه صومٌ من المتقدِّم ، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوْمَ ، فتركه ، والفديةُ عند مالك وجماعةٍ من العلماء ، مُدٌّ لكلِّ مسكين .

وقوله تعالى : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّه . . . } [ البقرة :184 ] .

قال ابنُ عَبَّاس وغيره : المراد مَنْ أطعم مسكينَيْنِ فصاعدًا ، وقال ابن شِهَابٍ : من زاد الإِطعام مع الصوم ، وقال مجاهدٌ : مَنْ زاد في الإِطعام على المُدِّ ، و{ خَيْرًا } الأول قد نُزِّل منزلة مالٍ أو نفعٍ ، و{ خَيْرٌ } الثاني ، والثالثُ ، صفةُ تفضيلٍ .

وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }[ البقرة :184 ] .

يقتضي الحضَّ على الصوْمِ ، أي : فاعلموا ذلك وصوموا .

( ت ) وجاء في فضل الصومِ أحاديثُ صحيحةٌ مشهورةٌ ، وحدث أبو بكر بْنُ الخَطِيبُ بسنده عن سهل بن سعد الساعديِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ صَامَ يَوْماً تَطوُّعاً ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ ) ، قال : وبهذا الإِسناد عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله ، انتهى .

قال ابن عبد البَرِّ في كتابه المسمى " ببهجة المَجالِسِ " قال أبو العالية : الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتَبْ ، قال الشيخُ الصالحُ أبو عبد اللَّه محمَّد البلاليُّ الشافعيُّ في «اختصاره للإحياء » : وذكر السُّبْكِيُّ في شرحه ، أن الغِيبَةَ تمنع ثوابَ الصوْمِ إِجماعاً ، قال البلاليُّ : وفيه نظر ، لمشقَّة الاحتراز ، نعم ، إِن أكثر ، توجَّهت المقالة ، انتهى . وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ ، ورويتُ عنه كتابه هَذَا .

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم ، أنَّهُ قَالَ : ( إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ ) قال أبو عمر في «التمهيد » : وذلك لأن الصوْمَ جُنَّةٌ يستجنُّ بها العَبْدُ من النار ، وتُفْتَحُ لهم أبوابُ الجنة ، لأن أعمالهم تزكُو فيه ، وتُقْبَل منهم ، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهَا ، خُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ حتى يُفْطِرُوا ، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ ، ثُمَّ يَقُولُ : يُوشِكُ عِبَادِي الصَّائِمُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَئُونَةَ والأذى ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَيْكِ ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ، فَلاَ يَخْلُصُونَ إلى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ ، ويَغْفِرُ لَهُمْ آخِرَ لَيْلَةٍ ، قيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَهِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ ؟ قَالَ : لاَ ، ولَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يوفي أَجْرَهُ إِذَا انقضى ) ، قال أبو عمر : وفي سنده أبو المِقْدام ، فيه ضعف ، ولكنَّه محتملٌ فيما يرويه من الفضائل .

وأسند أبو عمر عن الزهْريّ ، قال : ( تسبيحةٌ في رمَضَان أفضلُ من ألفِ تسبيحةٍ في غيره ) ، انتهى .

( ت ) وخرَّجه الترمذيُّ عن الزهري قال : ( تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ تسبيحةٍ في غيره ) ، انتهى .