تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

الآية 184 ثم قال : ( فمن كان منكم مريضا ) الآية من غير أن ذكر فطرا{[2131]} ، فلا أشار إلى ما ذكر من السفر والمرض اللذين جعلا له تأخير الصيام إلى أيام أخر ، ولا أشار إلى أعين تلك الأيام . وكذلك قال مثله فيما عرف الوقت لابتداء الصيام بقوله عز وجل ( فمن شهد منكم الشهر ) على إثر المعرف بقوله عز وجل ( فمن شهد منكم الشهر ) لكن الفطر يعرف أنه مضمر فيه بالعقل والسمع . فأما السمع فما جاء من الآثار في الإذن بالإفطار للسفر والمرض ؛ دل أن في ذكر العدة من أيام أخر إضمار فطر ، والله أعلم . [ وأمال العقل فإن ]{[2132]} الله تعالى جعل المرض والسفر سببي الرخص ، فلا يجوز أن يصير سببي زيادة فرض على ما كان قبل اعتراضهما . على أن قوله : ( يريد الله بكم اليسر ) دليل أنه لو كان يلزم القضاء مع فرض فعل الصوم لكان ذلك عسرا وحرجا في الدين . وعلى ذلك قال بعض الناس : يلزمهما القضاء : إن أفطروا أو لا ، محتجا بما لم يذكر في القرآن الإفطار ، وذكر عدة ( من أيام أخر ) ، كأنه جعل الوقت لهما غير الذي هو لغيرهما . يؤيد ذلك المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " [ النسائي : 4/183 ] . ومعلوم أن على المفطر في الحضر القضاء فكذلك الصائم في السفر .

ولكن الآية عندنا على الإضمار . وعلى ذلك يجري ذكر [ الرخص على إثر ذكر ]{[2133]} الحظر كقوله عز وجل : ( إنما حرم عليكم الميتة ) إلى قوله عز وجل ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) الآية{[2134]} [ البقرة : 173 ] من غير ذكر الأكل : أنه على إباحته . وقال الله عز وجل ( وأتمو الحج والعمرة لله ) ثم قال الله عز وجل : ( فإن أحصرتم ) [ البقرة : 196 ] ولم يذكر منه الإحلال ، لكنه معلوم أنه على الشك ما لم يوجد ؛ إذ لا يكون العذر سبب الزيادة في الفرض . وكذلك قوله عز وجل : ( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله ) [ البقرة : 196 ] ، ثم قال عز وجل : ( فمن كان منكم مريضا ) الآية ؛ وذلك على إطلاق الحلق ، ثم يلزمه لأن الأذى والمرض يلزمانه ، فمثله الأول .

ثم الأصل أنه لا أحد يلزم فرض صيام الشهر في غيره إذا لم يدرك الشهر ، وقد أمر من نحن في ذكره ، فبان أنه لزمه بإدراك الشهر لإدراك وقت الإمكان بلا عذر . وقال : ( فعدة من أيام أخر ) وقال : ( ولتكملوا العدة ) لنعلم أن الذي يلزمه [ يلزمه ]{[2135]} بالشهر في أوقات الإمكان ؛ وذلك على ما يلزم الإحداث الطهارة لأوقات عبادة لا تقوم دونها وفعل الجنابات لأوقات الحلول ، وإن تأخرت . فمثله أمر الشهر . دليله ما بينا وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته فعل الصيام في ذلك الوقت والفطر جميعا .

ثبت أن الصوم يجوز ، على أن المرض والسفر ، إذ هما لأنفسهم ، لا يناقضان الصيام بما جاز معهما ، وقد أمر به المتمتع ، وهو مسافر ، أن ليس ذلك على حاضري المسجد الحرام وذابح الصيد والبادي بهما لا يضادان الصيام . ثم كان القضاء عن الشهر بظاهر التلاوة ، فبان أنه يجوز فيهما ، وإذا جاز ثبت أن التأخير رخصة ، والفضل في الفعل ، والله أعلم .

والخبر /28-أ/ على من يجهده الصيام حتى خيف عليه . ما جاء من الأثر{[2136]} : أن " ليس من البر الصيام في السفر " [ البخاري : 1946 ] والله أعلم . وعلى هذا يخرج قول أصحابنا في المكره على الفطر : إنه إن كان [ مريضا أو ]{[2137]} مسافرا لا يسعه ألا يفطر لما جاء في ذلك من الوعيد في الفعل في السفر في حال الضرورة ، ويسعه لو كان صحيحا مقيما لما لم يذكر له الرخصة ، ويلزمه فيه القضاء مع ما فيه ، إذ لم يكن ظهر الإذن في تلك الحال ، كان كفه عنه تعظيما لأمر دينه من غير أن ذكر له في الدين النهي عنه ، فهو في سعة ، وليس كالمكره على أكل الميتة ، ما ليس ذلك بذي بدل . وقد فرق{[2138]} بين ذي بدل وما لا بدل له نحو إتلاف مال آخر وأكل الميتة ، ولأن علته الاضطرار ، وليست علته الفطر في السفر ، تلك إذ قد يجوز لا له ، فهو عذر النفس لا ضرورة النفس ، فكأنه غير معقول العلة ، وفيه تعظيم الدين ، وليس في أكل الميتة وما ذكر ، ولا قوة إلا بالله .

ثم السفر الذي له الرخص أجمع أنه لم يرد به المكان لما جاء الفطر في الأمصار ، ثبت أنه لنفس السفر ، ثم كان السفر حقيقة الظهور الخروج عن الأوطان ، وقد يكون مثله في الخروج إذ{[2139]} الضياع ونحوه ، ولم يؤذن في الفطر ، ثبت أنه راجع إلى الحد . وعلى ذلك متفق القول .

ثم كان الحد المرخص عندنا الخروج على قصد سفر ثلاثة أيام [ لوجوه ثلاثة ]{[2140]} :

أحدهما : الإجماع على أن هذا الحد مرخص ، ودونه تنازع ، والتنازع يوجب الفطر ، لأن الفتوى بالرخص ، وذلك أمر بفعل الصيام .

والثاني مجيء الخبر من وجهين :

أحدهما : في تقدير مسح السفر بثلاثة أيام ؛ ومعلوم أنه جعل السفر حدا ووقتا لفعل رخصة المسح ، وأوقات الأفعال على اختلافها تتفق على أنها لا تقصر عن احتمال [ الأفعال ]{[2141]} على الوفاء ، وليس بما لم تدخل الليالي في حق السفر عبرة لأن الأسفار ، ولو كانت مؤسسة على قطع الطرق والسير فيها ، فإن دوام السفر يجحف صاحبه ، ويهلكه ، وفي ذلك منع السفر . ثبت أن أوقات السعي والسير مشتركة داخلة في حق السفر ؛ لذلك صارت الليالي كالمعفوة ، فتكون محيطة بما فيها من فعل المسح .

والثاني : ما جاء من الأثر{[2142]} في النهي عن سفر ثلاثة أيام إلا لمحرم ، وهو المنهي لما جاء به النهي ، وفيما دونه تنازع لم يوجب الرخصة للإشكال في حق التمام لما له الرخصة على ما كان لما له النهي ، والله أعلم .

والوجه الثالث : أن السفر عذر ، والنهايات في الأعذار الثلاثة{[2143]} ، فكذلك بالأيام ، إذ به يسافر . وقال موسى عليه السلام ( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ) [ الكهف : 76 ] .

وأما المرض فلم يجز أن يكون اسمه سببا للرخصة ؛ إذ ربما كان المرض يخفف الصيام ، ويسهل عليه سبيل فعله ، ومن البعيد الترخيص بما يسهل فيه الفعل والتضييق لما يشتد ، فثبت أنه ليس لاسم المرض . وعلى ذلك الإجماع ، فهو ، والله أعلم ، لما يخاف أن يزداد له بترك الأكل الداء ، [ ويقبح على المرء اكتساب الداء ]{[2144]} وتعاطي الضارية{[2145]} ، فرخص له الفطر بذلك ، وذلك معنى [ اليسر به ]{[2146]} ؛ إذ به تخفيف ما به أو منع ما يعتريه من الضرر . ولهذا ما رخص أصحابنا بمن به رمد ، يخاف الزيادة فيه ، وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يفطر المريض والحبلى إذا خافت أن تضع ولدها والمرضع إذا خافت الفساد على ولدها " [ بنحوه : أبو داوود 2318 ] . ثبت أن الرخصة لما يخاف من فساد ينزل ، ولا قوة إلا بالله . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من مات من طعام أو شراب ، وهو يقدر ، فله النار " . وبالله المعونة .

وقوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) ؛ قال قائلون : يطيقون الفداء ، وذلك في الأمر الأول في المسافر والمريض أن له أن يقضي في أيام أخر ، وأن يفدي . وفيه : ( وأن تصوموا خير لكم ) : أن تقضوا الصيام ، والله أعلم ؛ إذ قد يحتمل أيضا إن كانت الرخصة من قبل فيمن عليه بالخيار بين أن يفدي وبين أن يصوم ، والصوم خير على ما ذكر في الآية . ثم نسخ ذلك ؛ إن كان على التأويل الأول بقوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) الآية أنه ألزم القضاء على كل حال ، وإن كان الثاني بقوله : ( فليصمه ) أنه ألزم الفعل على حال . وبمثل ذلك خبر معاذ{[2147]} في إحالة الصيام أنه كان للمرء خيار بين الفطر والفداء وبين الصيام ، ثم نسخ في قوله : ( وأن تصوموا خير لكم ) على إثر ذكر السفر والمرض دلالة جعل الصيام في السفر خيرا من الفطر والفداء في غيره ، وإن احتمل الذي ذكرت ، والله أعلم .

ثم الدلالة على النسخ في الوجه الذي ذكرت متفق القول ، على أن المطلق{[2148]} لم يكن له الخروج من ذلك بالفداء ، فبذلك عرف النسخ مع ما ثبت من قطع الآية على القضاء في أحد الوجهين وفعل الصيام في الآخر . وعلى ذلك معتبر القول في الشيخ الفاني الذي لا يقوم للقضاء : أن له الفطر والفداء لأن الصوم قد ثبت أنه يحتمل الوفاء بالفداء ، لكن نسخ بالصيام . فإذ ارتفع الصيام بالعجز عمن يحتمل الخطاب بعبارات الأموال ، وهم المشايخ ، جاز أن يخاطبوا بالصيام ليخرجوا عنه بالفداء . وعلى ذلك ما جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصيام عن الميت أنه الصيام الذي هو صيام من لا يحتمل فعله ، وهو الفداء ، والله أعلم .

وقد قرئ يطوقونه{[2149]} بمعنى يكلفونه ولا يطيقونه . لكن في الآية : ( وأن تصوموا خير لكم ) ؛ ولو كان لا يطيقونه : لا يرغبون فيه إلا أن يشترط فيه طاقة الجهد ، والله أعلم .

وقوله عز وجل : ( فمن تطوع خيرا ) من زيادة فداء وما يستزيد من الخيرات ، التي لم تعترض ليعود به الخير أو تطوع فيما أذن له في الفداء بالصوم ، والله أعلم . روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسموا شهر رمضان رمضان فإنما هو اسم من أسماء الله تعالى ، انسبوه إلى ما نسبه القرآن " [ النسائي : 4/130 ] .


[2131]:- ساقطة من م.
[2132]:-في النسخ الثلاث: والعقل أن.
[2133]:- ساقطة من ط ع.
[2134]:- أدرج في م والأصل: (حرمت عليكم الميتة) وهذا القول هو من الآية الثالثة من سورة المائدة وذكرت الآية كاملة في ط ع بدل العبارة إلى قوله... الآية.
[2135]:- من ط ع
[2136]:- في ط ع: الآثار.
[2137]:- من ط ع و م.
[2138]:- ساقطة من ط ع.
[2139]:- في النسخ الثلاث: أن.
[2140]:- في النسخ الثلاث: لخصال ثلاث.
[2141]:- من ط ع و ط م، ساقطة من الأصل.
[2142]:- في ط ع: الآثار.
[2143]:- في النسخ الثلاث: الثلاث.
[2144]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[2145]:- الضارية: ضري يضرى، ضري النبيذ يضرى: إذا اشتد.
[2146]:- في النسخ الثلاث: البشرية.
[2147]:- هو قوله صلى الله عليه وسلم: "أحيل الصوم ثلاثة أحوال" [احمد: 5/246]، وقد ذكر في أصل فرض الصوم: (ص 131*.
[2148]:- من ط ع و م، في الأصل: المنطق.
[2149]:- انظر المحتسب: 1/118.