أظهرها : أنَّهُ مَنصُوب بعاملٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه سياقُ الكلام ، تقديره صُومُوا أيَّاماً ويحتملُ النَّصب وجهين : إما الظرفيَّة ، وإما المفعول به ، اتِّساعاً .
الثاني : أنَّه منصوبٌ بالصيام ، ولم يذكر الزّمخشري غيره ؛ وَنَظَّره بقولك " نَوَيْتُ الخُرُوجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ " ، وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ الفصل بيْن المصدر ومعمُوله بأجنبيٍّ ، وهو قوله " كَمَا كُتبَ " ؛ لأَنَّهُ ليس معمولاً للمصدر على أيِّ تقدير قدَّرته .
فإن قيل : يُجعلَ " كَمَا كُتِبَ " صفةً للصّيام ، وذلك على رأي من يجيزُ وصف المعرَّف " بأَل " الجنسيَّة بما يجرى مجرَى النَّكرة ، فلا يكُونُ أجنبيّاً .
قيل : يلزمُ مِنْ ذلك وصفُ المصدر قَبل ذكر معموله ، وهو ممتنعٌ .
الثالث : أنه منصوبٌ بالصِّيامِ على أنْ تقدَّر الكافُ نعتاً لمصدر من الصِّيام ؛ كما قد قال به بعضُهُمْ وإن كان ضعيفاً ؛ فيكون التَّقدير : " الصِّيَامُ صَوْمَاً ؛ كَمَا كُتِبَ " ؛ فجاز أن يعمل في " أَيَّاماً " " الصِّيَامُ " ؛ لأنه إذْ ذاك عاملٌ في " صوماً " الذي هو موصوفٌ ب " كمَا كُتِبَ " ، فلا يقع الفصلُ بينهما بأجنبيٍّ ، بل بمعمول المصدر .
الرابع : أن ينتصب ب " كُتِبَ " إِمَّا على الظَّرف ، وإمَّا على المَفعُول به تَوَسُّعاً ، وإليه نحا الفرَّاء{[2540]} ، وتبعه على ذلك أبو البَقَاء{[2541]} .
قال أبو حيَّان{[2542]} : وكلا القَولين خطأٌ : أَمَّا النَّصب على الظرفيَّة ، فإِنَّهُ محلٌّ للفعلِ ، والكِتابة لَيْسَت واقعةً في الأيَّام ، لكنَّ متعلَّقها هو الواقع في الأَيّام ، وأَمَّا [ النَّصب على المفعول اتساعاً ، فإِنَّ ذلك مبنيٌّ على كونه ظرفاً ل " كُتِبَ " ، وقد تقدَّم أَنَّهُ خطأٌ ، وقيل : نصبٌ على ]{[2543]} التَّفسير .
و " مَعْدُودَاتٍ " صفةٌ ، وجمعُ صفةِ ما لا يعقل بالألف والتَّاء مطَّردٌ ؛ نحو هذا ، وقوله : " جِبَالٌ راسِيَاتٌ " ، و " أَيَّامٌ مَعلومات " .
فصل في اختلافهم في المراد بالأيَّام
اختلفوا في هذه الأيام على قولين :
أحدهما : أنها غير رمضان ، قاله معاذ ، وقتادة ، وعطاء ، ورواه عن ابن عبَّاس ، ثم اختلفَ هؤلاءِ : فقيل ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهر{[2544]} ، وصوم يوم عاشُوراء ، قاله قتادة ، ثُمَّ اختلفوا أيضاً : هل كان تَطوعاً أو مَرضاً ، واتفقُوا على أنَّه منسوخٌ برمضان .
واحتجُّ القائلُونَ بأنَّ المراد بهذه الأيَّام غيرُ رمضانَ بوجوه :
أحدها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ صَوْمَ رَمَضَان نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ {[2545]} " فدلّ هذا على أنَّ قبل رمضان كان صوماً آخر واجباً .
وثانيها : أنَّه تعالى ذكر حُكم المريض والمُسافر في هذه الآية ، ثم ذكر حكمها أيضاً في الآيَة الَّتي بعدها الدالَّة على صوم رمضان ، فلو كان هذا الصَّوم هو صومَ رمضان ، لكان ذلك تكريراً محضاً مِنْ غير فائدة ، وهو لا يجوز .
وثالثها : قوله تعالى هنا { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } [ البقرة : 184 ] تدلُّ على أنَّ هذا واجبٌ على التخيير ، إن شاء صام ، وَإِنْ شاء أعطى الفدية ، وأَما صوم رمضان ، فواجبٌ على العيين ؛ فوجبَ أن يكون صَومُ هذه الأيام غير صوم رمضان .
القول الثاني وهو اختيارُ المحقِّقين ، وبه قال ابنُ عبَّاس ، والحسن ، وأبو مُسلم أن المراد بهذه الأيَّام المعدُواتِ هو صومُ رمضان ، لأَنَّهُ قال في أوَّل الآية الكريمة : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } وهذا محتملٌ ليوم ويومين ، وأيَّام ، ثم بينه بقوله : " أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ " فزال بعضُ الاحتمال ، ثم بَيَّنه بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }
[ البقرة : 185 ] فعلى هذا التَّرتيب يمكنُ أَنْ نجعل الأيَّام المعدوداتِ بعينها صومَ رمضان ، وإذا أمكن ذلك ، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النَّسخ فيه ؛ لأنَّ كل ذلك زيادةٌ لا يدلُّ عليها اللَّفظُ ، وأَمَّا تمسُّكهم بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - " صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ " ، فليس فيه أَنَّه نَسَخَ عنه ، وعن أُمَّته كلَّ صوْمٍ ، بل يجوز أَنَّه نَسَخَ كلَّ صوم وجَبَ في الشّرائع المتقدِّمة ؛ فكما يصحُّ أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض ، فيجوز أن يكون شَرْعهُ ناسخاً لشَرع غيره .
سلَّمنا أَنَّ صومَ رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه ، فلِمَ لا يجوز أن يكونَ نسخ صوماً وجب غَيْرَ هذه الأيام .
وأمَّا تمسُّكُهم بحكم المريضِ والمُسَافر وتكَرُّرِه فجوابُه : أَنَّ صوم رمضان كان في ابتداءِ الإسلام غير واجِبٍ ، وكان التَّخيير فيه ثابتاً بين الصِّيام والفدية ، فلمَّا رُخصَ للمسَافر الفطرُ ، كان من الجائز أَنْ يصير الواجبُ عليه الفدية ، ويجوز أَنْ لا فديَة علَيْه ، ولا قضاء ؛ للمشقَّة . وإذا كان ذلك جائزاً ، بيَّن تعالى أَنَّ إفطار المُسافِر والمريض في الحُكْم خلافُ [ التخيير في المقيم ؛ فإِنَّهُ يجبُ عليهما القَضَاء من عدَّةِ أيَّام أُخر ، فلما نَسَخَ اللَّهُ تعالى ذلك التَّخييرَ عن ]{[2546]} المقيم الصَّحيحِ ، وأَلْزَمَهُ الصَّومَ حتماً ، كان من الجائزِ أَنْ يظن أنَّ حكم الصَّوم ، كمَّا انتقلَ عن التخيير إلى التَّضييق في حَقِّ المقيم الصَّحيح أن يتغيَّر حكمُ المريضِ والمسافر عن حكم الصَّحيح ، كما كان قبل النَّسْخِ ، فبيَّن تعالى في الآية الثَّانية : أنَّ حال{[2547]} المريض والمُسافر كحالها الأُولى لم يتغيَّر بالنَّسخ في حق المقيم الصَّحيح ، فهذه هي الفائدةُ في الإعادة ، وإنَّمَا تمسُّكُهم بأنَّ صَوْمَ هذه الأيَّام على التَّخير وصومَ رمضانَ واجِبٌ على التَّعيين ، فتقدَّم جوابهُ من أَنَّ رمضان كان واجِباً مخيَّراً ، ثم صَارَ مُعَّيناً ، وعلى كِلا القَوْلَين ، فلا بُدَّ من تَطَرُّق النسخ إلى الأيَّام أمَّا على القول الأوَّل فظاهر ، وأما على الثاني : فلأَنَّ هذه الآية تقتضي أن يكون صَوم رمضان واجباً مخيَّراً ، والآية الكريمة التي بعدها تدُلُّ على التَّضييق ؛ فكانت ناسخة للأولى .
فإن قيل : كَيْفَ يصحُّ أنْ يكونَ قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصحُّ .
والجواب : أنَّ الاتِّصال في التَّلاوة لا يوجب الاتِّصال في النُّزول ؛ وهذا كما قيل في عدَّة المتوفَّى عنها زوجها ؛ أنّ الْمقدَّم في التلاوة هو النَّاسخُ والمَنْسُوخ متأَخِّر ، وهذا عكسُ ما يجبُ أن يكُونَ عليه حالُ النَّاسخ والمَنْسوخ ، فقالُوا : إنَّ ذلك في التِّلاوة ، أمَّا في الإنزال ، فكان الاعتِدادُ بالحَولِ هو المتقدِّمَ ، والآية الدَّالَّةُ على أربعة أشْهرٍ وعَشْرٍ هي المُتأخِّرَة ، وكذلك في القُرآن آيات كثيرةٌ مكِّيِّةٌ متأخِّرة في التَّلاوة عن الآياتِ المدنيَّة ، والله أعْلَمْ .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - أوَّلُ ما نُسخ بعد الهجرة أَمْرُ القِبلة والصَّوْم ، ويقالُ نزل صَوْمُ شهر رمضان قَبْل بَدرٍ بشهرٍ وأيام ، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان يَوْمُ عاشُورَاء تصومُهُ قُرَيش في الجاهلِيَّة ، وكان رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ في الجَاهِليَّة فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدِينَةَ ، صَامَهُ ، وَأَمَرَ بِصِيامِهِ ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانَ كَانَ هُوَ الفريضة ، وتُرِكَ يَوْمُ عاشُوراء ، فَمنْ شَاءَ صاَمَهُ ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ{[2548]} .
فصل في المراد بقوله " مَعْدُودات "
في قوله تعالى : " مَعْدودَاتٍ " وجهانِ :
أحدهما : أنها مُقّدَّراتٌ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ .
والثاني : قَلائِل ؛ كقوله تعالى : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] .
وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
فالمرادُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوم في الأَيَّامِ المعْدُودَاتِ ، إنما يَلْزَمُ الأصِحَّاءَ المُقيمينَ ، فأَمَّا مَنْ كَان ]{[2549]} مُسَافراً ، أو مريضاً ، فله تأخير الصَّومِ عنْ هذه الأيَّام إلى أيَّامٍ أُخَرَ .
قال القفَّالُ رحمه الله{[2550]} : انْظُرُوا إلى عجيب ما نبَّهَ اللَّهُ تعالى مِنْ سعة فضلِهِ وَرَحمتِهِ في هذا التَّكليف ، وأَنَّهُ تعالى بَيَّنَ فِي أوَّلِ الآيَةِ أن لهذه الأُمَّةِ في هذا التكليف أَسْوَةً بالأُمَمِ المُتقدِّمةِ ، والغَرضُ منهُ ما ذكرناهُ مِنْ أَنَّ الأمر الشَّاقَّ ، إذا عَمَّ خفَّ ، ثم بَيَّن ثانياً وجه الحكمة في إيجابِ الصَّوم ، وهو أَنَّهُ سببٌ لحُصُول التَّقوَى ، ثُمَّ بَيَّنَ ثالثاً : أنَّهُ مُخْتصُّ بأيَّامٍ معدوداتٍ ، فلو جعلهُ أبداً ، أو في أكثر الأوقات ، لَحَصَلتِ المشَقَّةُ العظيمة ، ثُمَّ بيَّن رابعاً : أنه خَصَّهُ من الأوقات بالشَّهر الذي أُنزل فيه القرآن ؛ لكونه أَشرَف الشُّهُور ؛ بسبب هذه الفَضيلةِ ؛ ثم بيَّن خامِساً : إزالة المشقَّة في إلزَامه ، فَأَباح تأخيره لِمَنْ به مَرَضٌ ، أو سَفَرٌ إلى أن يصيرَ إلى الرَّفاهية والسُّكُون ، فراعى سبحانه وتعالى في إيجاب هذا الصَّوم هذه الوجوه من الرحمة ، فله الحمدُ على نعمه .
قوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } : فيه معنَى الشَّرْط والجَزاءِ ، أي : مَنْ يَكُنْ مرِيضاً ، أو مُسَافراً ، فَأَفْطَر ، فَلْيَقْضِ ، إذا قَدَّرْتَ فيه الشَّرط ، كَانَ المرادُ بقوله : كَانَ الاسْتِقبَالُ لاَ الماضي ؛ كما تقولُ : مَنْ أَتَانِي ، أَتَيْتُهُ .
قوله : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } في مَحَلِّ نَصبٍ ؛ عطفاً على خبر كان ، و " أوْ " هُنَا للتَّنويع ، وعَدَل عن اسمِ الفاعِل ، فَلَمْ يَقْل : أَوْ مُسَافِراً ، إشعارً بالاسْتِعلاء على السَّفر ، لِما فيه مِنَ الاختيار للسفر ؛ بخلافِ المرض ، فإنه قَهْرِيٌّ ،
اختلفُوا في المَرَضِ المُبيح للفطر ؛ فقال الحَسَنُ ، وابنُ سيرين : أيُّ مَرَضٍ كان ، وأيُّ سَفَرٍ كان{[2551]} ؛ تنزيلاً لِلَّفظ المطلق على أقلِّ الأحوال ، وروي أنَّهم دخَلُوا على ابن سيرين في رمَضَان ، وهو يأْكُلُ فاعتلَّ بِوَجَعِ أُصْبعِهِ{[2552]} ، وقال الأصمُّ - رحمه الله- : هذه الرخصةُ مختصَّةٌ بالمرضِ الَّذي لو صَامَ فيه ، لَوقَع في مشقَّة ، ونزَّل اللَّفظ المُطلق على أكْملِ أحوالِه .
وقال أكثَرُ الفقهاءِ : المرضُ المبيحُ للفطر الَّذي يؤدِّي إلى ضررٍ في النفسِ ، أو زيادةِ في العلَّة .
قالوا : وكيفَ يمكنُ أنْ يقالَ : كُلُّ مرضٍ مرخِّصٌ ، مع علمنا أنَّ في الأَمْرَاض ما ينقصه الصَّوم{[2553]} .
أصلُ السَّفر من الكَشف ، وذلك أنه يَكشفُ عن أحوال الرِّجال وأخلاقهم ، والمِسفرة : المِكْنَسَة ؛ لأنَّها تكشِفُ التُّراب عن الأَرْض ، والسَّفير : الدَّاخل بين اثْنَيْن للصلح ؛ لأنَّه يكشِفُ المكروه الَّذي اتَّصل بهما ، والمُسْفِر المُضِيء ؛ لأنه قد انْكَشَف وظَهَر ، ومنه : أَسْفَر الصُّبح ، والسِّفر : الكتَابُ ؛ لأنه يكشِف عن المعاني ببيانهِ . وسَفَرتِ المرأَةُ عن وجهها ، إذا كشَفَت النقابِ .
قال الأزهري : وسُمِّي المسافرُ مُسِافراً ؛ لكشف قناع الكنِّ عن وجهه ، وبُرُوزه إلى الأرضِ الفَضَاءِ ، وسُمِّي السَّفَر سَفَراً أيضاً ؛ لأنَّه يسفر عن وجُوه المُسَافرين ، وأخْلاَقهم ، ويظهر ما كان خافياً منهُم ، والله أعْلَم .
فصل في السفر المبيح للقصر والفطر
اختلفُوا في السَّفر المُبيح للقَصر والفِطْر بعد إِجماعهم على سَفَر الطَّاعة ؛ كالحَجِّ والجهاد ، ويتصلُ بهذين سفرُ صلةِ الرَّحِمِ ، وطَلَبِ المعاشِ الضروريِّ ، وأمَّا سَفَر التجاراتِ والمُبَاحات ، فمختلَفٌ فيه ، والأرجح الجوازُ ، وأمَّا سَفَر المعاصِي ؛ فمختلفٌ فيه ، والمنع فيه أرجحُ .
قال القرطبيُّ{[2554]} : اتَّفق العلماء على أنَّ المُسَافر في رَمَضان لا يجوزُ له أنْ يُبَيِّتَ الفِطْر ؛ لأنَّ المُسَافِرَ لا يكُونُ مُسَافراً بالنِّيَةِ{[2555]} ؛ بخلاف المقيم ، وإِنما يكونُ مسافراً بالعَمَل ، والنُّهُوض ، والمقيمُ لا يفتقر إِلى عَمَل ؛ لأنه إذا نوى الإقامة ، كان مقيماً في الحين ؛ لأن الإقامة لا تفتقر إلى عَمَلٍ ، فافترقا .
فصل في قدر السَّفر المبيح للرُّخص
اختلفُوا في قَدر السَّفر المُبيح للرُّخص ، فقال داود : كُلُّ سفر ، ولو كان فَرْسَخاً ، وتخصيص عمومِ القرآن بخَبَر الواحِدِ غيرُ جائزٌ{[2556]} .
وقال الأوزاعيُّ : السَّفر المبيحُ للفِطر هو مسافةٌ القصر ، ومذهبُ الشافعيِّ ومالكٍ ، وأحمد ، وإسحاق ؛ أنه مقدَّرٌ بستة عَشَرَ فرسخاً ، وهي أربعةُ بُرُدٍ كلُّ فرسخٍ ثلاثة أَمْيالٍ بأَمْيَال هاشم جَدِّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو الَّذي قدَّر أميال البادية كُلُّ ميلٍ اثْنَا عَشَر ألفَ قَدَمٍ ، وهي أربعة آلافِ خطوةٍ ، كلُّ خَطوَةٍ ثلاثةُ أقدَام .
وقال أبُو حَنِيفة - رضي الله عنه - والثوريُّ : مَسَافَةُ القَصْرِ ثلاثة أيامٍ .
قوله { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
الجمهور على رفع " عدَّةٌ " ، وفيه وجوهٌ :
أحدها : أنَّه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ ، إما قبله ، تقديره : " فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ " أو بعده ، أي فعدَّةٌ أَمْثَلُ به .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، اي : فالواجبُ عدَّةٌ .
الثالث : أن يرتفع بفعل محذوفٍ ، أي : " تُجْزِئُهُ عِدَّةٌ {[2557]} " .
وقرىء " فَعِدَّةٌ " ؛ نصباً بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : " فَلْيَصُمْ عِدَّةً " ، وكأنَّ أبا البقاء{[2558]} - رحمه الله - لم يَطَّلِعْ على هذه القراءةِ ؛ فإنَّه قال : لو قرىء بالنَّصب ، لكان مُسْتقيماً ، ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ ، تقديره : " فَصَوْمَ عِدَّة " وَمِنْ حذف جملة بعد الفعلية ؛ ليصحَّ الكلامُ ، تقديره : " فَأَفْطَرَ ، فَعِدَّةً " ؛ ونظيرهُ { اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ } [ البقرة : 60 ] وقوله { اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } [ الشعراء : 63 ] ، أي : " فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ " .
و " عِدَّة " " فِعْلَةٌ " من العدد ، بمعنى : مَعْدُودَة ، كالطِّحْنِ والذِّبْح ، ومنه يقال للجماعة المعدودة مِنَ النَّاس عِدَّة ، وعِدَّة المرأة مِنْ هذا ، ونَكَّر " عِدَّة " ، ولم يقل : " فعدّتها " ؛ اتّكالاً على المعنى ؛ فإنَّا بيَّنَّا أنَّ العدَّة بمعنى المعدُود ، فأمر بأن يُصوم أيَّاماً معدودةً والظَّاهر : أنَّه لا يأتي إلاَّ بمثل ذلك العَدَد ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة .
و " مِنْ أَيَّام " : في مَحلِّ رفع ، أو نصبٍ على حَسَب القراءتين صفة ل " عِدَّة " .
قوله " أُخَر " صفةٌ ل " أيَّام " ؛ فيكون في محلِّ خفضٍ ، و " أُخَرَ " على ضربَيْن .
أحدهما : جمع " أُخْرَى " تأنيث " أخَرَ " الَّذي هو أفعَلُ تَفضيل .
والثاني : جمع " أُخْرَى " بمعنى " آخِرَةٍ " تأنيث " آخِرٍ " المقابل لأوَّل ؛ ومنه قوله تبارك وتعالى : { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ } [ الأعراف : 39 ] فالضربُ الأَوَّل لا ينصرفُ للوَصف والعَدْل ، واختلفُوا في كيفيَّة العَدْل : فقال الجمهورُ : إنه عَدلٌ عن الألف واللاَّم ؛ وذلك أنَّ " أُخَرَ " جمعُ " أُخْرَى " ، و " أُخْرَى " تأنيث " آخَرَ " و " آخَرُ " أفعلُ تفضيلٍ لا يخْلُو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالاتٍ .
إما مع " ألْ " وإمَّا مع " مَنْ " ، وإما مع " الإضَافَةِ " ، لكن مِنْ ممتنعةٌ ؛ لأن معها يلزمُ الإفرادُ والتذكير والإضافة في اللفظِ ؛ فقدَّرنا عدلَهُ عن الأَلِفِ واللاَّم ، وهذا كما قالُوا في " سَحَرَ " إنَّه عدلٌ عن الألِفِ واللام ، إِلاَّ أنَّ هذا مع العلميَّة ، ومذهَبُ سيبويه{[2559]} : أنه عدلٌ من صيغة إلى صيغةٍ ؛ لأنه كان حقُّ الكلام في قولك : " مَرَرْتُ بِنِسْوَةِ أُخَرَ " على وزن " فُعَلَ " أنْ يكون " بنِسْوَةٍ آخَرَ " على وزن " أَفْعَلَ " ؛ لأن المعنى على تقدير " مِنْ " فعُدِل عن المفرد إلى الجمع .
وأمَّا الضربُ الثَّاني : فهو منصرفٌ ؛ لِفُقْدَانِ العلَّة المذكورة ، والفرقُ بين " أُخْرَى " التي للتفضيلِ ، و " أُخْرَى " التي بمعنى متأخِّرة - أنَّ معنى الَّتي للتفضيل معنى " غَيْرَ " ، ومعنى تِيكَ معنى " متأخِّرة " ؛ ولكونِ الأُولى بمعنى " غَيْر " لا يجوز أن يكونَ ما اتَّصلَ بها إلاَّ [ منْ جنس ما قبلها ؛ نحو : " مررتُ بِكَ ، وبرَجُلٍ آخر " ولا يجوز " اشْتَرَيْتُ هَذَا الجَمَلَ وَفَرَساً آخَرَ " ؛ لأنه من ]{[2560]} غير الجنْسِ ، فأما قوله في ذلك البيت : [ البسيط ]
934 - صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمنُ وَابْنَتِهَ *** لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِها الأُخَرِ{[2561]}
فإنَّه جعل ابنتها جارة لها ، ولولا ذلك ، لَمْ يَجُزْ ، ومعنَى التفضيل في " آخر " و " أَوَّل " ، وما تصرَّف منها قلِقٌ مذكورٌ في كُتُب النَّحْو ، وإنَّما وصفت الأيّام ب " أُخَرَ " مِنْ حيثُ إنَّها جمعٌ ما لا يعقلُ ، وجَمْعُ ما لا يعقلُ يجوز أنْ يُعَامَلُ معاملةً الواحدة المؤنَّثة ، ومعاملةَ جمع الإنَاثِ ، فمن الأول { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [ طه : 18 ] وفي الثاني هذه الآية اكريمة ، ونظائرها ، فإنما أوثر هنا معاملتُهُ معاملةَ الجمع ؛ لأنه لو جيء به مُفْرَداً ، فقيل : { عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخْرَى } لأوهم أنَّه وصف فيفوت المقصُود .
ذهب بعضُ العلماء - رضي الله عنهم - إلى أنَّه يجبُ على المريض والمُسَافر : أن يُفْطِرا وْ يصُوما عدَّة أَيامٍ أَخَرَ وهو قولُ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - وابن عمر{[2562]} ، ونقل الخَطَّابيُّ في " أَعْلاَم التَّنزيل " عن ابنِ عمر ، أنَّه قال : " إنْ صَامَ في السَّفِرِ ، قَضَى في الحَضَرِ " وهذا اختيار داود بنِ عليٍّ الأصفهانيِّ ، وأكثر الفقهاءِ على أنَّ هذا الإفطار رخصةٌ ، فإنْ شاء أفْطَر ، وإن شاء صام .
حُجَّةُ الأوَّلين ما تقدَّم من القراءتين أنَّا إن قرأنا " عِدَّةً " ، فالتقديرُ : " فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " والأمر للوجوب ، وأنا إن قرأنا بالرَّفع ، فالتقديرُ : " فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ " وكلمة " عَلَى " للوجوب ، وإذا كان ظاهرُ القُرآن الكريم يقتضي إيجابَ صَوْم أيامٍ أُخَرَ ، فوجب أَنْ يكُونَ فطرُ هذه الأيامِ واجباً ؛ ضرورةَ أنَّه لا قائل بالجمع .
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام " لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ{[2563]} " ولا يقالُ : هذا الخَبَر ورد على سَبَبٍ خاصٍّ ، وهو أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ ، جَلسَ تحت مِظلَّةٍ ، فَسَأَلَ عَنهُ ، فقالُوا : هذا صائِمٌ أجْهَدَهُ العطَشُ ، فَقال : " لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " ، فإنا نقولُ : العِبرة بعُمُوم اللَّفظ لا بخُصُوص السَّبَبِ ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " الصَّائِمُ في السَّفر كالمُفطِرِ في الحَضَرِ " .
وحجَّة الجمهور : أنَّ في هذه الآية إضماراً ؛ لأنَّ التَّقدير : " فأَفْطَرَ فعدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " والإضمارُ في كلام الله تعالى جائزٌ ؛ كما في قول الله تعالى : { اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ } [ البقرة : 60 ] ، أي : " فَضَرَبَ ، فَانْفَجَرَتْ " ، وقوله { اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ }
[ الشعراء : 63 ] ، أي : " فَضَرَبَ فَانْفَلَقَتَ " ، وقوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ } [ البقرة : 196 ] إلى قوله : { أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } ، أي : " فَحَلَقَ " .
قال القفَّال{[2564]} - رحمه الله - : قوله تعالى :
{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يدلُّ على وجُوُب الصَّوم .
قال ابن الخطيب{[2565]} : ولقِائِلٍ أنْ يقَولَ : هذا ضعيفٌ من وجهين :
الأول : أنَّا إنْ أجرينا ظاهر قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } على العُمُوم ، لزمنا الإضمارُ في قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، وإن أجرينا هذه الآيَةَ على ظاهرها ، لَزمنا تخصيصُ عُمُوم قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وقد ثبت في أصُولِ الفقه أنَّه متى وقع التعارُضُ بيْن التخصيص ، وبيْن الإضمار ، كان الحملُ على التَّخصيص أَولى .
الثَّاني : أنَّ ظاهر قَوله تعالى : " فَلْيَصُمْهُ " يقتضي الوُجوب عَيْناً ، وهذا الوُجُوب منتفٍ في حقِّ المريضِ والمُسافر ، فالآيةُ مخصوصةٌ في حقِّهما على كلِّ تقدير ، سواءٌ أجرَينا قولَهُ تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } على ظاهره أَوْ لاَ ، وإذا كان كذلك ، وجب إجراء هذه الآية على ظاهِرِهَا مِنْ غير إضمارٍ .
الوجه الثاني : ذكره الواحدي{[2566]} في " البَسِيطِ " قال : وقَال القاضي : إنَّما يجبُ القَضَاء بالإفْطَار ، لا بالمَرَض والسَّفر ، فلمَا أوجب اللَّهُ القَضَاءَ ، والقَضَاءُ مسَبوقٌ بالفطْر ، دَلَّ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ إضمارِ الإفطار .
قال ابنُ الخطيب{[2567]} وهذا ساقط ؛ لأنه لم يَقُل : فعلَيَهِ قضاءُ ما مَضَى ، بل قال : " فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " ، وإيجابُ الصَّوم عليه في أيَّامٍ أُخَرَ لا يستَدعي أن يكون مَسبُوقاً بالإفطار .
الوجه الثالث : رَوَى أبو داود عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حمزة الأسلميَّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال : يا رَسُولَ اللَّهِ ، هَل أَصُوم في السَّفر ؟ قال " إِنْ شِئْتَ صُمْ ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ{[2568]} " .
ولقائل أنْ يقول : هذا يقتضي نَسْخَ القُرآن بخبر الواحد ؛ لأن ظاهر القُرآن يقتضي وجُوبَ الصَّوم ، فرفعُ هذا الحُكم بهذا الخَبر غيرُ جائِز ، وإذا ضُعِّفَتْ هذه الوجوه ، فالاعتماد على قوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى .
فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره
اختلفُوا هَل الصَّوم للمُسافرِ أفْضَلُ أمِ الفِطر ؟
فقال أنسُ بنُ مالك ، وعثمان بنُ أبي أوفى : الصَّوم أفضلُ ، وبه قال الشافعيُّ ، وأبو حنيفة ، ومالكٌ ، والثوريُّ ، وأبو يوسُفَ ، ومحمَّد .
وقال سعيدُ بنُ المُسيَّب ، والشَّعبيُّ ، والأوزاعيُّ ، وأحمدُ ، وإسحاقُ ، الفطرُ أفضلُ .
وقالت طائفةٌ : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء . حجَّة الأوَّلين : قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وقوله { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
حجَّة الفرقة الثانية : قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنَّ الله يحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ ؛ كما تُؤْتَى عَزَائِمُهُ " {[2569]} وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - " لَيْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " ، وأيضاً : فالقَصر أفضلُ ؛ فيجب أنْ يكُون الفطرُ أفضل .
وفرَّق بعضهم بين القَصر والفِطْر مِنْ وجهين :
الأوَّل : أنَّ الصَّلاة المقصُورة تبرأ الذمَّة بها ، والفِطر تبقى الذِّمَّة فيه مشغُولةٌ .
الثاني : أنّ فضيلة الوقت تَفُوتُ بالفِطْرِ ، ولا تَفُوت بالقَصر .
حجَّةُ الفرقة الثالثة : قوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] .
فصل في حكم ما إذا أفطر كيف يقضي ؟
مذهب عليٍّ ، وابن عُمر ، والشَّعبيِّ : أنَّه يقضيه متتابعاً ؛ لوجهين :
الأوَّل : قراءة أُبي " فعدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ مُتتابعاتٍ " فكذا القضاءُ{[2570]} .
وقال بعضهم : التَّتابع مستحبٌّ ، وإن فرق ، جاز ؛ فيكون أمراً بصَوم أيامٍ على عدد تِلْكَ الأيَّام مطلقاً ، فالتقديرُ بالتتابع مخالفٌ لهذا التَّعميم ، ويُروى عن أبي عُبيدة بن الجرَّاح أنه قال : " إِنَّ الله لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ في فِطرهِ ، وهو يريد أنْ يشُقَّ عليكم في قَضَائِهِ ؛ إنْ شئْتَ فَواتِرْ ، وإنْ شِئْتَ فَفَرِّقْ " ، ورُوِي أنَّ رجلاً قال للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ ، أَفَيُجْزيني أَنْ أقضيها مُتفرقاً فقال لهُ : " لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ ، فَقَضَيْتَهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْن ، أَمَا كَانَ يُجْزِيكَ ؟ فقال : نَعَمَ ، قَالَ " فَاللَّهُ أحقُّ أَنْ يَعفُو ويصفح{[2571]} " .
قوله " يُطِيقُونَهُ " الجمهور على " يُطِيقُونَهُ " من أطَاقَ يُطِيقُ ، مثلُ أقَامَ يُقِيمُ ، وقرأ{[2572]} حُمَيدٌ " يُطْوِقُونَهُ " من " أَطْوَقَ " كقولِهم أَطْوَل في أطالَ ، وأغْوَل في أغال ، وهذا تصحيحٌ شاذٌ ، ومثله في الشُّذُوذ من ذوات الواو أجودَ بمعنى أجادَ ، ومن ذوات الياء أَغْيَمَتِ السَّماءُ ، وأَجبَلَتْ ، وأَغْيَلَت المَرْأَةُ وأَطْيَبَتْ ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ ، وهو القياس ، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ وَأَطوَلَ إِلا أبو زَيدٍ . وقرأ ابن عبَّاسٍ{[2573]} وابن مَسعُودٍ ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ ، ومجاهد ، وعكرمةُ ، وأيُّوب السَّختياني ، وعطاءٌ " يُطوَّقونَهُ " مبنيّاً للمعفول من " طوَّقَ " مُضعَّفاً ، على وزن " قَطَّعَ " ، وقرأت عائشةُ ، وابن دينارٍ : " يَطَّوَّقُونَهُ " بتشديد الطاء والواو من " أَطْوَقَ " ، وأصله " تَطَوَّقَ " ، فلما أُرِيدَ إدغامُ التَّاء في الطاء ، قُلِبت طاء واجتلبت همزةُ الوَصل ؛ ليمكن الابتداءُ بالسَّاكن ، وقد تقدَّم تقرير ذلك في قوله تعالى : { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] وقرأ{[2574]} عكرمةُ وطائفة " يَطَّيَّقُونه " بفتح الياء ، وتشديد الطَّاء ، والياء ، وتُروى عن مجاهد أيضاً ، وقرىء أيضاً هكذا لكن ببناء الفعل للمفعُول .
وقد ردَّ بعضهم هذه القراءة ، وقال ابنُ عطيَّة{[2575]} تشديدُ الياءِ في هذه اللَّفظة ضعيفٌ وإنَّما قالُوا ببُطْلان هذه ؛ لأنَّها عندَهُم من ذوات الواو ، وهو الطَّوق ، فمِنْ أين تجيء الياء ، وهذه القراءةُ لَيْسَت باطلةً ، ولا ضعيفةً ، ولها تخريجٌ حسنٌ ، وهو أن هذه القراءة لَيستْ من " تَفَعَّلَ " ؛ حتى يلزم ما قالوه من الإشكال ، وإنما هي من " تَفَيْعَل " ، والأصلُ " تَطَيْوَقَ " مِنَ " الطَّوْقِ " ك " تَدَيَّرَ " و " تَحَيَّرَ " من " الدَّوَرَانِ " و " الحَوْر " ، والأصل " تَدَيْوَرَ " ، و " تَحَيْورَ " فاجتمعت الواوُ والياءُ ، وسبَقَتْ إحداهما بالسُّكُون ، فقلبت الواو ياءً ، وأُدغمت الياء في الياء ، فكان الأصلُ " يَتَطَيْوَقُونَهُ " ، ثم أُدغم بعد القلبِ ، فمن قرأ " تَطَّيَّقُونَهُ " بفتح الياء بناه للفاعل ، ومن ضمَّها بناه للمفعول ، ويحتمل قراءة التشديد في الواو ، أو الياء أن تكون للتكلُّف ، أي :يَتَكَلَّفُونَ إطاقَتَهُ وذلك مجازٌ من الطَّوقِ الذي هو القلادةُ في أعْناقهم ، وأبعد من زعم أنَّ " لاَ " محذوفةٌ قبل " ويطيقُونَهُ " ، وأنَّ التقديرَ ، لاَ يُطِيقُونَهُ ، ونَظَّرَهُ بقوله : [ الطويل ]
935 - فَخَالِفْ فَلاَ واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً *** من الأَرْضِ إِلاَّ أَنْتَ لِلذُلِّ عَارفُ{[2576]}
936 - آلَيْتُ أَمْدَحُ مُغْرماً أَبَداً *** يَبْقَى الْمَدِيحُ ويَذْهَبُ الرِّفْدُ{[2577]}
937 - فَقُلْتُ : يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً *** وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي{[2578]}
المعنى : لاَ تَهْبِطُ ، ولاَ أَمْدَحُ ، وَلاَ أَبْرَحُ ، وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ حذفها مُلتبسٌ ، وأما الأبياتُ المذكورة ؛ فلدلالة القسم على النَّفي .
والهاء في " يَطِيقُونَهُ " للصَّومِ ، وقيل : للفداء ؛ قاله الفراء{[2579]} .
و " فِدْيَة " مبتدأٌ خبره في الجَارِّ والمجرور قَبْله ، والجُمْهُورُ على تَنْوين " فِدْيَةٌ " ورفع " طَعَام " وتوحيد " مسكين " وهشام كذلك إلاَّ أنه قرأ{[2580]} " مَسَاكينَ " جمعاً ، ونافعٌ وابنُ ذكوان بإضافة " فِدْيَة " إلى " مَسَاكِين " جمعاً ، فالقراءة الأولى يكون " طَعَاماً " بَدَلاً من " فِدْيَةٌ " بَيَّنَ بهذا البَدَل المراد بالفدْية ، وأجاز أبو البقاء{[2581]} - رحمه الله تعالى - أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : " هي طعامٌ " ، وأما إضافة الفدية للطَّعام ، فمِن باب إضافة الشيء إلى جنْسِه ، والمقصُود به البيانُ ؛ كقولك : " خَاتَمُ حَدِيدٍ ، وثَوبُ خَزٍّ ، وبابُ ساجٍ " لأنَّ الفدية تكونُ طعاماً وغيره ، وقال بعضهم : يجوز أنْ تكُون هذه الإضافة من باب إضافة الموصُوف إلى الصِّفة ، قال : لأنَّ الفِدْية لها ذاتٌ وصفَتُها أنَّها طعام ، وهذا فاسِدٌ ؛ لأنَّه إمَّا أن يريد ب " طَعَام " المصدرَ بمعنى الإطعام ؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أو يُريدَ به المفعُول ؛ وعلى كلا التَّقديرين ، فلا يُوصفُ به ؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ به وليست مُرادةً هنا ، والذي بمعنى المفعولِ ليس جَارياً على فِعْلٍ ، ولا ينقاسُ ، لا تقُول : ضِرَاب بمعنى مَضْرُوبِ ، ولا قِتَال بمعنى مَقْتُولٍ ، ولكونها غير جاريةٍ على فِعْلِ ، لم تَعَمْلْ عَمَله ، لا تَقُولُ : " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٍ خُبْزُهُ " وإذا كانَ غيرَ صفةٍ ، فكيفَ يقال : أُضِيفَ المَوْصُوفُ لصفَتِهِ ؟
وإنِّما أُفْرِدَت " فِدْيَةٌ " ؛ لوجهين :
أحدهما : أنَّها مصدرٌّ ، والمصدرُ يُفْرَدُ ، والتاء فيها ليست للمَرَّة ، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث .
والثاني : أنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع ، أفهمت الجمع ، وهذا في قراءة " مساكين " بالجمع ، ومن جمع " مساكين " ، فلمقابلة الجمع بالجمع ، ومن أفرد ، فعلى مراعاة إفراد العموم ، أي : وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم ؛ لكل يوم يفطره إطعام مسكين ؛ ونظيره : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور :4 ] .
وتبين من إفراد " المسكين " أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين ، ولا يفهم ذلك من الجمع ، والطعام : المراد به الإطعام ، فهو مصدر ، ويضعف أن يراد به المفعول ، قالوا أبو البقاء : " لأنه أضافه إلى المسكين ، وليس الطعام للمسكين قبل تمليكه إياه ، فلو حُمل على ذلك ، لكان مجازا ؛ لأنه يصير تقديره : فعليه إخراج طعام يصير للمساكين ، فهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه ، وهو وإن كان جائزا ، إلا أنه مجاز ، والحقيقة أولى منه " .
قوله : " فمن تطوع خيرا " قد تقدم نظيره عند قوله تعالى : { ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } [ البقرة : 158 ] فليلتفت إليه ، والضمير في قوله : " فهو " ضمير المصدر المدلول عليه بقوله : " فمن تطوع " ، أي : فالتطوع خير له ، و " له " في محل رفع ؛ لأنه صفة ل " خير " ؛ فيتعلق بمحذوف ، أي : خير كائن له .
ذهب أكثر العلماء إلى أن الآية منسوخة ، وهو قول ابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، وغيرهما ؛ وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا ، وبين أن يفطروا ، ويفتدوا ، خيَّرهم الله تعالى ؛ لئلا يشق عليهم ؛ لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ، ثم نُسخ التخيير ، ونزلت العزيمة بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقال قتادة : هي{[2582]} خاصة بالشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ، ولكن يشق عليه ، رُخص له أن يُفطر ويفدي [ ثم نسخ .
وقال الحسن : هذا في المريض الذي به ما يقع عليه اسم المرض ، وهو يستطيع ، خُير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ]{[2583]} ثم نُسخ بقوله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وتثبت الرخصة للذين لا يطيقونه ، وذهب جماعة إلى أن الآية الكريمة محكمة غير منسوخة ، معناه : وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب ، فعَجِزوا عنه بعد الكبر ، فعليهم الفدية بدل الصوم ، وقراءة ابن عباس " يُطوَّقونه " بضم الياء ، وفتح الطاء مخففة ، وتشديد الواو ، أي : يُكلَّفون الصوم ، فتأوله على الشيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة ، لا يستطيعان الصوم ، والمريض الذي لا يرجى برؤه ، فهم يكلفون الصوم ، ولا يطيقونه ، فلهم أن يُفطروا ، ويُطعموا مكان كل يوم مسكينا ، وهو قول سعيد بن جبير{[2584]} ، وجعل الآية محكمة .
فصل في المراد بالفدية ومقدارها
" الفِدْيةُ " في معنى الجزاء ، وهو عبارةٌ عن البَدَل القائم عن الشيءِ وهي عند أبي حنيفة نصفُ صاعٍ من بُرٍّ ، أو صاعاً من غيره وهو مُدَّانِ ، وعن الشَّافعي " مُدٌ " بمُدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو رَطْلٌ وثُلُثٌ من غالب أقوات البَلَد ، وهو قول فقهاء الحجاز .
وقال بعضُ فقهاء العراق : نصف صاعٍ لكُلِّ يومٍ يُفطِر{[2585]} .
وقال بعض الفقهاء : ما كان المُفْطِرُ يتقوَّته يَومَه الَّذي أفْطَره{[2586]} .
وقال ابنُ عباسٍ : يُعطِي كلَّ مسكين عشاءَهُ وسَحُوره{[2587]} .
احتجَّ الجُبَّائيُّ بقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } على أن الاستطاعة قبل الفعل ؛ فقال : الضميرُ في قوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } عائدٌ إلى الصَّوم ، فأثبت القُدرة على الصَّوم حال عدم الصَّومِ ؛ لأنَّه أوجب عليه الفِدية ، وإنَّما تجب عليه الفديةُ إذا لم يَصُمْ ؛ فَدَلَّ هذا على أن القدرةَ على الصَّوم حاصلةٌ قبل حُصُول الصَّوم .
فإنْ قيل : لمَ لا يجُوز أنْ يكُون الضميرُ عائداً إلى الفِدية ؟
أحدهما : أن الفدْيَةَ متأخِّرةٌ ، فلا يَعُود الضَّمير إليها .
والثاني : أنَّ الضَّمير مُذَكَّر ، والفدية مؤنَّثة .
فإنْ قيل : هذه الآية مسنوخةٌ ، فكَيْفَ يجوز الاستدلالُ بها ؟ !
قلنا : إنَّما كانت قبل أن صارتْ منسُوخةً دالَّة على أنَّ القُدرة حاصلةً قبل الفعل ، والحقائقُ لا تتغيَّر .
قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } فيه ثلاثة أوجُهٍ :
أحدها : قال مجاهد وعطاء ، وطاوس : أي : زاد على مسكين واحدٍ ؛ فأطعم مكان كل يومٍ مسكينين ، فأكثر{[2588]} .
الثاني : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب .
الثالث : قاله الزُّهريُّ : من صام مع الفدية ، فهو خير{[2589]} له .
قوله : " وَأَنْ تَصُومُوا " في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء ، تقديره : " صَوْمُكُمْ " ، و " خَيْرٌ " خَبَرُهُ ، ونظيره : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }
وقوله : " إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ " شرطٌ حذف جوابه ، تقديره : فالصَّوم خيرٌ لكم ، وحذف مفعول العلم ؛ إما اقتصاراً ، أي : إن كنتم من ذوي العلم والتمييز ، أو اختصاراً ، أي : تعلمون ما شرعيته وتبيينه ، أو فضل ما علمتم .
من ذهب إلى النَّسخ ، قال : معناه : الصَّوم خيرٌ له من الفدية ، وقيل : هذا في الشَّيخ الكبير ، لو تكلَّف الصَّوم ، وإن شقَّ عليه ، فهو خيرٌ له من أن يفطر ويفدي .
وقيل : هذا خطابٌ مع كل من تقدَّم ذكره ، أعني : المريض ، والمسافر ، والذين يطيقونه .
قال ابن الخطيب{[2590]} : وهذا أولى ؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ ، ولا يلزم من اتِّصاله بقوله { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أن يكون حكمه مختصّاً بهم ، لأنَّ اللفظ عامٌّ ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكُلِّ ، فوجب الحكم بذلك ، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلَّف في إفطار شهر رمضان ، إلاَّ لثلاثةٍ :
أحدهم - يجب عليه القضاء والكفَّارة : هو الحامل والمرضع ، إذا خافتا على ولديهما يفطران ، ويقضيان ، وعليهما مع القضاء الفدية ، وهو قول ابن عمر ، وابن عبَّاس ، وبه قال مجاهد ، وإليه ذهب الشافعيُّ وأحمد{[2591]} .
وقال قومٌ : لا فدية عليهما ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، والنَّخعيُّ ، والزُّهريُّ ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ{[2592]} وأصحاب الرَّأي .
الثاني - عليه القضاء دون الكفَّارة : وهو المريض والمسافر .
الثالث - عليه الكفَّارة دون القضاء : الشَّيخ الكبير ، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه .