قوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض } أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها .
قوله تعالى : { ذهباً } نصب على التفسير كقولهم عشرون درهماً .
قوله تعالى : { ولو افتدى به } قيل : معناه لو افتدى به ، والواو زائدة مقحمة .
قوله تعالى : { أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا محمد بن بشار ، أخبرنا شعبة عن أبي عمران قال : سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة ، أرأيت لو أن لك ما في الأرض جميعا من شيء أكنت تفدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقول : أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم ، أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي " .
ثم صرح - سبحانه - ببيان عاقبة الذين يموتون على الكفر فقال - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أى استمروا على كفرهم وضلالهم حتى ماتوا على هذا الكفر والضلال فكأن الآيات الكريمة قد ذكرت لنا ثلاث أصناف من الكافرين : قسم كان كافرا ثم تاب عن كفره توبة صادقة بأن آمن وعمل صالحا فقبل الله توبته . وهذا القسم هو الذى استثناه الله بقوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقسم كان كافراً ثم تاب عن كفره توبة ليست صادقة ، فلم يقبلها الله - تعالى - منه .
وهو الذى قال الله فى شأنه فى الآية السابقة { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .
وقسم كان كافراً واستمر على كفره حتى مات عليه دون أن تحدث منه أية توبة ، وهو الذى أخبر عنه - سبحانه - فى هذه الآية بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أى ماتوا على كفرهم دون أن يتوبوا منه . وقد بين الله - تعالى - سوء مصيرهم بقوله : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } أى أن هؤلاء الذين ماتوا على الكفر دون أن يتوبوا منه . لن يقبل الله - تعالى - من أحدهم ما كان قد أنفقه فى الدنيا ولو كان هذا المنفق ملء الأرض ذهبا ، لأن كفره قد أحبط أعماله وأفسدها كما قال - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وكذلك لن يقبل الله - تعالى - عن أحدهم فدية عن عقابه الشديد له بسبب موته على الكفر . ولو كان ما يفتدى به نفسه ملء الأرض ذهباً ، لأن الله - تعالى - غنى عنه وعن فديته - مهما عظمت - وسيعاقبه على كفره بما يستحق من عقاب .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } .
أى من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة كما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان - وكان يقرى الضيف ، ويفك العانى ، ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك ؟ فقال : " لا ، إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " وكذلك لو افتدى - نفسه فى الآخرة - بملء الأرض ايضاً ذهباً ما قبل منه ، كما قال - تعالى -
{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } وقال - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم قال : وروى الشيخان والإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شىء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله له ، قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك فى ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بى شيئا فأبيت إلا أن تشرك " .
وفى رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أى رب ، خير منزل . فيقول الله - تعالى - له : سل وتمن ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردنى إلى الدنيا فأقتل فى سبيلك عشر مرارا - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أى رب ! شر منزل ، فيقول له : أتفتدى منه بطلاع الأرض ذهبا ؟ فيقول أى رب ! نعم فيقول : كذبت ! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار " .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم قيل فى الآية السابقة { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } بغير فاء . وقيل هنا { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم } بوجود الفاء - ؟ قلت : قد أوذن بالفاء أن الكلام بنى على الشرط والجزاء ، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وبترك الفاء أن الكلام متبدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب ، كما تقول : الذى جاءنى له درهم ، لم تجعل المجىء سببا فى استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : فله درهم " .
وقوله { ذَهَباً } منصوب على أنه تمييز .
وعبر بالذهب لأنه أنفس الأشياء وأعزها على النفس .
وقوله { وَلَوِ افتدى بِهِ } جملة حالية ، والواو للحال . أى لا يقبل من الذى مات على كفره هذا الفداء ولو فى حال افتراض تحقق هذا الفداء فى يده وتقديمه إياه لكى يدفعه لخالقه وينجو من العقوبة الى توعده بها .
أى أن العذاب الأليم نازل قطعا على هذا الذى مات على كفره ، حتى ولو فرضنا أنه تصدق فى الدنيا بملء الأرض ذهبا . وحتى لو فرضنا أنه ملك هذا المقدار النفيس الكثير من الأموال فى الآخرة وقدمه فدية لنفسه من العذاب ، فإن كل ذلك غير مقبول منه ، ولا بد من نزول العذاب به .
وقد أشار ابن المنير إلى هذا المعنى بقوله : " قبول الفدية التى هى ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال : منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية من نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول . ومنها أن يقول المفتدى فى التقدير : أفدى نفسى بكذا وقد لا يفعل . ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذى يفدى به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا ، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته . وإذا تعددت الأحوال فالمراد من الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ومع ذلك لا يقبل منه ، فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى . فيكون دخول الواو والحالة المذكورة . وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من العذاب ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس فى ذلك اليوم ، ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلى فى يدى هذه " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .
أى أولئك الذين ماتوا على كفرهم لهم عذاب أليم ، وما لهم من ناصرين ينصرونهم بدفع العذاب عنهم ، أو تخفيف وقعه عليهم .
ومن مزيدة لاستغراق النفى وتأكيده ، أى لا يوجد أحد كائناً من كان ينقذهم من عذاب الله ، أو يجيرهم من أليم عقابه .
وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد توعدتا الكافرين بأشد ألوان العذاب ، وأقسى أنواع العقاب ، حتى يقلعوا عن كفرهم ، ويثوبوا إلى رشدهم .
وبعد هذا الحديث المشتمل على أشد صنوف الترهيب من الكفر ، وعلى بيان سوء عاقبة الكافرين ، أتبعه بالحديث عن الطريق الذى يوصل المؤمنين إلى رضا الله وحسن مثوبته فقال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.