الملء : مقدار ما يملأ ، وهو اسم يثنى ويجمع يقال : ملء القدح ، وملآه ، وثلاثة أملائه ، وبفتح الميم المصدر ، يقال : ملأت الشيء املأه ملأ ، والملاءة التي تلبس ، وهي الملحفة بضم الميم والهمز .
وتقدمت هذه المادة في شرح : الملأ .
{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } قرأ عكرمة : فلن نقبل ، بالنون و : ملء ، بالنصب .
وقرئ : فلن يقبل بالياء مبنياً للفاعل ، أي فلن يقبل الله .
وقرأ أبو جعفر ، وأبو السمال : مل الأرض ، بدون همز .
ورويت عن نافع ، ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل ، وهو اللام ، وحذفت الهمزة ، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا ، وأتى بلفظ : أحدهم ، ولم يأت بلفظ : منهم ، لأن ذلك أبلغ وأنص في المقصود ، إذ كان : منهم ، يحتمل أن يكون يفيد الجميع .
وانتصاب : ذهباً ، على التمييز ، وفي ناصب التمييز خلاف ، وسماه الفراء : تفسيراً ، لأن المقدار معلوم ، والمقدّر به مجمل .
وقال الكسائي : نصب على إضمار : من ، أي : من ذهب ، كقوله : { أو عدل ذلك صياماً } أي : من صيام .
قال الزمخشري : ردّ على : ملء ، كما يقال عندي عشرون نفساً رجال . انتهى .
ويعني بالردّ : البدل ، ويكون من بدل النكرة من المعرفة ، لأن : ملء الأرض ، معرفة ولذلك ضبط الحذاق قوله : لك الحمد ملء السموات والأرض بالرفع على بالصفة للحمد ، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة .
{ ولو افتدى به } قرأ ابن أبي عبلة : لو افتدى به ، دون واو ، و : لو ، هنا هي بمعنى : إن ، الشرطية لا : لو ، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ، لأن : لو ، هنا معلقة بالمستقبل ، وهو : فلن يقبل ، وتلك معلقة بالماضي .
فأما قراءة ابن أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول ، وأما قراءة الجمهور بالواو ، فقيل : الواو زائدة ، وهو ضعيف ، ويكون المعنى إذ ذاك معنى قراءة ابن أبي عبلة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع قوله { لو افتدى به } ؟ قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . انتهى .
وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله ، والذي يقتضيه هذا التركيب ، وينبغي أن يحمل عليه ، أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ، ولو في حالة الافتداء به من العذاب ، لأن حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه ، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن : لو ، تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله : « أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل ولو بظلف محرق » كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها ، لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه ، فكأن يناسب أن لا يرد السائل به ، وكذلك حالة الفداء : يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً ، لكنه لا يقبل .
ونظيره قوله تعالى : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال ، حتى في حالة صدقهم ، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها .
فلفظ : ولو ، هنا لتعميم النفي والتأكيد له .
وذهب الزجاج إلى أن المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا ، ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ، ولو افتدى أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه .
قال : فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب .
قال ابن عطية : وهذا قول حسن . انتهى .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأض ذهباً كان قد تصدّق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . انتهى .
وهذا معنى قول الزجاج ، إلاَّ أنه لم يقيد الافتداء بالآخرة .
وحكى صاحب ( ري الظمآن ) وغيره عن الزجاج أنه قال : معنى الآية : لو افتدى به في الدنيا مع إقامته على الكفر لن يقبل منه ، والذي يظهر أن انتفاء القبول ، ولو على سبيل الفدية ، إنما يكون ذلك في الآخرة .
وبينه ما ثبت في ( صحيح ) البخاري من حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يحاسب الكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد كنت سئلت أيسر من ذلك » وهذا الحديث يبين أن قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } هو على سبيل الفرض والتقدير أي : لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بذله ، لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله .
والمعنى : أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العذاب .
فهو نظير { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً } ونظير { يود المجرم لو يفتدى } الآيتين ، وعلى هذا يبعد ما قاله الزجاج من أن يكون المعنى : أنهم لو أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لم يقبل ذلك ، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة .
قيل : وهو بمعنى فعل ، كشوى واشتوى ، ومفعوله محذوف ، ويحتاج في تعدية افتدى إلى سماع من العرب ، والضمير في : به ، عائد على : ملء الأرض ، وهو : مقدار ما يملؤها ، ويوجد في بعض التفاسير أنه عائد على : الملء ، أو : على الذهب .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، لقوله : { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه } والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربت ضرب زيد ، تريد : مثل ضربه ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله .
ولا هيثم الليلة للمطي *** و : قضية ولا أبا حسن لها تريد : ولا هيثم ، و : لا مثل أبي حسن ، كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت : وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد .
ولا حاجة إلى تقدير : مثل ، في قوله { ولو افتدى به } وكان الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل الفرض ، والتقدير : إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملء الأرض ذهباً بحيث لو بذله على أي جهة بذله لم يقبل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يحتج إلى تقدير مثل ، لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في اللفظ ولا المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر .
وأما فيما مثل به من : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير : مثل ، إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة .
لا هيثم الليلة للمطي *** يدل على حذف : مثل ما تقرر في اللغة العربية أن : لا ، التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، لتبقى على ما تقرر فيها ، إذ تقرر أنها لا تعمل إلاَّ فى الجنس ، لأن العلمية تنافي عموم الجنس .
وأما قوله : كما أن يزاد في : مثلك لا يفعل كذا ، تريد ، أنت ، فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد ، ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا ، ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا .
{ أولئك لهم عذاب أليم } هذا إخبار ثان عمن مات وهو كافر ، لما بيَّن تعالى في الإخبار الأول أنه لا يقبل منه شيء حتى يخلص به نفسه ، بيَّن في هذا الإخبار ما له من العذاب الموصوف بالمبالغة في الآلام له ، إذ الافتداء ، وبذل الأموال إنما يكون لما يلحق المفتدي من الآلام حتى يبذل في الخلاص من ذلك أعز الأشياء .
كما قال : { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه } الآية ، وارتفاع : عذاب ، على أنه فاعل بالجار والمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد على أولئك ، لكونه خبراً عنه ويجوز ارتفاعه على الابتداء .
{ وما لهم من ناصرين } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وهذا إخبار ثالث لما بيَّن أنه لا خلاص له من العذاب ببذل المال ، بيَّن أيضاً أنه لا خلاص له منه بسبب النصرة ، واندرج فيها النصرة بالمغالبة ، والنصرة بالشفاعة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.