وقوله : { فَلَن يُقْبَلَ } قد تقدم أن عكرمة [ قرأ ] " نقبل " بالنون ، " ملءَ " بالنصب مفعولاً به ، وقرأ بضعهم : فلن يَقبل بالياء من تحت على بنائه للفاعل وهو الله تعالى ، و " ملءَ " بالنصب كما تقدم . وقرأ أبو جعفر وأبو السمَّال : " مِل الأرض " بطرح همزة " ملء " ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها ، وبعضُهم يُدْغم نحو هذا ، أي : لام " ملء " في لام " الأرض " بعروضِ التقائِهما .
والملءُ مقدارُ ما يملأ الوعاءَ ، والمَلْءُ بفتح الميم هو المصدر . يقال : " مَلأتُ القِرْبة أملؤها مَلْئاً " ، والمُلاءة المِلْحَفة بضم الميم والمد .
و " ذَهَبا " العامة على نصبه تمييزاً ، وقال الكسائي : " على إسقاط الخافض " وهذا كالأول ، لأنَّ التمييزَ مقدَّرٌ ب " مِنْ " واحتاجت " ملء " إلى تفسير لإِبهامها ، لأنها دالةٌ على مقدار . كالقَفِيز والصَّاع . وقرأ الأعمش " ذهبٌ " بالرفع ، قال الزمخشري : " رَدّاً على مِلْءُ " كما يقال : " عندي عشرون نفساً رجالٌ " يعني بالرد البدل ، ويكون بدلَ نكرة من معرفة ، قال الشيخ : " ولذلك ضَبَط الحُذَّاق قوله " لك الحمدُ ملءُّ السماوات " بالرفع ، على أنه نعتٌ للحمد ، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة " قلت : ولا يتعيَّنُ نصبُه على الحال حتى يلزَم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوبٌ على الظرف ، أي : إنَّ الحمد يقع مِلئاً للسماوات وللأرض .
قوله : { وَلَوِ افْتَدَى } الجمهورُ على ثبوتِ الواو وهي واو الحال ، قال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف موقعُ قولِه : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } ؟ قلت : هو كلامٌ محمولٌ على المعنى كأنه قيل : فَلَنْ يُقبل من أحدِهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرض " . انتهى . والذي ينبغي أن يُحْمل عليه أن الله تعالى أخبر أنَّ مَنْ ماتَ كافراً لا يُقْبل منه ما يَملأ الأرض من ذَهبٍ ، على كل حال يَقْصِدُها ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أنَّ حالة الافتداءِ حالةٌ لا يمتَنُّ فيها المفتدي على المفتدَى منه إذ هي حالةُ قهرٍ من المفتدَى منه للمفتدِي .
قال الشيخ : " وقد قَرَّرنا من نحوِ هذا التركيب أنَّ " لو " تأتي مَنْبَهَةً على أَنَّ ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يُظَّنُّ أنها لا تندَرجُ فيما قبلها ، كقوله عليه السلام : " اعطُوا السائل ولو جاء على فرس " و " رُدُّوا السائل ولو بِظِلْفٍ مُحْرَق " ، كأنَّ هذه الأشياء كان ممَّا ينبغي أن لا يُؤْتى بها ، لأنَّ كونَ السائلِ على فرسٍ يُشْعر بغناه فلا يناسبُ أَنْ يُعْطى ، وكذلك الظِّلْفُ المُحرَقُ لا غناءَ فيه ، فكان يناسِبُ ألاَّ يُرَدَّ به السائل " .
وقيل : الواو هنا زائدةٌ ، وقد يتأيَّد هذا بقراءة ابن أبي عبلة " لو افتدى به " دون واوٍ ، ومعناها أنه جُعِل الافتداءُ شرطاً في عدم القبول فلم يتَعمَّمْ نَفْيُ وجود القبولِ . و " لو " قيل : هي هنا شرطية بمعنى إنْ ، لا التي معناها لِما كان سيقع لوقوع غيره ، لأنها مُعَلَّقة بمستقبل ، وهو قوله : { فَلَن يُقْبَلَ } وتلك مُعَلَّقَةٌ بالماضي .
وافتدى : افْتَعَلَ من لفظِ الفِدْيَة وهو متعدٍّ لواحدٍ لأنه بمعنى فَدَى ، فيكونُ افْتَعَل فيه وفَعَل بمعنىً نحو : شَوَى واشتوى ، ومفعولُه محذوف تقديره : افتدَى نفسَه .
والهاءُ في " به " فيها أقوال ، أظهُرها : عودُها على " ملء " لأنه مقدارُ ما يملؤها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض .
والثاني : أن يعودَ على " ذهبا " قاله أبو البقاء ، قال الشيخ : " ويوجد في بعضِ التفاسير أنها تعود على المِلء أو على الذهب ، فقوله : " أو على الذهب " غلطٌ " قلت : كأن وجهَ الغلطِ فيه أنه ليس مُحَدَّثاً عنه ، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره فَضْلةً .
الثالث : أن يعود على " مثل " محذوفٍ ، قال الزمخشري : " ويجوز أَنْ يُرادَ " ولو افتدى بمثله " كقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [ المائدة : 36 ] والمِثلُ يُحذف في كلامهم كثيراً ، كقولك " ضَرَبْتُ ضربَ زيدٍ " تريد مثلَ ضربه ، أبو يوسف أو حنيفة " أي مثلُه ، و :
و " قضية ولا أبا حسنٍ لها " تريد : لا مثلَ هيثم ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد في قولهم : " مثلُك لا يفعل كذا " يريدون : أنت لا تفعل ، وذلك أن المثلين يَسُدُّ أحدهما مَسَدَّ الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد " . قال الشيخ : " و لا حاجةَ إلى تقدير " مثل " في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } ، وكأن الزمخشري تَخَيَّل أنَّ ما نُفِي أَنْ يُقْبَلَ لا يمكن أن يُفْتَدَى به فاحتاج إلى إضمار " مثل " حتى يُغايِرَ بين ما نُفِيَ قَبُوله وبين ما يُفْتَدَى به ، وليس كذلك ؛ لأن ذلك كما ذكرناه على سبيل الفَرَض والتقدير ، إذ لا يمكن عادةً أنَّ أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً ، بحيث إنه لو بَذَله على أي جهة بَذَله لم يُقْبَلْ منه ، بل لو كان ذلك مُمْكِناً لم يَحْتَجْ إلى تقدير " مثل " لأنه نُفِي قبولُه حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قَدَّر في الآية نظيرَ ما مَثَّل به ، لأَنَّ هذا التقدير لا يُحتاج إليه ولا معنى له ، ولا في اللفظ ولا في المعنى ما يدل عليه فلا يُقَدَّر ، وأما ما مَثَّل به من نحو : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف وأبو حنيفة " فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير " مثل " ، إذ ضربُك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذاتُ أبي يوسف يستحيل أن تكونَ ذات أبي حنيفة ، وأما " لا هيثم الليلة للمطي " فَدَلَّ على حذف " مثل " ما تقرَّر في اللغة العربية أن " لا " التي لنفي الجنس لا تدخُل على الأعلام فتؤثِّر فيها فاحتيج إلى إضمار " مثل " لتبقى على ما تقرَّر فيها إذ تقرَّر فيها أنها لا تعملُ إلا في الجنس ، لأن العَلَمية تنافي عمومَ الجنس ، وأما قوله " كما يُزاد في نحو : " مثلُك لا يفعل " تريد أنت " فهذا قولٌ قد قِيل [ به ] ، ولكن المختارَ عند حُذَّاق النحويين " أنَّ الأسماء لا تزاد " . قلت : وهذا الاعتراضُ على طولِه جوابُه ما قاله أبو القاسم في خطبة كشافة : " فاللغوي وإن عَلَكَ اللغة بِلَحْيَيْه والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه إلى آخره " .
قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يجوزُ أنْ يكونَ " لهم " خبراً لاسم الإِشارة ، و " عذابٌ " فاعلٌ به ، وعَمِل لاعتمادِه على ذي خبر ، أي : أولئك استقر لهم عذاب ، وأن يكونَ " لهم " خبراً مقدماً ، و " عذاب " مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ خبر عن اسم الإِشارة ، والأولُ أحسنُ ، لأنَّ الإِخبار بالمفرد أقربُ من الإِخبار بالجملة ، والأول من قَبيلِ الإِخبار بالمفرد .
قوله : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } يجوزُ أَنْ يكونَ " من ناصرين " فاعلاً ، وجاز عَمَل الجار لاعتماده على حرف النفي أي : وما استقر لهم من ناصرين . والثاني : أنه خبر مقدم و " من ناصرين " مبتدأ مؤخر ، و " مِنْ " مزيدةٌ على الإِعرابين لوجود الشرطين في زيادتها . وأتى بناصرين جمعاً لتوافِقَ الفواصلَ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.