الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (91)

وقوله : { فَلَن يُقْبَلَ } قد تقدم أن عكرمة [ قرأ ] " نقبل " بالنون ، " ملءَ " بالنصب مفعولاً به ، وقرأ بضعهم : فلن يَقبل بالياء من تحت على بنائه للفاعل وهو الله تعالى ، و " ملءَ " بالنصب كما تقدم . وقرأ أبو جعفر وأبو السمَّال : " مِل الأرض " بطرح همزة " ملء " ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها ، وبعضُهم يُدْغم نحو هذا ، أي : لام " ملء " في لام " الأرض " بعروضِ التقائِهما .

والملءُ مقدارُ ما يملأ الوعاءَ ، والمَلْءُ بفتح الميم هو المصدر . يقال : " مَلأتُ القِرْبة أملؤها مَلْئاً " ، والمُلاءة المِلْحَفة بضم الميم والمد .

و " ذَهَبا " العامة على نصبه تمييزاً ، وقال الكسائي : " على إسقاط الخافض " وهذا كالأول ، لأنَّ التمييزَ مقدَّرٌ ب " مِنْ " واحتاجت " ملء " إلى تفسير لإِبهامها ، لأنها دالةٌ على مقدار . كالقَفِيز والصَّاع . وقرأ الأعمش " ذهبٌ " بالرفع ، قال الزمخشري : " رَدّاً على مِلْءُ " كما يقال : " عندي عشرون نفساً رجالٌ " يعني بالرد البدل ، ويكون بدلَ نكرة من معرفة ، قال الشيخ : " ولذلك ضَبَط الحُذَّاق قوله " لك الحمدُ ملءُّ السماوات " بالرفع ، على أنه نعتٌ للحمد ، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة " قلت : ولا يتعيَّنُ نصبُه على الحال حتى يلزَم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوبٌ على الظرف ، أي : إنَّ الحمد يقع مِلئاً للسماوات وللأرض .

قوله : { وَلَوِ افْتَدَى } الجمهورُ على ثبوتِ الواو وهي واو الحال ، قال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف موقعُ قولِه : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } ؟ قلت : هو كلامٌ محمولٌ على المعنى كأنه قيل : فَلَنْ يُقبل من أحدِهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرض " . انتهى . والذي ينبغي أن يُحْمل عليه أن الله تعالى أخبر أنَّ مَنْ ماتَ كافراً لا يُقْبل منه ما يَملأ الأرض من ذَهبٍ ، على كل حال يَقْصِدُها ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أنَّ حالة الافتداءِ حالةٌ لا يمتَنُّ فيها المفتدي على المفتدَى منه إذ هي حالةُ قهرٍ من المفتدَى منه للمفتدِي .

قال الشيخ : " وقد قَرَّرنا من نحوِ هذا التركيب أنَّ " لو " تأتي مَنْبَهَةً على أَنَّ ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يُظَّنُّ أنها لا تندَرجُ فيما قبلها ، كقوله عليه السلام : " اعطُوا السائل ولو جاء على فرس " و " رُدُّوا السائل ولو بِظِلْفٍ مُحْرَق " ، كأنَّ هذه الأشياء كان ممَّا ينبغي أن لا يُؤْتى بها ، لأنَّ كونَ السائلِ على فرسٍ يُشْعر بغناه فلا يناسبُ أَنْ يُعْطى ، وكذلك الظِّلْفُ المُحرَقُ لا غناءَ فيه ، فكان يناسِبُ ألاَّ يُرَدَّ به السائل " .

وقيل : الواو هنا زائدةٌ ، وقد يتأيَّد هذا بقراءة ابن أبي عبلة " لو افتدى به " دون واوٍ ، ومعناها أنه جُعِل الافتداءُ شرطاً في عدم القبول فلم يتَعمَّمْ نَفْيُ وجود القبولِ . و " لو " قيل : هي هنا شرطية بمعنى إنْ ، لا التي معناها لِما كان سيقع لوقوع غيره ، لأنها مُعَلَّقة بمستقبل ، وهو قوله : { فَلَن يُقْبَلَ } وتلك مُعَلَّقَةٌ بالماضي .

وافتدى : افْتَعَلَ من لفظِ الفِدْيَة وهو متعدٍّ لواحدٍ لأنه بمعنى فَدَى ، فيكونُ افْتَعَل فيه وفَعَل بمعنىً نحو : شَوَى واشتوى ، ومفعولُه محذوف تقديره : افتدَى نفسَه .

والهاءُ في " به " فيها أقوال ، أظهُرها : عودُها على " ملء " لأنه مقدارُ ما يملؤها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض .

والثاني : أن يعودَ على " ذهبا " قاله أبو البقاء ، قال الشيخ : " ويوجد في بعضِ التفاسير أنها تعود على المِلء أو على الذهب ، فقوله : " أو على الذهب " غلطٌ " قلت : كأن وجهَ الغلطِ فيه أنه ليس مُحَدَّثاً عنه ، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره فَضْلةً .

الثالث : أن يعود على " مثل " محذوفٍ ، قال الزمخشري : " ويجوز أَنْ يُرادَ " ولو افتدى بمثله " كقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [ المائدة : 36 ] والمِثلُ يُحذف في كلامهم كثيراً ، كقولك " ضَرَبْتُ ضربَ زيدٍ " تريد مثلَ ضربه ، أبو يوسف أو حنيفة " أي مثلُه ، و :

لا هيثمَ الليلةَ للمَطيّ ***

و " قضية ولا أبا حسنٍ لها " تريد : لا مثلَ هيثم ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد في قولهم : " مثلُك لا يفعل كذا " يريدون : أنت لا تفعل ، وذلك أن المثلين يَسُدُّ أحدهما مَسَدَّ الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد " . قال الشيخ : " و لا حاجةَ إلى تقدير " مثل " في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } ، وكأن الزمخشري تَخَيَّل أنَّ ما نُفِي أَنْ يُقْبَلَ لا يمكن أن يُفْتَدَى به فاحتاج إلى إضمار " مثل " حتى يُغايِرَ بين ما نُفِيَ قَبُوله وبين ما يُفْتَدَى به ، وليس كذلك ؛ لأن ذلك كما ذكرناه على سبيل الفَرَض والتقدير ، إذ لا يمكن عادةً أنَّ أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً ، بحيث إنه لو بَذَله على أي جهة بَذَله لم يُقْبَلْ منه ، بل لو كان ذلك مُمْكِناً لم يَحْتَجْ إلى تقدير " مثل " لأنه نُفِي قبولُه حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قَدَّر في الآية نظيرَ ما مَثَّل به ، لأَنَّ هذا التقدير لا يُحتاج إليه ولا معنى له ، ولا في اللفظ ولا في المعنى ما يدل عليه فلا يُقَدَّر ، وأما ما مَثَّل به من نحو : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف وأبو حنيفة " فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير " مثل " ، إذ ضربُك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذاتُ أبي يوسف يستحيل أن تكونَ ذات أبي حنيفة ، وأما " لا هيثم الليلة للمطي " فَدَلَّ على حذف " مثل " ما تقرَّر في اللغة العربية أن " لا " التي لنفي الجنس لا تدخُل على الأعلام فتؤثِّر فيها فاحتيج إلى إضمار " مثل " لتبقى على ما تقرَّر فيها إذ تقرَّر فيها أنها لا تعملُ إلا في الجنس ، لأن العَلَمية تنافي عمومَ الجنس ، وأما قوله " كما يُزاد في نحو : " مثلُك لا يفعل " تريد أنت " فهذا قولٌ قد قِيل [ به ] ، ولكن المختارَ عند حُذَّاق النحويين " أنَّ الأسماء لا تزاد " . قلت : وهذا الاعتراضُ على طولِه جوابُه ما قاله أبو القاسم في خطبة كشافة : " فاللغوي وإن عَلَكَ اللغة بِلَحْيَيْه والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه إلى آخره " .

قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يجوزُ أنْ يكونَ " لهم " خبراً لاسم الإِشارة ، و " عذابٌ " فاعلٌ به ، وعَمِل لاعتمادِه على ذي خبر ، أي : أولئك استقر لهم عذاب ، وأن يكونَ " لهم " خبراً مقدماً ، و " عذاب " مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ خبر عن اسم الإِشارة ، والأولُ أحسنُ ، لأنَّ الإِخبار بالمفرد أقربُ من الإِخبار بالجملة ، والأول من قَبيلِ الإِخبار بالمفرد .

قوله : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } يجوزُ أَنْ يكونَ " من ناصرين " فاعلاً ، وجاز عَمَل الجار لاعتماده على حرف النفي أي : وما استقر لهم من ناصرين . والثاني : أنه خبر مقدم و " من ناصرين " مبتدأ مؤخر ، و " مِنْ " مزيدةٌ على الإِعرابين لوجود الشرطين في زيادتها . وأتى بناصرين جمعاً لتوافِقَ الفواصلَ .