روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (91)

{ إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أي على كفرهم . { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءالأرض } من مشرقها إلى مغربها { ذَهَبًا } نصب على التمييز ، وقرأ الأعمش ذهب بالرفع ، وخرج على البدلية من { مّلْء } أو عطف البيان ، أو الخبر لمحذوف ، وقيل عليه : إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة ، وجعله خبراً إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة ، أو حالاً ولا يخلو عن ضعف ، وملء الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه ، وأمل مَلء بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة .

وههنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر { إن } هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء ، في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهراً ؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على/ الموت عليه ؛ إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت ، بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال : من جاءني له درهم كان إقراراً بخلاف ما لو قرنه بالفاء كما هو معروف بين الفقهاء ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله :

إن التي ضربت بيتاً مهاجرة *** بكوفة الجند غالت دونها غول

وقد فصل ذلك في المعاني ؛ وقرىء فلن يقبل من أحدهم ملءالأرض على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب ملء ، وملءالأرض بتخفيف الهمزتين .

{ وَلَوِ افتدى بِهِ } قال ابن المنير في «الانتصاف » : إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطاً آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك : أكرم زيداً ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره أكرم زيداً لو أحسن ولو أساء إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى ؛ ومنه { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] فإن معناه والله تعالى أعلم لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيهاً على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب ، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه : { وَلَوِ افتدى بِهِ } يقتضي شرطاً آخر محذوفاً يكون هذا المذكور منبهاً عليه بطريق الأولى ، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم بملءالأرض ذهباً هي أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ، خاض المفسرون بتأويلها فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه ، حاصل الأول : أن عدم قبول ملءالأرض كناية عن عدم قبول فدية مّا لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل ، تصويراً للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف ، وفي الضمير يراد { مّلْء الأرض } على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى بملءالأرض ذهباً ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما ، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها ، وحاصل الثاني : أن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضاً كأنه قيل : لا يقبل ملءالأرض فدية ولو ضوعف ، ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع ، وتقدير مثل بعده أي مع مثله ، وحاصل الثالث : أنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقاً به ، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطاً محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه ملءالأرض ذهباً لو تصدق ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه وضمير { بِهِ } للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل

{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] ، وعندي درهم ونصفه انتهى ، ولا يخفى ما في ذلك من الخفاء والتكلف ، وقريب من ذلك ما قيل : إن الواو زائدة ، ويؤيد ذلك أنه قرىء في الشواذ بدونها وكذا القول : بأن { لَوْ } ليست وصلية بل شرطية ، والجواب ما بعد أو هو ساد مسده ، وذكر ابن المنير في الجواب مدعياً أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي ملءالأرض ذهباً تكون على أحوال ، تارة تؤخذ قهراً كأخد الدية ، وكرة يقول المفتدي : أنا أفدي نفسي بكذا ولا يفعل ، وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهي أن يفتدي بملءالأرض ذهباً افتداءاً محققاً بأن/ يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختياراً ، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله : أبذل المال وأقدر عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيهاً على أن ثم أحوالاً أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة ، وقوله تعالى : ( لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به ) مصرح بذلك ، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المُذَلَّق لا يقدرون على شيء ، ونظير هذا قولك : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليَّ في يدي انتهى ، وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلاً : إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه ؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن ( لو ) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنه لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة والسلام :

«أعطوا السائل ولو جاء على فرس » و «ردوا السائل ولو بظلف محرق » كأن هذه الأشياء مما لا ينبغي أن يؤتى بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به . وكذلك حال الافتداء يناسب أن يقبل منه ملءالأرض ذهباً لكنه لا يقبل ، ونظيره { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين } [ يوسف : 17 ] لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له . هذا وقد أخرج الشيخان وابن جرير واللفظ له عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملءالأرض ذهبا أكنت مفتدياً به ؟ فيقول : نعم فيقال : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءالأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ } .

{ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إسم الإشارة مبتدأ ، والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل ، ويجوز أن يكون { لَهُمْ } خبراً مقدماً ، و { عَذَابِ } مبتدأ مؤخراً ، والجملة خبر عن اسم الإشارة والأول أحسن ، وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط ؛لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرماً { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } في رفع العذاب أو تخفيفه ، و { مِنْ } مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزاد بعده سواء دخلت على مفرد أو جمع خلافاً لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد ، وصيغة الجمع لمراعاة الضمير ، وفيها توافق الفواصل ، والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد .