قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم ، فيحزنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا وقد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك عليهم وكثر شكوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } أي المناجاة ، { ثم يعودون لما نهوا عنه } أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ، { ويتناجون } قرأ الأعمش وحمزة : وينتجون ، على وزن يفتعلون ، وقرأ الآخرون يتناجون ، لقوله : { إذا تناجيتم فلا تتناجوا }( المجادلة :10 ) { بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ، وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان نهاهم عن النجوى فعصوه ، { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } ، وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، { ويقولون } السام عليك . والسام : الموت ، وهم يوهمونه أنهم يقولون : السلام عليك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول : عليكم ، فإذا خرجوا قالوا : { في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } يريدون : لو كان نبياً حقاً لعذبنا الله بما نقول ، قال الله عز وجل :{ حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أبو أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : ( أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : السام عليك ، قال : وعليكم ، فقالت عائشة : السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم ، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في ) .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ *( 8 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 ) } .
النجوى هي : التناجي بين اثنين فأكثر ، وقد تكون في الخير ، وتكون في الشر .
فأمر الله تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر ، وهو اسم جامع لكل خير وطاعة ، وقيام بحق لله ولعباده{[1010]} والتقوى ، وهي [ هنا ] : اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم ، فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي ، فلا تجده مناجيا ومتحدثا إلا بما يقربه من الله ، ويباعده من سخطه ، والفاجر يتهاون بأمر الله ، ويناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } أي : يسيئون الأدب معك في تحيتهم لك ، { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } أي : يسرون في أنفسهم{[1011]} ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم ، وهو قولهم : { لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك ، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم ، أن ما يقولون غير محذور ، قال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [ عليهم ] ، تحيط بهم ، ويعذبون بها { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
ثم عجَّب الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - من حال قوم يؤثرون الغي على الرشد ، ويُنصحون فلا يستجيبون للنصيحة ، ويُنهون عن الشرور فيأبون إلا الإنغماس فيها ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } .
قال الآلوسى : قال ابن عباس : نزلت فى اليهود والمنافقين ، كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، يوهمونهم عند أقاربه أنهم أصابهم شر ، فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم عن التناجي دون المؤمنين ، فعادوا لمثل فعلهم .
والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والهمزة للتعجب من حالهم ، وصيغة المضارع للدلالة على تكرار فعلهم ، وتجدده ، واستحضار صورته الغريبة .
والمعنى : إن شئت أن تعجب - أيها الرسول الكريم - فاعجب من حال هؤلاء اليهود والمنافقين الذين نهيتهم أنت عن التناجي فيما بينهم ، بما يقلق المؤمنين ويغيظهم . . ولكنهم لم يستجيبوا لنصحك ونهيك ، بل استمروا على تناجيهم بما هو إثم وعدوان ومعصية لك ، ولما جئتهم به من عند الله تعالى .
وعبر بقوله تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } للإشعار بأنهم قوم لا تؤثر فيهم النصائح وإنما هم يستمعون إليها ، ثم يهجرون العمل بها ، ويعودون إلى فجورهم وفسقهم .
ووصف تناجيهم بأنه كان مشتملا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول ، لا على الإثم فقط أو على العدوان فقط . . . لبيان أن تناجيهم مشتمل على كل أنواع السوء والفحشاء ، فهم يتناجون بكلام هو إثم وشر فى ذاته ، وبأقوال مشتملة على ظلم المؤمنين والاعتداء على دينهم وعلى أعراضهم ، وبأفعال هى معصية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم لم يستجيبوا لنهيه إياهم عن المناجاة بما يؤذي المؤمنين ويحزنهم . . . بل استمروا فى طغيانهم يعمهون .
والباء فى قوله : { بالإثم } للملابسة ، أى يتناجون متلبسين بالإثم وبالعدوان وبمعصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم من اليهود ، لم يكتفوا بتلك المناجاة القبيحة التى كانوا يديرونها فيما بينهم ، لإغاظة المؤمنين ، بل أضافوا إلى ذلك النطق أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكلام السيىء وبالعبارات التى تدل على سوء طويتهم ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } .
أى : وإذا جاء هؤلاء المنافقين واليهود إلى مجلسك - أيها الرسول الكريم - ألقوا إليك بتحية ، هذه التحية لم يأذن بها الله - تعالى - ولم يخاطبك بها .
وقد كان المافقون عندما يدخلون على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقولون له كلمة : " السلام عليكم " وهى تحية الإسلام ، إنما يقولون له : أنعم صباحا أو مساء . . . متجنبين النطق بتحية الإسلام ، ومستعملين تحية الجاهلية .
روى الشيخان عن عائشة : " أن ناسا من اليهود ، دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : السام أى : الموت عليك يا أبا القاسم ، فقال -صلى الله عليه وسلم- " وعليكم " .
قالت عائشة : وقلت : عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم . فقال - صلى الله عليه وسلم - يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - " أو ما سمعت قولي : " عليكم " فأنزل الله - تعالى - { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } " .
ثم بين - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } ، والمراد بأنفسهم هنا : أى فيما بينهم وفى مجامعهم ، أو فيما يبنهم وبين أنفسهم ، أي : إذا جاءك هؤلاء المنافقون ومن على شاكلتهم فى الضلال ، نطقوا أمامك بتحية لم يحيك بها الله - تعالى - ولا يكتفون بذلك ، بل يقولون فيما بينهم على سبيل التباهي والجحود للحق { لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } أي : هلا يعذبنا الله بسبب ما قلناه لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا من عنده - تعالى - أي : أنهم ينكرون نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأنها - فى زعمهم لو كانت حقا ، لعذبهم الله - تعالى - بسبب إساءتهم إليه ، وإعراضهم عن نهيه لهم .
وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يكبتهم ، وبما يسلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .
أي : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لمسالك هؤلاء المنافقين معك ومع أصحابك ، فإن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم ، كافيهم من العذاب جهنم يصلونها وياقسون حرها ، فبئس المصير جهنم لو كانوا يعلمون .