قوله تعالى : { يومئذ } ، يوم القيامة .
قوله تعالى : { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } . قرأ أهل المدينة ، وابن عامر { تسوى } بفتح التاء ، وتشديد السين على معنى تتسوى فأدغمت التاء الثانية في السين ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين ، على حذف تاء التفعل كقوله تعالى : { لا تكلم نفس إلا بإذنه } [ هود :11 ] وقرأ الأخرون : بضم التاء وتخفيف السين على المجهول : أي : لو سويت بهم الأرض ، وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً . قال قتادة وأبو عبيدة : يعني لو تخرقت الأرض فساخوا فيها وعادوا إليها كما خرجوا منها ، ثم تسوى بهم أي : عليهم الأرض ، وقيل : ودوا لو أنهم لم يبعثوا لأنهم إنما نقلوا من التراب ، وكانت الأرض مستويةً عليهم . وقال الكلبي : يقول الله عز وجل للبهائم ، والوحوش ، والسباع : كونوا تراباً ، فتسوى بهم الأرض ، فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان ترابا . ً كما قال الله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } [ النبأ :40 ] .
قوله تعالى : { ولا يكتمون الله حديثاً } . قال عطاء : ودوا لو تسوى بهم الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته ، وقال الآخرون : بل هو كلام مستأنف يعني : ولا يكتمون الله حديثاً لأن ما عملوا لا يخفى على الله ولا يقدرون على كتمانه . وقال الكلبي وجماعة : { ولا يكتمون الله حديثاً } لأن جوارحهم تشهد عليهم . قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : هات ما اختلف عليك ، قال : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } [ المؤمنون :101 ] { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } [ الطور :25 ] { ولا يكتمون الله حديثاً } وقال { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام :23 ] فقد كتموا ، وقال : { أم السماء بناها } إلى قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } وذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال : { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى قوله : { طائعين } . فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء ، وقال : { وكان الله غفوراً رحيماً } { وكان الله عزيزاً حكيماً } فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( فلا أنساب ) في النفخة الأولى . قال الله تعالى : { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } [ الزمر :68 ] فلا أنساب عند ذلك { ولا يتساءلون } ، ثم في النفخة الآخرة { أقبل بعضهم على بعض يتساءلون } ، وأما قوله : { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثاً } فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقل ، لم نكن مشركين ، فيختم على أفواههم ، وتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً ، وعنده { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } ، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء ، فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، ودحوها : أن أخرج منها الماء والمرعى . وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض في يومين ، فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين ، { وكان الله غفوراً رحيماً } أي : لم يزل كذلك ، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاهن من عند الله . وقال الحسن : أنها مواطن . ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همساً ، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون : ما كنا مشركين ، وما كنا نعمل من سوء ، وفي موضع يعترفون على أنفسهم وهو قوله : { فاعترفوا بذنبهم } وفي موضع ( لا يتساءلون ) ، وفي موطن يتسألون الرجعة ، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم ، وتتكلم جوارحهم ، وهو قوله تعالى : { ولا يكتمون الله حديثاً } .
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ لَوْ تُسَوّىَ بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يوم نجيء من كل أمة بشهيد ، ونجيء بك على أمتك يا محمد شهيدا ، { يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا } يقول : يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله ، لو تسوّى بهم الأرض .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز ومكة والمدينة : «لَوْ تَسّوّى بِهِمُ الأرْضُ » بتشديد السين والواو وفتح التاء ، بمعنى : لو تَتَسوّى بهم الأرض ، ثم أدغمت التاء الثانية في السين ، يراد به : أنهم يودّون لو صاروا ترابا ، فكانوا سواء هم والأرض . وقرأ آخرون ذلك : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » بفتح التاء وتخفيف السين ، وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة بالمعنى الأوّل ، غير أنهم تركوا تشديد السين ، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد . وقرأ ذلك آخرون : { لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ } بمعنى : لو سوّاهم الله والأرض ، فصاروا ترابا مثلها بتصييره إياهم ، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم . وكل هذه القراءات متقاربات المعنى ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابا إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك ، وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك فقد تمنى أن يكون ترابا . على أن الأمر وإن كان كذلك ، فأعجب القراءة إليّ في ذلك : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » بفتح التاء وتخفيف السين ، كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد ، وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله : { وَيَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا } فأخبر الله عنهم جلّ ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابا ، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا : يا ليتني كنت ترابا ، فكذلك قوله : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » فيسوّوا هم ، وهي أعجب إليّ ليوافق ذلك المعنى الذي أخبر عنهم بقوله : { يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا } .
وأما قوله : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } فإن أهل التأويل تأوّلوه ، بمعنى : ولا تكتم الله جوارحهم حديثا وإن جحدت ذلك أفواههم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو عن مطرف ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : أتى رجل ابن عباس ، فقال : سمعت الله يقول : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } وقال في آية أخرى : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } . فقال ابن عباس : أما قوله : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنجحد ، فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ! فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فلا يكتمون الله حديثا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أشياء تختلف عليّ في القرآن ؟ فقال : ما هو ؟ أشكّ في القرآن ؟ قال : ليس بالشك ، ولكنه اختلاف . قال : فهات ما اختلف عليك ! قال : أسمع الله يقول : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } وقال : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } وقد كتموا ! فقال ابن عباس : أما قوله : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره جحد المشركون ، فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، رجاء أن يغفر لهم ، فختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك { يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الزبير ، عن الضحاك : أن نافع ابن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس ، قول الله تبارك وتعالى : { يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } ، وقوله : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } ؟ فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : ألقى عليّ ابن عباس متشابه القرآن ، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فيقول المشركون إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحّده ، فيقولون : تعالوا نجحد ! فيسألهم ، فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، قال : فيختم على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم ، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سوّيت بهم ، ولا يكتمون الله حديثا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } يعني : أن تُسوّى الأرض بالجبال عليهم .
فتأويل الاَية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس : يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ ولَمْ يَكْتُمُوا اللّهَ حَدِيثا . كأنهم تمنوا أنهم سوّوا مع الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثا .
وقال آخرون : معنى ذلك يومئذ لا يكتمون الله حديثا ، ويودّون لو تسوّى بهم الأرض . وليس بمنكتم عن الله من شيء حديثهم ، لعلمه جلّ ذكره بجميع حديثهم وأمرهم ، فإنهم إن كتموه بألسنتهم فجحدوه ، لا يخفى عليه شيء منه .
قوله : { يومئذٍ يود الذين كفروا } الآية استئناف بياني ، لأنّ السامع يَتساءل عن الحالة المبهمة المدلولة لقوله : { كيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } ويتطلّب بيانها ، فجاءت هذه الجملة مبيّنة لبعض تلك الحالة العجيبة ، وهو حال الذين كفروا حين يرون بوارق الشرّ : من شهادة شهداء الأمم على مؤمنهم وكافرهم ، ويوقنون بأنّ المشهود عليهم بالكفر مأخوذون إلى العذاب ، فينالهم من الخوف ما يودّون منه لو تَسَّوى بهم الأرض
وجملة { لو تسوى بهم الأرض } بيان لجملة يودّ أي يودّون وُدَّا يبيّنه قوله : { لو تسوى بهم الأرض } ، ولكون مضمونها أفاد معنى الشيء المودود صارت الجملة الشرطية بمنزلة مفعول ( يودّ ) ، فصار فعلها بمنزلة المصدر ، وصارت لو بمنزلة حرف المصدر ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) .
وقوله : { تسوى } قرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد السين فهو مضارع تَسَوَّى الذي هو مطاوع سَوَّاه إذا جعله سَواءً لشيءٍ آخر ؛ أي مماثلا ، لأنّ السواء المثل فأدْغِمت إحدى التاءين في السين ؛ وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح التاء وتخفيف السين على معنى القرَاءة السابقة لكن بحذف إحدى التاءين للتخفيف ؛ وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب { تسوى } بضمّ التاء وتخفيف السين مبنيّا للمجهول ، أي تُمَاثَل .
والمماثلة المستفادة من التسوية تحتمل أن تكون مماثلة في الذات ، فيكون المعنى أنّهم يصيرون تُراباً مثل الأرض لظهور أن لا يقصد أن تصير الأرض ناسا ، فيكون المعنى على هذا هو معنى قوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } [ النبأ : 40 ] . وهذا تفسير الجمهور ، وعلى هذا فالكلام إطناب ، قصد من إطنابه سلوك طريقة الكناية عن صيرورتهم تراباً بالكناية المطلوب بها نِسبةٌ ، كقولهم : المجدُ بين ثوبيْه ، وقول زياد الأعجم :
إنَّ السَّماحةَ والمُرُوءَة والنَّدى *** في قُبَّة ضُربت على ابن الحشرج
أي أنّه سمح ذو مروءة كريم ؛ ويحتمل أن تكون مماثلة في المقدار ، فقيل : يودّون أنّهم لم يبعثوا وبَقُوا مستوين مع الأرض في بطنها ، وقيل : يودّون أن يُدفنوا حينئذ كما كانوا قبل البعث .
والأظهر عندي : أنّ المعنى التسويةُ في البروز والظهور ، أي أن ترتفع الأرض فتُسَوَّى في الارتفاع بأجسادهم ، فلا يظهروا ، وذلك كناية عن شدّة خوفهم وذلّهم ، فينقبضون ويتضاءلون حتّى يودّوا أن يصيروا غير ظَاهرين على الأرض ، كما وَصف أحدُ الأعراب يهجو قوماً من طَيّءٍ أنشده المبرّد في الكامل :
إذَا ما قيل أيُّهُمُ لأَي *** تَشَابَهَتْ المَنَاكِبُ والرُّؤُوسُ
وهذا أحسن في معنى الآية وأنسب بالكناية .
وجملة { ولا يكتمون الله حديثاً } يجوز أن تكون مستأنفة والواو عاطفة لها على جملة { يود } ؛ ويجوز أن تكون حالية ، أي يودّون لو تسوّى بهم الأرض في حال عدم كتمانهم ، فكأنّهم لمّا رأوا استشهاد الرسل ، ورأوا جزاء المشهود عليهم من الأمم السالفة ، ورأوا عاقبة كذب المرسَل إليهم حتّى احتيج إلى إشهاد رسلهم ، علموا أنّ النَّوبة مفضية إليهم ، وخامرهم أن يكتموا الله أمْرَهم إذا سألَهم الله ، ولم تساعدهم نفوسهم على الاعتراف بالصدق ، لِمَا رأوا من عواقب ثبوت الكفر ، من شدّة هلعهم ، فوقعوا بين المقتضي والمانع ، فتمنّوا أن يَخفَوْا ولا يظهروا حتّى لا يُسألوا فلا يضطرّوا إلى الاعتراف الموبِق ولا إلى الكتمان المهلك .