قوله : { يَوْمَئِذٍ } فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَعْمُولٌ ل { يَوَدُّ }{[7959]} أي : يَوَدُّ الذين كَفَروا يَوْمَ إذ جِئْنَا{[7960]} .
والثاني : أنه مَعْمُول ل { شَهِيداً } ، قاله أبو البَقَاء{[7961]} ؛ قال وعلى هذا يكُون " يود " صفة ل " يوم " ، والعائد مَحْذُوفٌ ، تقديره : فيه ، وقد ذكر ذلك في قوله : { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] ، وفيما قاله نظر .
والثَّالث : أن " يوم " مَبْنِيٌّ ، لإضافته إلى " إذْ " قاله الحُوفيّ ، قال : لأنَّ الظرف إذا أضيفَ إلى غير مُتَمكِّنٍ ، جَازَ بناؤهُ معه ، و " إذْ " هنا اسْمٌ ؛ لأن الظروف إذا أُضِيفَ إليها ، خَرَجَتْ إلى مَعْنَى الاسميَّة ، من أجل تَخْصِيص المُضَافِ إليْها ، كما تخَصّص الأسْمَاء مع استحقَاقِها الجرّ ، والجرُّ ليس من علامَاتِ الظُّروف ، والتَّنْويِن في " إذْ " تنوين عوض على الصَّحيح ، فقيل : عِوضٌ من الجُمْلَة الأولى ، في قوله : { جِئْنَا مِن كُلِّ } أي : يومئذٍ جِئْنَا من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ ، وجئنا بِكَ على هؤلاء شهيداً ، و " الرسول " على هذا اسْم جِنْسٍ ، وقيل : عِوَضٌ عن الجُمْلَة الأخيرةَ وهي { وَجِئْنَا بِكَ } ، ويكون المُراد ب " الرسول " : محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن النَّظْم وعَصَوْك ، ولكن أبرز ظاهراً بضفة الرِّسَالة تَنْوِيهاً بقدره وشرفِه .
وقوله : { وَعَصَوُاْ } فيه ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنها جُمْلَة معطوفة على { كَفَرُواْ } فتكون صِلَةً ، فيكونون جَامِعِين بين كُفْرٍ ومَعْصِيَة ؛ لأن العَطْفَ يقتضي المُغَايَرَة ، وإذا كان ذَلِكَ ، فَيُجْمل عصيان الرَّسُول على المعَاصِي المغايرَة للكُفْر ، وإذا ثبت ذلك ، فالآيَةُ دالَّة على أن الكُفَّار مخاطبُون بفُرُوع الإسلام{[7962]} .
وقيل : هي صِلَةٌ لموصول أخَر ، فيكون طَائِفَتَيْن ، وقيل : إنها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من { كَفَرُواْ } ، و " قد " مُرَادَة{[7963]} ، أي : وقد عَصَوا .
وقرأ يحيى وأبو السَّمال{[7964]} : " وعَصَوِا الرسول " بكسر الواوِ على الأصْلِ .
قوله : { لَوْ تُسَوَّى } إن قيل إن " لو " على بابها كما هو قَوْل الجُمْهُور ، فَمَفْعُول { يَوَدُّ } محذوفٌ ، أي : يودُّ الَّذِين كَفَرُوا تَسْوية الأرْض بهم ، ويدل عليه { لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } ، وجوابها حينئذٍ مَحْذُوف ، أي : لسُرُّوا بذلك{[7965]} .
وإن قيل : إنها مصدريَّة ، كانت وهي وما بَعْدَها في محلّ مَفْعُول { يَوَدُّ } ، ولا جواب لها حينئذ ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ البقرة : 96 ] .
قال أبو البقاءِ{[7966]} : " وعصوا الرسول " في موضع الحالِ ، و " قد " مُرَادةٌ ، وهي معْتَرِضَة بين " يود " وبين مَفْعُولها ، وهي " لو تسوى " و " لو " بمعنى المصدريَّة انتهى .
وفي جَعْلِ الجملة الحَاليَّة معترضة بين المَفْعُول وعامِله نَظَرٌ لا يَخْفَى ؛ لأنها من جُمْلَة متعلِّقَات العامِل الذي هو صِلَة للمَوْصُول ؛ وهذا نظير قولك : ضَرَب الذين جَاءُوا مُسْرِعين زَيْداً ، فكما لا يُقال : إن مُسْرِعين مُعْتَرض به ، فكذلك هذه الجملة .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم{[7967]} : تُسَوَّى [ بضم التَّاءِ ، وتخفيف السِّين مبنياً للمفعُول ، وقرأ حمزة{[7968]} والكِسائي : " تَسَوَّى " ]{[7969]} بفتح التَّاء والتَّخفيف ، ونافع وابن عامر : بالتَّثْقِيل{[7970]} .
فأما القراءة الأولَى ، فمعناها : أنَّهم يودُّون أن الله - سبحانه وتعالى - يُسَوِّي بهم الأرض : إمّا على أن الأرْض تَنْشَقُّ وتبتلِعُهم{[7971]} ، وتكون البَاءُ بمعنى " عَلَى " ، وإما على أنَّهُم يودُّون أن لو صارُوا تُرَاباً كالبَهَائِمِ ، والأصْل يودُّون أن الله - تعالى - يُسَوِّي بهم{[7972]} الأرض ، فَقُلِبَت إلى هَذَا ؛ كقولهم : أدْخَلْتُ القََلُنْسُوَة في رَأسِي ، وإمّا على أنَّهم يودُّون لو يُدْفَنُون فيها ، وهو كالقَوْلِ الأوَّل . وقيل : لو تُعْدَلُ بهم الأرْضُ ، أي : يُؤْخَذ ما عَلَيْها منهم فِدْيَة .
وأما القِرَاءة الثانية : فأصلها " تتسوى " [ بتاءَيْن ]{[7973]} ، فحذفت إحداهما ، وأدغمت في السّين لقربها منها .
وفي الثَّالِثَة حذفت إحداهما ، ومعنى القراءتين ظاهرٌ ممَّا تقدَّم ؛ فإن الأقوال الجاريةَ في القراءة الأولَى ، جاريةٌ في القراءتين الأخيرتَيْن غاية{[7974]} ما في البَابِ أنه نَسَب{[7975]} الفِعْل إلى الأرْض ظاهراً .
قوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّه } : فيه ستة أوْجُه{[7976]} : وذلك أن هذه الواو تَحْتَمِل أن تكون لِلعَطْف ، وأن تكون للحالِ .
فإن كانت للعَطْف ، احْتمل أن تكُون من عطف{[7977]} المفرداتِ ، [ وأن تكون من عطف الجُمَلِ ، إذا تقرر هذا ] ، فقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّه } يجوزُ أن يكون عَطْفاً{[7978]} على مَفْعُول { يَوَد } أي : يودُّون تسوية الأرْضِ بهم ، وانتفاء كتمان الحديث ، و " لو " على هذا مَصدريَّة ، ويبعد جَعْلُها حرفاً لما كان سيَقَع لوُقُوع غَيْرِه ، ويكون و " لا يكتمون " عطفاً على مَفعُول " يود " المحذُوف ، فهذان وَجْهَان{[7979]} على تقدِير كَوِنِه من عطف المفردات .
ويجوز أن يكون عَطْفاً على جُمْلة " يود " أخبر - تعالى - عنهم بخبرين :
والثاني : أنهم{[7980]} لا يقدرُون على الكَتْمِ في مواطِنِ دون [ مَوَاطِن ]{[7981]} ، و " لو " على هذا مَصدريَّة ، ويجوز أن تكون [ لو ]{[7982]} حرْفاً لما سيقع لوقُوع غيره ، وجوابُهَا مَحْذُوف ، ومفعول " يود " أيضاً مَحْذُوف ، ويكون " ولا يكتمون " عطفاً على " يود " وما في حيزها ، ويكون - تعالى - قد أخبر عَنْهُم بثلاثِ{[7983]} [ جمل ]{[7984]} : الوَدَادَة ، وجُمْلَة الشرط ب " لو " ، وانتفاء الكِتْمَان ، فهذان أيضاً وَجْهَان على تقدير كونِه من عطفة الجُمَل ، وإن كانت للحالِ ، جاز أن تكُون حالاً من الضمير في " بهم " ، والعامِل فيها " تسوى " ، ويجوز في " لو " حينئذٍ أن تكون{[7985]} مصدريَّة ، وأن تكون امتناعيَّة ، والتقدير : يُريدُون تَسْوِيَة الأرْض بهم غير كَاتِمين ، أو لَوْ تُسَوَّى بهم غير كَاتِمين لكان ذلك بُغْيَتهم{[7986]} ، ويجوز أن تكون حالاً من " الذين كفروا " ، والعامِل فيها " يود " ويكون الحالُ قيداً{[7987]} في الوَدَادَةِ ، و " لو " على هذا مصدريَّة في [ محل ]{[7988]} مفعُول الوَدَادَة ، والمعْنَى [ يومئذٍ ]{[7989]} يَودُّ الذين كفرُوا تسوية الأرْض بهم غَير كاتمين الله حَديثاً ، ويَبْعد أن تكون " لو " على هذا الوجه امتناعِيَّة ، للزوم الفَصْل بين الحَالِ وعامِلِها بالجُمْلَة ، و " يكتمون " يتعدى لاثْنَيْن ، والظَّاهِر أنه يَصِل إلى أحدهما بالحَرْف ، والأصل : ولا يكتُمون من اللَّه حديثاً .
قال عَطَاء{[7990]} : وَدُّوا لَوْ تُسوَّى بهم الأرْضُ ، وأنهم لم يكُونوا كتمُوا أمر مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولا نعته ، وقال آخرُون : بل هو كلامٌ مُسْتأنَف ، يعني : ولا يكتُمون اللَّه حديثاً ؛ لأن جَوَارحَهُم تَشْهَد عليهم .
قال سعيد بن جُبَيْر : قال رَجُل لابن عبَّاس : إني أجد في القُرْآن أشياء تختلفُ عليّ ، قال : هَاتِ ما اخْتَلَفَ عليك ، قال : قال تعالى : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ }
[ المؤمنون : 101 ] { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] وقال : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } ، و { قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقد كتمُوا ، وقال : { أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } إلى قوله :{ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }{[7991]} [ النازعات : 30 ] ، فذكر خَلْق السَّماء قبل خلق الأرْضِ ، ثم قال { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ }
[ فصلت : 9 ] إلى " طائِعين " . فذكر في هذه الآية خَلْق الأرض قبل خَلْق السَّماء ، وقال : " وكان الله غفوراً رحيماً " و " عزيزاً حكيماً " فكأنه{[7992]} كان ثم مَضَى .
فقال ابن عباس : فلا أنْسَابَ بَيْنَهم في النَّفْخَة الأولى ، وقال - تعالى - : " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض [ إلا من شاء الله ]{[7993]} " فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءَلُون ، ثم في النَّفْخَة الأخيرَة أقْبَل بعضهم على بَعْض يتساءَلُون .
وأما في قوله : ما كنا مشركين و { لا يكتمون الله حديثا } فإن الله يَغْفِر لأهْل الإخْلاَص ذُنُوبهم فيقول{[7994]} المُشْرِكُون : تعَالَوْا نقل : ما كُنا مُشركين ، فيختم{[7995]} على أفواههم ، وتنطقُ أيديهم وأرْجُلهم ، فَعِنْدَ ذلك عَرَفُوا أنَّ الله لا يَكْتُم حَديثاً ، وعنده " يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض " .
وخلق الله الأرْضَ في يومين ثم خلق السَّماء ، ثم اسْتَوَى إلى السَّمَاء فَسَوَّاهُن في يومَيْن آخرَيْن ، ثم دَحَى الأرض ، وَدَحْيُها أن أخْرَج منها المَاءَ والمَرْعَى ، وخلق الجِبَال والآكَامَ ، وما بينهُمَا في يومين آخريْن ؛ فقال " خلق الأرض في يومين [ ثم دَحَى الأرض في يومين ؛ فخلقت الأرْضُ وما فيها من شيء في أربعةِ أيام ، وخلقت السماوات في يومين ]{[7996]} { وكان الله غفوراً رحيماً } أي : لم يَزَلْ كَذَلِك ، فلا يختلف عليك القُرَآن ؛ فإن كُلاًّ من عِنْد الله " {[7997]} .
وقال الحسن : إنها مواطِنٌ : ففي مَوْطن لا يتكلَّمُون ، ولا تَسْمَع إلا هَمْساً ، وفي موطنٍ [ يعترفون على أنفسهم فهو قوله : { فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ }{[7998]} [ الملك : 11 ] ، و [ في موطن يتكلمون ويكذبون ، ويقولون : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، و{ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ }{[7999]} ] [ النحل : 28 ] ، وفي مواطن لا يتساءَلُون الرّجعة ، [ وفي مَوْطِن يتساءلُون الرجْعَة ]{[8000]} وآخر تلك المَوَاطِن ، أن يُخْتَمَ على أفْوَاهِهم ، وتتكلَّم جوارحُهم ، وهو قوله : { ولا يكتمون الله حديثاً } .
وقال آخرون : [ قولهم ]{[8001]} : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } أي : على حَسَبِ ما توهَّمنا في أنْفُسِنَا ، بل كُنَّا مُصيبين في ظُنُونِنَا حتى تَحقَّقنا الآن .