معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } الآية نزلت في مقيس بن صبابة الكندي ، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام ، فوجد أخاه هشام قتيلاً في بني النجار ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلاً من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام ابن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه ، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا : سمعاً وطاعة لله ولرسوله ، والله ما نعلم له قاتلاً ، ولكنا نؤدي ديته ، فأعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيساً فوسوس إليه ، فقال : تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة ، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية ، فتغفل الفهري ، فرماه بصخرة فقتله ، ثم ركب بعيراً وساق بقيتها راجعاً إلى مكة كافراً ، فنزل فيه ، { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } . قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالداً فيها } ، بكفره وارتداده ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، عمن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .

قوله تعالى : { وغضب الله عليه ولعنه } أي : طرده عن الرحمة .

قوله تعالى : { وأعد له عذاباً عظيماً } . اختلفوا في حكم هذه الآية . فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له ، فقيل له : أليس قد قال الله في سورة الفرقان : { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } إلى أن قال { ومن يفعل ذلك يلق أثاما*يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا*إلا من تاب } [ الفرقان : 67-70 ] فقال : كانت هذه في الجاهلية ، وذلك أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلا من تاب وآمن } فهذه لأولئك .

وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ، ثم قتل مسلما متعمدا فجزاؤه جهنم . وقال زيد بن ثابت : لما نزلت التي في الفرقان { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } عجبنا من لينها ، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة ، فنسخت اللينة ، وأراد بالغليظة هذه الآية ، وباللينة آية الفرقان . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تلك آية مكية ، وهذه مدنية . نزلت ولم ينسخها شيء .

والذي عليه الأكثرون ، وهو مذهب أهل السنة : أن قاتل المسلم عمداً توبته مقبولة . لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [ طه :82 ] وقال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء :48 ] وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل ، كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم جاء يقال : لك توبة ، ويروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما .

وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر ، لأن الآية نزلت في قاتل هو كافر ، وهو مقيس بن صبابة ، وقيل : إنه وعيد لمن قتل مؤمناً مستحلاً لقتله بسبب إيمانه ، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافراً مخلداً في النار ، وقيل في قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالداً فيها } معناه : هي جزاؤه إن جازاه ، ولكنه إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له بكرمه ، فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء .

حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له : هل يخلف الله وعده ؟ فقال :لا ، فقال : أليس قد قال الله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها } ؟ فقال له أبو عمرو بن العلاء : من العجم أتيت يا أبا عثمان ؟أن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفاً وذماً ، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفاً وذماً ، وأنشد :

وإني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ، ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة } .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمن ، أنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه -وكان شهد بدراً وهو أحد النقباء ليلة العقبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ) . فبايعناه على ذلك .

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الآية ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك ، وكان من أهل فدك مسلماً لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم ، وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي ، فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين ، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً ، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقتلتموه إرادة ما معه ؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد ، فقال : يا رسول الله استغفر لي ، فقال : فكيف بلا إله إلا الله ؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات . قال أسامة : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : أعتق رقبة . وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنما قال خوفاً من السلاح ، قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا ؟

وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له ، فسلم عليهم ، قالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم ، فقاموا وقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله ، مريدا إتلاف نفسه ، { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } يقول : فثوابه من قتله إياه جهنم ، يعني : عذاب جهنم ، { خَالدا فيها } يعني : باقيا فيها . والهاء والألف في قوله : «فيها » من ذكر جهنم . { وَغَضبَ اللّهِ عَلَيْهِ } يقول : وغضب الله بقتله إياه متعمدا ، { وَلَعَنَهُ } يقول : وأبعده من رحمته وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما ، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره .

واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحقّ صاحبه أن يسمّى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحدّ حديد يجرح بحدّه ، أو يَبْضَع ويقطع ، فلم يقلع عنه ضربا به ، حتى أتلف نفسه ، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله . ثم اختلفوا فيما عدا ذلك ، فقال بعضهم : لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : العمد : السلاح أو قال : الحديد قال : وقال سعيد بن المسيب : هو السلاح .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وما كان بدون حديدة فهو شبه العمد ، لا قود فيه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وشبه العمد : ما كان بخشبة ، وشبه العمد لا يكون إلا في النفس .

حدثني أحمد بن حماد الدولابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، قال : من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بالعصيّ فهو خطأ ديته دية الخطأ ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ومغيرة ، عن الحارث وأصحابه في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضا حتى يموت ، قال : أسأل الشهود أنه ضربه ، فلم يزل مريضا من ضربته حتى مات ، فإن كان بسلاح فهو قود ، وإن كان بغير ذلك فهو شبه العمد .

وقال آخرون : كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد ، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة عن عبيد بن عمير ، أنه قال : وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن إبراهيم ، قال : إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود .

وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ ، ما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي عازب ، عن النعمان بن بشير ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كُلّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلاّ السّيْفَ ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ » .

وعلة من قال : حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد ، ما :

حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين ، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقتله بين حجرين .

قالوا : فأقاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد . قالوا : وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به ، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه ، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء¹ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : فجزاؤه جهنم إن جازاه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : هو جزاؤه ، وإن شاء تجاوز عنه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن يسار ، عن أبي صالح : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : جزاؤه جهنم إن جازاه .

وقال آخرون : عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم ، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا¹ قالوا : فمعنى الاَية : ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاّ قتله ، فجزاؤه جهنم خالدا فيها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة ، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الدية قبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله . قال ابن جريج وقال غيره : ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار ، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا ، فضرب به الأرض ، ورضخ رأسه بين حجرين ، ثم أُلفي يتغنى :

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرا وَحَمّلْتُ عَقْلَهُ ***سَرَاةَ بني النّجّار أرْبابِ فارعِ

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أظُنّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا ، أمَا وَاللّهِ لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمّنُهُ فِي حِلّ وَلا حَرَمٍ ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ » فقتل يوم الفتح¹ قال ابن جريج : وفيه نزلت هذه الاَية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية .

وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من تاب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد ، فقال : إلا من ندم .

وقال آخرون : ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل ، على ما وصفه في كتابه ، ولم يجعل له توبة من فعله . قالوا : فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار ، ولا توبة له . وقالوا : نزلت هذه الاَية بعد التي في سورة الفرقان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن يحيى الجاري ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأني له التوبة والهدي ، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : «ثَكِلَتْهُ أُمّهُ ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمّدا ، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما ، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرّحْمَنِ ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى يقولُ : سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَتَنِي » . والذي نفسي عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاَية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدهما من برهان .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن عمرو بن قيس ، عن يحيى بن الحارث التيمي ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحا ؟ فقال : وأنّى له التوبة ! .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا همام عن يحيى ، عن رجل ، عن سالم ، قال كنت جالسا مع ابن عباس ، فسأله رجل فقال : أرأيت رجلاً قتل مؤمنا متعمدا أين منزله ؟ قال : جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنّي له الهدى ثكلته أمه ! والذي نفسي بيده لسمعته يقول يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ مُعَلّقا رأسُهُ باحْدَى يَدَيْهِ ، إمّا بِيَمِينِهِ أوْ بِشِمَالِهِ ، آخِذا صَاحِبَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ حِيالَ عَرْضِ الرّحْمَنِ يَقُولُ : يا رَبّ سَلْ عَبْدَكَ هَذَا عَلامَ قَتَلَنِي ؟ » فما جاء نبيّ بعد نبيكم ، ولا نزل كتاب بعد كتابكم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا عمان بن زريق ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فوالله لقد أنزلت على نبيكم ثم ما نسخها شيء ، ولقد سمعته يقول : { وَيْلٌ لِقاتِلِ المُؤْمِنِ ، يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَة آخِذا رأسَهُ بِيَدِهِ ثم ذكر الحديث نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أي عديّ ، عن سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي عبد الرحمن بن أبزي : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } فقال : لم ينسخها شيء . وقال في هذه الاَية : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } قال : نزلت في أهل الشرك .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين ، فذكر نحوه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو حُدثت عن سعيد بن جبير ، أن عبد الرحمن بن أبزي أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين التي في النساء : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } . . . . إلى آخر الاَية ، والتي في الفرقان : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } . . . إلى : { وَيخْلُدْ فِيهِ مُهانا } قال ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له . وأما التي في الفرقان ، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ وأتينا الفواحش ، فما ينفعنا الإسلام ؟ قال : فنزلت { إلاّ مَنْ تابَ } . . . الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : ما نسخها شيء .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي من آخر ما نزلت ما نسخها شيء .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فدخلت إلى ابن عباس فسألته ، فقال : لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن وما نسخها شيء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة ، قال : أخبرني شهر بن حوشب ، قال : سمعت ابن عباس يقول : نزلت هذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّم } بعد قوله : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا } بسنة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرّة ، عن ابن عباس ، قال : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : نزلت بعد : { إلاّ مَنْ تَابَ } بسنة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس ، قال : ثني من سمع ابن عباس يقول : في قاتل المؤمن نزلت بعد ذلك بسنة ، فقلت لأبي إياس : من أخبرك ؟ فقال : شهر بن حوشب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي حصين ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } قال : ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني عمي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية ، قال عطية : وسئل عنها ابن عباس ، فزعم أنها نزلت بعد الاَية التي في سورة الفرقان بثمان سنين ، وهو قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى قوله : { غَفُورا رَحِيما } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مطرف ، عن أبي السفر ، عن ناجية ، عن ابن عباس ، قال : هما المبهمتان : الشرك ، والقتل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله وقتل النفس التي حرّم الله¹ لأن الله سبحانه يقول : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه الكوفيين ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ابن مسعود في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إنها لمحكمة ، وما تزداد إلا شدة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثني هياج بن بسطام ، عن محمد بن عمرو ، عن موسى بن عقبة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر .

حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، قا : قال ابن عباس : يأتي المقتول يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دما ، يقول : يا ربّ دمي عند فلان ! فيؤخذان فيسندان إلى العرش ، فما أدري ما يقضي بينهما . ثم نزع بهذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } . . . الاَية . قال ابن عباس : والذي نفسي بيده ما نسخها الله جلّ وعزّ منذ أنزلها على نبيكم عليه الصلاة والسلام .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت ، عن زيد بن ثابت ، قال : سمعت أباك يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة بسنة أشهر ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . إلى آخر الاَية ، بعد قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد ، قال : سمعت أباك في هذا المكان بمني يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة ، قال : أراه بستة أشهر ، يعني : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } بعد : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : ما نسخها شيء منذ نزلت ، وليس له توبة .

قال أبو جعفر : وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه إنْ جزاه جهنم خالدا فيها ، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله ، فلا يجازيهم بالخلود فيها ، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار ، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا } .

فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الاَية ، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه ، لأن الشرك من الذنوب ، فإن الله عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } والقتل دون الشرك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

«المتعمد » في لغة العرب القاصد إلى الشيء ، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه ،

وقالت فرقة : «المتعمد » كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور وهو الأصح ، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد ، ورأوا فيه تغليظ الدية ، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء ، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمداً وخطأ لا غير ، والقتل بالسم عنده عمد ، وإن قال ما أردت إلا سكره ، وقوله :

{ فجزاؤه جهنم } تقديره عند أهل السنة ، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره ، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[4201]} وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يرد نزلت { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء 48-116 ] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتماً على كل قاتل يقتل مؤمناً ، ويرونه عموماً ماضياً لوجهه ، مخصصاً للعموم في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 و 116 ] كأنه قال : إلا من قتل عمداً{[4202]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وأهل الحق يقولون لهم : هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين ، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقرأ بالقتل عمداً ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قوداً ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعاً متركباً . على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت ، ( أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له ){[4203]} ، وهذا نقض للعموم ، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم ، بل لفظ مشترك يقع كثيراً للخصوص ، كقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }{[4204]} وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه ، وكقول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] : [ الطويل ]

وَمَنْ لا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ *** يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ{[4205]}

وهذا إنما معناه الخصوص ، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم ، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب ، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه ، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان ، ومراده باللينة قوله تعالى : { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }{[4206]} ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال : أنزلت الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 -116 ] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص ، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن ، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن صبابة{[4207]} ، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتداً ، وجعل ينشد : [ الطويل ]

قَتَلْتُ بِهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ . . . سراةَ بني النَّجَّارِ أربابَ فَارِعِ

حَللْتُ بِهِ وِتْرِي وأدْرَكْتُ ثورتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجِعِ{[4208]}

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا في حرم » وأمر بقتله يوم فتح مكة ، وهو متعلق بالكعبة ، وإما{[4209]} أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال { متعمداً } معناه مستحلاً لقتله . فهذا يؤول أيضاً إلى الكفر ، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل ، فجزاؤه_إن جازاه_ ويكون قوله { خالداً } إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك ، ويدل على هذا سقوط قوله «أبداً » فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار .

واختلف العلماء في قبول توبة القاتل ، فجماعة على أن لا تقبل توبته ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر ، وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل مبهمان{[4210]} ، من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان ، إذ الفرقان مكية{[4211]} والجمهور على قبول توبته ، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحياناً ، فيطلقون : لا تقبل توبة القاتل ، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له : توبتك مقبولة ، وإذا سأله من لم يفعل ، قال له : لا توبة للقاتل ، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلاً سأله أللقاتل توبة ؟ فقال له : لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم ، فلما مضى السائل قال له أصحابه : ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة ، فقال لهم : إني رأيته مغضباً وأظنه يريد أن يقتل ، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه ، فإذا هو كذلك . وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 - 116 ] وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر ، فإنهما قالا : هي محكمة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفيما قاله هبة الله نظر ، لأنه موضع عموم وتخصيص ، لا موضع نسخ ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل ، والله أعلم .


[4201]:- من الآية (116) من سورة (النساء).
[4202]:- أهل السنة يؤولون قوله تعالى: {فجزاؤه جهم} بأن هذا هو الجزاء إذا جازاه الله، وإذا لم يجازه الله فلا تنطبق عليه الآية- أما المعتزلة فيرون أن هذه الآية عامة وماضية، على معنى أنه لا بد من الجزاء، وهذا العموم نفسه يخصص العموم في قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك}، وكأن المعنى والله أعلم-على حسب كلامهم-: ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل مؤمنا متعمدا، فآية المغفرة ليست عامة، وآية الجزاء على قتل المؤمن عمدا عامة وليست خاصة. وعبارة المؤلف تحتاج إلى دقة حتى تفهم على وجهها الذي يريده توضيحا لمذهب المعتزلة، وابن عطية على مذهب أهل السنة، ولذلك رد على المعتزلة بعد ذلك بقوله: "أهل الحق يقولون لهم: إلخ"- مما ينفي عنه شبهة الاعتزال التي رماه بها بعض المحدثين وتأمل مناقشته لهم بالحجة القوية.
[4203]:- روى البخاري أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) فبايعناه على ذلك.
[4204]:- من الآية (44) من سورة (المائدة).
[4205]:- الشاعر هو زهير بن أبي سلمى، والبيت من معلقته المشهورة التي يقول في مطلعها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدرّاج فالمتثلّم =ومعنى يذد: يدفع، وقوله: "ومن لا يظلم الناس يظلم" معناه: من كف عن الناس ظلموه وركبوه. وقد روي: "ومن لم يذد".
[4206]:- من قوله تعالى في الآية (68) من سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما}.
[4207]:- كذا في الأصول، وفي "البحر المحيط"- وفي القاموس وشرحه: حبابة، وفي الطبري والعسقلاني والدر المنثور: ضبابة، وهو كناني.
[4208]:- العقل: دية القتيل، وسراة القوم: أشرافهم، وبنو النجار: هم أخوال النبي الذين نزل عليهم بالمدينة عند هجرته، وهم الذين دفعوا الدية في هذا الخبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يطلب دية هشام بن صبابة فقالوا: والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نؤدي الدية، فأعطوا مقيس هذا مائة من الإبل، وأرباب: أصحاب، وفارع: حصن حسان ابن ثابت بالمدينة، وقد روي الشطر الأول من البيت الثاني: وأدركت ثأري واضطجعت موسدا ........................
[4209]:- قوله: "وإما أن يكون على ما حكي..." هو المقابل لقوله قبل ذلك: "إما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن صبابة".
[4210]:- أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (الدر المنثور).
[4211]:- أخرجه مع اختلاف يسير في بعض الكلمات وفي الترتيب- ابن جرير، والنحاس، والطبراني عن سعيد بن جبير. (الدر المنثور)
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل ، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس ، وإنّما أخّر لتهويل أمره ، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } [ النساء : 92 ] .

والمتعمّد : القاصد للقتل ، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب . والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس ، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء . ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء : القتل نوعان عمد وخطأ ، وهو الجاري على وفق الآية ، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد ، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية ، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه . وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة{[217]} وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار ، ولم يُعرف قاتله ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل ، دية أخيه ، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله ، واستاق الإبل ، وانصرف إلى مكة كافراً ، وأنشد في شأن أخيه :

قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَــه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع{[218]}

حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أوّلَ راجع

وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة ، فقتِل بسوق مكة .

وقوله : { خالداً فيها } مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً ، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله ، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر ، على قول علمائنا من أهل السنّة ، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث ، وهو استعمال عربي . قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :

ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضِ عامِرا

ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر ، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة .

وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً ، كما تَرِد على غيرها من الكبائر ، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية : فروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس : أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة ، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به ، أخذاً بهذه الآية ، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال : آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس ، فسألتُه عنها ، فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية .

هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء ، فلم يأخذ بطريق التأويل . وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس : فحمله جماعة على ظاهره ، وقالوا : إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل ، فقد نَسخَت الآياتِ التي قبلها ، التي تقتضي عموم التوبة ، مثل قوله : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 116 ] ، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله { واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، ومثل قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 68 ، 69 ] . والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره ، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة . فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه ، وهو طولُ المدّة في العقاب ، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد ، وكيف يُحرم من قبول التوبة ، والتوبةُ من الكفر ، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة ، فكيف بما هو دونه من الذنوب .

وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر ، لئلاّ يجترىء الناس على قتل النفس عمداً ، ويرجون التوبة ، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال : « ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة » فقال : « لاَ إلاّ النار » ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه « أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة » فقال : « إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً » ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك . وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له : « توبتُك مقبولة » وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس ، قال له : لا توبةَ للقاتل .

وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد : من محامِل التأويل ، أو الجمععِ بين المتعارضات ، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان ( 68 ، 69 ) :

{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلاّ من تاب } لأنّ قوله : ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها . ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء . ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة . وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، بناء على أنّ عموم { من يشاء } نَسَخ خصوصَ القتل . وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسٍ بن صُبابة ، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ « من » شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه . وهذه كلّها ملاجىء لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر . على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود . إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض . وهو الوعيد ، لا أنواعه . وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة . وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه .


[217]:مقيس بميم مكسورة وقاف وتحتية بوزن منبر . وصبابة بصاد مهملة وبائين موحدتين قيل هو اسن أمه.
[218]:فارع اسم حصن في المدينة لبني النجار.