قوله تعالى : { لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } . يعني اليهود والنصارى قالوا : ائتنا بآية على ما تقول ، فقال الله تعالى : ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب ) .
قوله تعالى : { بكل آية } . معجزة .
قوله تعالى : { ما تبعوا قبلتك } . يعني الكعبة .
قوله تعالى : { وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض } . لأن اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب ، والنصارى تستقبل المشرق ، وقبلة المسلمين الكعبة .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار ابن محمد الجراح ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أخبرنا الحسن بن بكر المروزي ، أخبرنا المعلى بن منصور ، أخبرنا عبد الله بن جعفر المخزومي ، عن عثمان الأخنسي ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " . وأراد به في حق أهل المشرق ، وأراد بالمشرق : مشرق الشتاء في أقصر يوم في السنة ، وبالمغرب : مغرب الصيف في أطول يوم من السنة ، فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت على يمينه ومشرق الشتاء على يساره كان وجهه إلى القبلة .
قوله تعالى : { ولئن اتبعت أهواءهم } . مرادهم الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به الأمة .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءك من العلم } . من الحق في القبلة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذَاً لّمِنَ الظّالِمِينَ }
يعني بذلك تبارك اسمه : ولئن جئت يا محمد اليهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الحقّ هو ما جئتهم به من فرض التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام ، ما صدّقوا به ولا اتبعوا مع قيام الحجة عليهم بذلك قبلتك التي حوّلتك إليها وهي التوجه شطر المسجد الحرام . وأجيبت «لئن » بالماضي من الفعل وحكمها الجواب بالمستقبل تشبيها لها ب«لو » ، فأجيبت بما تجاب به ( لو ) لتقارب معنييهما وقد مضى البيان عن نظير ذلك فيما مضى . وأجيبت «لو » بجواب الأيمان ، ولا تفعل العرب ذلك إلا في الجزاء خاصة ، لأن الجزاء مشابه اليمين في أن كل واحد منهما لا يتمّ أوّله إلا بآخره ، ولا يتمّ وحده ، ولا يصحّ إلا بما يؤكد به بعده ، فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء صارت اللام الأولى بمنزلة يمين ، والثانية بمنزلة جواب لها ، كما قيل : لعمرك لتقومنّ ، إذ كثرت اللام من «لعمرك » حتى صارت كحرف من حروفه ، فأجيب بما يجاب به الأيمان ، إذ كانت اللام تنوب في الأيمان عن الأيمان دون سائر الحروف غير التي هي أحقّ به الأيمان ، فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة ، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان فشبهت اللام التي في جواب الأيمان بالأيمان لما وصفنا ، فأجيبت بأجوبتها . فكان معنى الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : لو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك .
وأما قوله : وَمَا أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يقول : وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم ، وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها ، وأن النصارى تستقبل المشرق ، فأنى يكون لك السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها . يقول : فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها ، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى ، وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها .
وأما قوله : وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنه يعني بقوله : وما اليهود بتابعة قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود . قال : وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حوّل إلى الكعبة ، قالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل الله عز وجلّ فيهم : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ إلى قوله : لَيَكْتُمُونَ الحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ مثل ذلك .
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم ، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد لا تُشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، فإنه أمر لا سبيل إليه ، لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم ، من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى ، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود ، فدع ما لا سبيل إليه ، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة ، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ : ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك : كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُوا فاتبعت قبلتهم يعني فرجعت إلى قبلتهم .
ويعني بقوله : مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ ، من بعد ما وصل إليك من العلم بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل وعلى عناد منهم للحقّ ، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نحوها إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ يعني أنك إذا فعلت ذلك من عبادي الظلمة أنفسهم ، المخالفين أمري ، والتاركين طاعتي ، واحدُهم وفي عدادهم .
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } برهان وحجة على أن الكعبة قبلة ، واللام موطئة للقسم { ما تبعوا قبلتك } ، جواب للقسم المضمر ، والقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط ، والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة ، وإنما خالفوك مكابرة وعنادا .
{ وما أنت بتابع قبلتهم } قطع لأطماعهم ، فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره ، تغريرا له وطمعا في رجوعه ، وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق . { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } فإن اليهود تستقبل الصخرة ، والنصارى مطلع الشمس . لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك ، لتصلب كل حزب فيما هو فيه { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم } على سبيل الفرض والتقدير ، أي : ولئن اتبعتهم مثلا بعدما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي { إنك إذا لمن الظالمين } وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإتيان باللام الموطئة للقسم : ثانيها : القسم المضمر . ثالثها : حرف التحقيق وهو أن . رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية . وخامسها : الإتيان باللام في الخبر . وسادسها : جعله من { الظالمين } ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم . وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم ، وتحريصا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى ، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء .
{ ولئن أتيتَ } عطف على قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون } [ البقرة : 144 ] ، والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعملون فلما أفيد أنهم يعلَمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطَّمع في اتِّباعهم القِبْلَة لدفع توهم أن يَطْمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها ، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتِّباعهم بالقَسَم واللام الموطئة ، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادةً .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون } على ما تقدم فإن ما يفعله أحْبارهم يكون قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجْدَرُ بعامتهم أن لا يتبعوها .
ووجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن .
والمرادُ { بكل آية } آيات متكاثرة والمراد بالآية الحجة والدليل على أن استقبال الكعبة هو قبلة الحنيفِية . وإطلاق لفظ ( كل ) على الكثرة شائع في كلام العرب قال امرؤ القيس :
* فيالكَ من ليلٍ كأنَّ نُجُومَه *** بكل مُغَار الفَتْل شُدَّت بيذبُل
وأصله مجاز لجعل الكثير من أفراد شيء مشابهاً لمجموع عموم أفراده ، ثم كثر ذلك حتى ساوى الحقيقة فصار معنى من معاني كل لا يحتاج استعماله إلى قرينة ولا إلى اعتبار تشبيه العدد الكثير من أفراد الجنس بعموم جميع أفراده حتى إنه يَرِد فيما لا يتصور فيه عموم أفراد ، مثل قوله هنا { بكل آية } فإن الآيات لا يتصور لها عدد يُحاط به ، ومثله قوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } [ النحل : 69 ] وقوله : { إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون } [ يونس : 96 ] وقال النابغة :
بها كُلُّ ذُيَّالٍ وخَنْسَاءَ تَرْعَوِى *** إلى كُلِّ رَجافٍ من الرمل فارد
وتكرر هذا ثلاث مرات في قول عنترة :
جادت عليه كل بِكْر حُرَّة *** فتَرَكْنَ كُلَّ قرارةٍ كالدِّرهَـم
سَحَّاً وتَسْكَاباً فكُلَّ عَشِيَّـةٍ *** يجري إليها الماء لم يتَصَرَّم
وصاحب « القاموس » قال في مادة كل « وقد جاء استعمال كل بمعنى بَعْضٍ ضدٌّ » فأثبت الخروج عن معنى الإحاطة ولكنه جازف في قوله « بمعنى بعضٍ » وكان الأصوبُ أن يقول بمعنى كَثيرٍ .
والمعنى أن إنكارهم أَحَقِّيَّة الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تُزيله الحجة ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم .
وإضافة قبلة إلى ضمير الرسول لأنها أخص به لكونها قِبلة شرعِه ، ولأنه سأَلها بلسان الحال .
وإفراد القبلة في قوله : { وما أنت بتابع قبلتهم } مع كونهما قبلتين ، إن كان لكل من أهل الكتاب قبلة معينة ، وأكثرَ من قِبلة إن لم تكن لهم قبلةٌ معينة وكانوا مخيَّرين في استقبال الجهات ، فإفراد لفظ ( قبلتهم ) على معنى التوزيع لأنه إذا اتَّبع قبلة إحدى الطائفتين كان غير متبع قبلة الطائفة الأخرى .
والمقصود من قوله : { ما تبعوا قبلتك } إظهارُ مكابرتهم تأْييساً من إيمانهم ، ومِنْ قوله : { وما أنت بتابع قبلتهم } تنزيهُ النبي وتعريضٌ لهم باليأس من رجوع المؤمنين إلى استقبال بيت المقدس ، وفي قوله : { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } تأنيسٌ لِلنبيء بأنَّ هذا دأبهم وشنشنتهم من الخلاف فقديماً خالف بعضهم بعضاً في قبلتهم حتى خالفت النصارى قبلة اليهود مع أن شريعة اليهود هي أصل النصرانية .
وجملة : { ولئن اتبعت أهواءهم } معطوفة على جملة : { وما أنت بتابع قبلتهم } وما بينهما اعتراض . وفائدة هذا العطف بعد الإخبار بأنه لا يتبع قبلتهم زيادة تأكيد الأمر باستقبال الكعبة ، والتحذير من التهاون في ذلك بحيث يفرض على وجه الاحتمال أنه لو اتبع أهواء أهل الكتاب في ذلك لكان كذا وكذا ، ولذلك كان الموقع لإنْ لأنَّ لها مواقعَ الشك والفرض في وقوع الشرط .
وقوله : { من العلم } بيان لما جاءك أي من بعد الذي جاءك والذي هو العلم فجعل ما أنْزِل إليه هو العلم كلَّه على وجه المبالغة .
والأهواء جمع هَوى وهو الحُب البليغ بحيث يقتضي طلبَ حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصِّله ، فلذلك غلب إطلاق الهوى على حُبَ لا يقتضيه الرشد ولا العقل ومن ثَمّ أطلق على العشق ، وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال ومن ثم سَمَّى علماء الإسلام أهلَ العقائد المنحرفة بأهل الأهواء .
وقد بولغ في هذا التحذير باشتمال مجموع الشرط والجزاء على عدة مؤكدات أومأ إليها صاحب « الكَشَّاف » وفصَّلها صاحب « الكشف » إلى عشرة وهي : القَسَم المدلول عليه باللام ، واللام الموطئة للقسم لأنها تزيد القسم تأكيداً ، وحرف التوكيد في جملة الجزاء ، ولام الابتداء في خبرها ، واسمية الجملة ، وجَعْل حرفِ الشرط الحرفَ الدال على الشك وهو ( إنْ ) المقتضي أن أقل جُزء من اتِّباع أهوائهم كافٍ في الظُّلم ، والإتيانُ بإِذَن الدالةِ على الجزائية فإنها أَكَّدَتْ ربطَ الجزاء بالشرط ، والإجمالُ ثم التفصيل في قوله : { ما جاءك من العلم } فإنه يدل على الاهتمام والاهتمامُ بالوازع يَؤُول إلى تحقيق العقاب على الارتكاب لانقطاع العذر ، وجَعْل ما نزل عليه هو نفس العلم .
والتعريفُ في { الظالمين } الدالُّ على أنه يكون من المعهودين بهذا الوصف الذين هو لهم سجية . ولا يخفى أن كل ما يَؤُول إلى تحقيق الربط بين الجزاء والشرط أو تحقيق سببه أو تحقيق حصول الجزاء أو تهويل بعض متعلقاته ، كل ذلك يؤكد المقصود من الغرض المسوق لأجله الشرط .
والتعبير بالعِلم هنا عن الوحي واليقين الإلهي إعلان بتنويه شأن العلم ولَفت لعقول هذه الأمة إليه لما يتكرر من لفظه على أسماعهم .
وقوله : { لمن الظالمين } أقوى دلالةً على الاتصاف بالظلم من إنك لَظالم كما تقدم عند قوله : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }
والمراد بالظالمين الظالمون أنفسهم وللظلم مراتِبُ دخلت كلها تحت هذا الوصف والسامع يعلم إرجاع كل ضَرب من ضروب اتباع أهوائهم إلى ضرب من ضروب ظلم النفس حتى ينتهي إلى عقائدهم الضالة فينتهي ظلمهم أنفسهم إلى الكفر الملقي في خالد العذاب .
قد يقول قائل إن قريباً من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى : { قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } [ البقرة : 120 ] فعبر هنالك باسم الموصول ( الذي ) وعبر هنا باسم الموصول ( مَا ) ، وقال هنالك « بَعد » وقال هنا « مِنْ بعد » ، وجُعل جزاء الشرط هنالك انتفاء ولِيٍّ ونصيرٍ ، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين ، وقد أَوْرَد هذا السؤال صاحبُ « دُرَّة التنزيل وغُرَّة التأويل » وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفي ، والذي يرشد إليه كلامه أن نقول إن ( الذي ) و ( مَا ) وإن كانا مشتركين في أنهما اسما موصول إلاّ أنهما الأصل في الأسماء الموصولة ، ولما كان العلم الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم في غرض الآية الأولى هو العلم المتعلق بأصل ملة الإسلام وببطلان ملة اليهود وملة النصارى بعد النسخ ، وبإثبات عناد الفريقين في صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك ابتداء من قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه } [ البقرة : 116 ] إلى قوله { قل إن هدى الله هو الهدى } [ البقرة : 120 ] ، فلا جرم كان العلم الذي جاء في ذلك هو أصرح العلم وأقدمه ، وكان حَقيقاً بأن يعبر عنه باسم الموصول الصريح في التعريف .
وأما الآية الثانية التي نحن بصددها فهي متعلقة بإبطال قبلة اليهود والنصارى ، لأنها مسبوقة ببيان ذلك ابتداء من قوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] وذلك تشريع فرعي فالتحذير الواقع بعدهُ تحذير من اتباع الفريقين في أمر القبلة وذلك ليس له أهمية مثلُ ما للتحذير من اتباع ملتهم بأسرها فلم يكن للعلم الذي جاء النبي في أمر قبلتهم من الأهمية ما للعلم الذي جاءه في بطلان أصول ملتهم ، فلذلك جيء في تعريفه باسم الموصول الملحق بالمعارف وهو ( ما ) لأنها في الأصل نكرة موصوفة نقلت للموصولية .
وإنما أدخلت ( مِنْ ) في هذه الآية الثانية على ( بْعد ) بقوله : { من بعد ما جاءك من العلم } لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأول في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فَصْلٍ فكان العلم الذي جاءه فيها مِن قوله : { ما تبعوا قبلتك } هو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم ، فكان جديراً بأن يُشار إلى كونه جزئياً له بإيراد ( مِن ) الابتدائية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب}: اليهود...ومن النصارى أهل نجران السيد والعاقب، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية نعرفها كما كانت الأنبياء تأتي بها، فأنزل الله عز وجل: {ولئن أتيت}، يقول: ولئن جئت يا محمد {الذين أوتوا الكتاب} {بكل آية ما تبعوا قبلتك}، يعني الكعبة. {وما أنت بتابع قبلتهم}، يعني بيت المقدس. ثم قال: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض}، يقول: إن اليهود يصلون قبل المغرب لبيت المقدس، والنصارى قبل المشرق، فأنزل الله عز وجل يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم ويخوفه: {ولئن اتبعت أهواءهم}، فصليت إلى قبلتهم {من بعد ما جاءك من العلم}، يعني البيان، {إنك إذا لمن الظالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئت يا محمد اليهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الحقّ هو ما جئتهم به من فرض التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدّقوا به ولا اتبعوا مع قيام الحجة عليهم بذلك قبلتك التي حوّلتك إليها وهي التوجه شطر المسجد الحرام...
"وَمَا أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ": وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم، وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرق، فأنى يكون لك السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها. يقول: فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى، وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها.
"وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ": وما اليهود بتابعة قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها... وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حوّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل الله عز وجلّ فيهم: "وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ "إلى قوله: "لَيَكْتُمُونَ الحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ".
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد لا تُشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه، لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم، من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده.
"وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ": ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: "كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُوا "فاتبعت قبلتهم يعني فرجعت إلى قبلتهم.
"مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ": من بعد ما وصل إليك من العلم بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل وعلى عناد منهم للحقّ، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نحوها، "إنّكَ إذا لَمِنَ الظّالِمِينَ" يعني أنك إذا فعلت ذلك من عبادي الظلمة أنفسهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، واحدُهم وفي عدادهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه في موضع الإخبار بالإياس من الاتباع له، ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحي عن الله عز وجل.
وفيه أن كثرة الآيات وعظمها في نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله: (وما أنت بتابع قبلتهم) قيل في معناه أربعة أقوال:
أولها: أنه لما قال: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم) على وجه المقالة كما تقول: ما هم بتاركي إنكار الحق وما أنت بتارك الاعتراف به، فيكون الذي جر الكلام التقابل للكلام الأول، وذلك حسن من كلام البلغاء.
الثاني: أن يكون المراد أنه ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم، لأن النصارى يتوجهون إلى المشرق، واليهود إلى بيت المقدس، فبين الله تعالى: أن رضا الفريقين محال.
الثالث: أن يكون المراد حسم طمع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك وظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس، وماجوا في ذكره.
الرابع: أنه لما كان النسخ مجوزا قبل نزول هذه الآية، فأنزل الله تعالى الآية، ليرتفع ذلك التجوز.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم، كما لا ترجى موافقتهم لك. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده. وقوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله {وما أنت بتابع قبلتهم} كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر {إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير. واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، وتهييج وإلهاب للثبات على الحق.فإن قلت: كيف قال: (وما أنت بتابع قبلتهم) ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت: كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة...
قوله تعالى: {من بعد ما جاءك من العلم} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك، بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات، لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر.
واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم، وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله: {من بعد ما جاءك من العلم} يدل على ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي وتالله لئن جئتهم بكل آية على نبوتك وكل حجة على صدقك، ما تبعوا قبلتك فضلا عن ملتك فلا يحزنك قولهم ولا إعراضهم، ولا تحسبن الآيات والدلائل مقنعة أو صارفة لهم عن عنادهم، فهم قوم مقلدون لا نظر لهم ولا استدلال. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال: {وما أنت بتابع قبلتهم} فإنك الآن على قبلة إبراهيم الذي يجلونه جميعا، ولا يختلف في حقيقة ملته أحد منهم، فهي الأجدر بالاجتماع عليها، وترك الخلاف إليها، فإذا كان أتباع إبراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا، وعنادهم فيما اختلفوا، وإذا كان التقليد يحول بينهم وبين النظر في حقيقة معنى القبلة، وكون الجهات كلها لله تعالى، وأن الفائدة فيها الاجتماع دون الافتراق، فأي دليل أم أية آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟ ألم تر كيف اختلفوا هم في القبلة فجعل النصارى لهم قبلة غير قبلة اليهود التي كان عليها عيسى بعد موسى.
{وما بعضهم بتابع قبلة بعض} لأن كلا منهم قد جمد بالتقليد على ما هو عليه، والمقلد لا ينظر في آية ولا دليل، ولا في فائدة ما هو فيه والمقارنة بينه وبين غيره، فهو أعمى لا يبصر، أصم لا يسمع، أغلف القلب لا يعقل {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم إنك لمن الظالمين} أي ولئن فرض أن تتبع ما يهوونه من الصلاة إلى قبلتهم أو غير ذلك اجتهادا منك تقصد به استمالتهم إلى دينك، من بعد ما جاءك الحق اليقين بالنص المانع من الاجتهاد، والعلم الذي لا مجال معه للظن إنك إذا تفعل هذا فرضا (وما أنت بفاعله) تكون من جماعة الظالمين (وحاشاك). والكلام من باب "إياك أعني واسمعي يا جارة"، وبيانه أنا قد أقمنا لك مسالة القبلة على قاعدة العلم الذي عرفت به أن نسبة الجهات إلى الله تعالى واحدة، وأن جمود أهل الكتاب على ما هم فيه إنما جاءهم من التقليد وحرمان أنفسهم من النظر، وأن طعنهم فيك وفيما جئت به من أمر كتبهم يأتي من مولد إسماعيل فبعد هذا العلم كله لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في أهواء القوم استمالة لهم، إذا لا محل لهذه الاستمالة، والحق قوي بذاته، وغني بمن ثبت عليه، ومن عدل عنه مجاراة لأهل الأهواء لما يرجو من فائدتهم أو اتقاء مضرتهم فهو ظالم لنفسه، وظالم لمن يسلك بهم هذه السبيل الجائر.
الأستاذ الإمام: هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاما عند الله تعالى هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل، فإنه أفرده بالخطاب مع أن المراد به أمته، إذ يستحيل أن يتبع هو أهواءهم أو أن يجاريهم على شيء نهاه الله تعالى عنه، ليتنبه الغافل ويعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق، ويردي الناس في مهاوي الباطل، كأنه يقول إن هذا ذنب عظيم لا يتسامح فيه مع أحد حتى لو فرض وقوعه مع أكرم الناس على الله تعالى لسجل عليه الظلم، وجعله من أهله الذين صار وصفا لازما {وما للظالمين من أنصار} فكيف حال من ليس له ما يقارب مكانته عند ربه عز وجل؟
نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالاتهم، حتى إنك ترى الذين يشكون من هذه البدع والأهواء ويعترفون ببعدها عن الدين يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها... حتى يحل بأهله البلاء ويكونوا من الهالكين...
هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه. ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء، وكيف يفتنون ويؤلفون الكتب لهم، ويخدعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة وألزموها كتبهم لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم، فسلط الله عليهم من لم يكن له عليهم سبيل، ولبان له وجه التشديد في الآية بتوجيه الوعيد فيها إلى النبي المعصوم المشهود له بالخلق العظيم، فلا يكبرن عليك أن تحكم على من يسمون أنفسهم أو يسميهم الحكام كبار العلماء بأنهم من الظالمين، إذا اتبعوا أهواء العامة أو شهوات الأمراء والسلاطين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك)..
فهم في عناد يقوده الهوى، وتؤرثه المصلحة، ويحدوه الغرض.. وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة.. وهذا وهم.. إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل. عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة. يحاربونه وجها لوجه، ويحاربونه من وراء ستار. ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار.. وهم دائما عند قول الله تعالى لنبيه الكريم: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك).
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الاعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له، يقرر حقيقة شأن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه الطبيعي:
ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلا. واستخدام الجملة الأسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأمر. وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه. فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها؛ ولن تتبع منهجا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة.. هذا شأنها ما دامت مسلمة؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء.. إنما هي دعوى..
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض؛ فهم ليسوا على وفاق، لأن الأهواء تفرقهم:
والعداء بين اليهود والنصارى، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء.
وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب، وقد علم الحق في الأمر، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم:
(ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين)..
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود..
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه. ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتحذير.. (إنك إذا لمن الظالمين)..
إن الطريق واضح، والصراط مستقيم.. فإما العلم الذي جاء من عند الله. وإما الهوى في كل ما عداه. وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب. وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد.
وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة، تستدعي هذه الشدة في التحذير، وهذا الجزم في التعبير.