مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (145)

قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين }

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق ، بين بعد ذلك صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في قوله : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } فقال الأصم : المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } واحتج عليه بوجوه ( أحدها ) قوله : { ولئن اتبعت أهواءهم } فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى ، ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعا لهوى النفس ، بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم ، ثم ينكرون بألسنتهم ، فهم المتبعون للهوى ( وثانيها ) : أن ما قبل هذه الآية وهو قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلموا أنه الحق } لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء ، وما بعدها وهو قوله : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } مختص بالعلماء أيضا إذ لو كان عاما في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان ، وإذا كان ما قبلها وما بعدها خاصا فكذا هذه الآية المتوسطة ( وثالثها ) : أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم ، ومستمرون على باطلهم ، وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات ، وهذا شأن المعاند اللجوج ، لا شأن المعاند المتحير ( ورابعها ) : أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذبا لأن كثيرا من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتبع قبلته .

وقال آخرون : بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واحتجوا عليه بأن قوله : { الذين أوتوا الكتاب } صيغة عموم فيتناول الكل ، ثم أجابوا عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة ، لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق ، فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى ، وأجابوا عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم ، وفي الآية الثانية كلهم ، وأجابوا عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات ، والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان الإصرار حاصلا في الكل ، وأجابوا عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون ، وقولنا : كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحدا منهم لا يؤمن .

المسألة الثانية : احتج الكعبي بهذه الآية على جواز أن لا يكون في المقدور لطف لبعضهم ، قال : لأنه لو حصل في المقدور لهؤلاء لطف ، لكان في جملة الآيات ما لو أتاهم به لكانوا يؤمنون ، فكان لا يصح هذا الخبر على وجه القطع .

المسألة الثالثة : احتج أبو مسلم بهذه الآية على أن علم الله تعالى في عباده وما يفعلونه ليس بحجة لهم فيما يرتكبون ، فإنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ويتركوا ضده الذي نهوا عنه ، واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق وهو أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يتبعون قبلته ، فلو اتبعوا قبلته لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا وعلمه جهلا وهو محال ، ومستلزم المحال محال ، فكان ذلك محالا وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وتمام القول فيه مذكور في قوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } .

المسألة الرابعة : إنما حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يرجعون عن أباطيلهم بسبب البرهان ، وذلك لأن إعراضهم عن قبول هذا الدين ليس عن شبهة يزيلها بإيراد الحجة ، بل هو محض المكابرة والعناد والحسد ، وذلك لا يزول بإيراد الدلائل .

المسألة الخامسة : اختلفوا في قوله { ما تبعوا قبلتك } قال الحسن والجبائي : أراد جميعهم ، كأنه قال : لا يجتمعون على اتباع قبلتك ، على نحو قوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } وقال الأصم وغيره : بل المراد أن أحدا منهم لا يؤمن ، قال القاضي : إن أريد بأهل الكتاب كلهم العلماء منهم والعوام فلا بد من تأويل الحسن ، وإن أريد به العلماء نظرنا فإن كان في علمائهم المخاطبين بهذه الآية من قد آمن وجب أيضا ذلك التأويل ، وإن لم يكن فيهم من قد آمن صح إجراؤه على ظاهره في رجوع النفي إلى كل واحد منهم ، لأن ذلك أليق بالظاهر إذ لا فرق بين قوله : { ما تبعوا قبلتك } وبين قوله : ما تبع أحد منهم قبلتك .

المسألة السادسة : { لئن } بمعنى { لو } وأجيب بجواب لو وللعلماء فيه خلاف فقيل : إنهما لما تقاربا استعمل كل واحد منهما مكان الآخر ، وأجيب بجوابه نظيره قوله تعالى : { ولئن أرسلنا ريحا } ثم قال : { لظلوا } على جواب : { لو } وقال : { ولو أنهم آمنوا واتقوا } ثم قال : { لمثوبة } على جواب : { لئن } وذلك أن أصل { لو } للماضي { ولئن } للمستقبل هذا قول الأخفش وقال سيبويه : إن كل واحدة منهما على موضعها ، وإنما ألحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم ، فجاء الجواب كجواب القسم .

المسألة السابعة : الآية وزنها فعلة أصلها : أية ، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفا لانفتاح ما قبلها ، والآية الحجة والعلامة ، وآية الرجل : شخصه ، وخرج القوم بآيتهم جماعتهم ، وسميت آية القرآن بذلك لأنها جماعة حروف . وقيل : لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها . وقيل : لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين ، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى .

المسألة الثامنة : روي أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأ بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة .

أما قوله تعالى : { وما أنت بتابع قبلتهم } ففيه أقوال ( الأول ) : أنه دفع لتجويز النسخ ، وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة ( والثاني ) : حسما لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره ، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم ( الثالث ) : المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك ( الرابع ) : أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم ، لأن ذلك معصية ( الخامس ) : وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى ، فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق ، فالزم قبلتك ودع أقوالهم .

أما قوله : { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } قال القفال : هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال ، أما على الحال فمن وجوه ( الأول ) : أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها . ( الثاني ) : أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون ( الثالث ) : أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث ، وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله : { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف ، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن أحدا منهم يتبع قبلة الآخر فالخلف غير لازم ، وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص .

أما قوله : { ولئن اتبعت أهواءهم } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع والهواء الممدود معروف .

المسألة الثانية : اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب ، قال بعضهم : الرسول وقال بعضهم : الرسول وغيره . وقال آخرون : بل غيره ، لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب ، وهذا القول الثالث خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح ، والإلجاء عنه مرتفع ، فهو منهي عنه ، وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ، ويدل عليه وجوه ( أحدها ) : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه ، لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به ، وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأمورا بشيء ولا منهيا عن شيء وأنه بالاتفاق باطل ( وثانيها ) : لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي صلى الله عليه وسلم عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطا بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافيا للنهي والتحذير ( وثالثها ) : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض ههنا ( ورابعا ) : قوله تعالى في حق الملائكة : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله : { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك وما مال إليه ، وقال : { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } وقال تعالى : { ودوا لو تدهن فيدهنون } وقال : { بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وقوله : { ولا تكونن من المشركين } فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك ، وأن غيره أيضا منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره ؟ فنقول فيه وجوه ، ( أحدها ) : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص . ( وثانيها ) : أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير . ( وثالثها ) : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيها للغير أو توكيدا ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية .

القول الثاني : أن قوله : { ولئن اتبعت أهواءهم } ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله عليه الصلاة والسلام كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام ، طمعا منه عليه الصلاة والسلام في استمالتهم ، فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضا وآيسه منهم بالكلية على ما قال : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } .

القول الثالث : إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت إنسانا أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا ، فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة .

أما قوله تعالى : { من بعد ما جاءك من العلم } فيه مسألتان :

المسألة الأولى : أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك ، بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات ، لأن ذلك من طرق العلم ، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر ، واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم ، وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة .

المسألة الثانية : دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله : { من بعد ما جاءك من العلم } يدل على ذلك .

أما قوله تعالى : { إنك إذا لمن الظالمين } فالمراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم ، والغرض منه التهديد والزجر والله أعلم .