فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (145)

{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } .

{ ولئن } لام قسم وإن شرطية { أتيت الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود والنصارى { بكل آية } أي بكل معجزة وبكل حجة وبرهان { ما تبعوا قبلتك } أي الكعبة عنادا وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترويح خاطره بأن هؤلاء لا يؤثر فيهم كل آية ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلا عن برهان واحد ، وذلك لأنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق ، بل كان تركهم للحق تمردا وعنادا مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبدا .

والإخبار في قوله { وما أنت بتابع } يمكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أي لا تتبع يا محمد { قبلتهم } ويمكن أن يكون على ظاهره دفعا لأطماع أهل الكتاب ، وقطعا ما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها ، وهذه الجملة أبلغ من النفي لقوله { ما اتبعوا قبلتك } من وجوه منها كونها إسمية تكرر فيها الاسم مؤكدا نفيها بالباء { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم ، هم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله ، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته ، قال في الكشاف : وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى تستقبل مطلع الشمس ، انتهى .

قال الشهاب : إن كون قبلة النصارى مطلع الشمس صرحوا به لكن وقع في بعض كتب القصص أن قبلة عيسى كانت بيت المقدس .

وقال الحافظ ابن القيم في بدائع الفوائد : قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله بل بمشورة واجتهاد منهم ، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق ، وهم يقرون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل وهي الصخرة ، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله الكريم أبدا والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر ، وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا عليه ، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة .

{ ولئن اتبعت أهواءهم } يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم { من بعد ما جاءك من العلم } في أمر القبلة أو بأنهم مقيمون على باطل وعناد { إنك إذا لمن الظالمين } فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود ، وترجف منه الأفئدة ، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم{[145]} يوجب الظلم عليه وحاشاه أن يكون من الظالمين . فما ظنك بغيره من أمته ، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية ، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم ، إن كان لهم في الناس دولة أو كانوا من ذوي الصولة ، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل بل اتباع أهوية المبتدعة يشبه اتباع أهوية أهل الكتاب كما يشبه الماء الماء ، والبيضة البيضة ، والتمرة التمرة .

وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، لأن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك ، والضد لما هنالك ، ولا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه ، وهو يظن أنه منه في الصميم وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم .

هذا إن كان في عداد المقصرين ومن جملة الجاهلين ، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل ، كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم ، وختم على قلبه وصار نقمة على عباده ومصيبة صبها الله على المقصرين لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق ، ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلالة فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة نسأل الله اللطف والسلامة والهداية والكرامة .


[145]:ذكر مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مسلم/2278 كذلك يؤيد حديث الشفاعة الذي رواه مسلم/194 والبخاري/ 1579 وملخصه أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم... فيأتون آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويأتون محمدا ويسألونه الشفاعة فيجاب يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه ، اشفع تشفع يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الناس. انظر بتنصل لحديث مسلم/2278