فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (145)

وقوله : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } هذه اللام هي موطئة للقسم ، والتقدير : والله لئن أتيت . وقوله : { ما تَبِعُوا } جواب القسم المقدّر . قال الأخفش والفراء : أجيب " لئن " بجواب " لو " لأن المعنى : ولو أتيت ، ومثله قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لظَلُّوا } [ الروم : 51 ] أي : ولو أرسلنا . وإنما قالا هكذا ؛ لأن " لئن " هي ضد " لو " ، وذلك أن " لو " تطلب في جوابها المضيّ ، والوقوع ، و " لئن " تطلب في جوابها الاستقبال . وقال سيبويه : إن معنى " لئن " يخالف معنى لو ، فلا تدخل إحداهما على الأخرى ، فالمعنى : ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك .

قال سيبويه : ومعنى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } ليظللن . انتهى . وفي هذه الآية مبالغة عظيمة ، وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترويح خاطره ، لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية ، ولا يرجعون إلى الحق ، وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد ، وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم ، أو لشبهة طرأت عليهم ، حتى يوازنوا بين ما عندهم ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق ، بل كان تركهم للحق تمرداً ، وعناداً مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء ، ومن كان هكذا ، فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً .

وقوله : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : أي : لا تتبع يا محمد قبلتهم ، ويمكن أن يكون على ظاهره ، دفعاً لأطماع أهل الكتاب ، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها . وقوله : { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } فيه إخبار بأن اليهود ، والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم ، حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله ، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته . قال في الكشاف : «وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى تستقبل مطلع الشمس » . انتهى . وقوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } إلى آخر الآية ، فيه من التهديد العظيم ، والزجر البليغ ما تقشعرّ له الجلود ، وترجف منه الأفئدة ، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء ، والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون - وحاشاه - من الظالمين ، فما ظنك بغيره من أمته ، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام ، وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ، ووسيلة طاغوتية ، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة ، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم ، أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة ، أو كانوا من ذوي الصولة ، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل ، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب ، كما يشبه الماء الماء ، والبيضة البيضة ، والتمرة التمرة ؛ وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ، ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك ، والضدّ لما هنالك ، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ، ويخرجوه منه ، وهو يظنّ أنه منه في الصميم ، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم ، هذا إن كان في عداد المقصرين ، ومن جملة الجاهلين ، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق ، والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم ، وختم على قلبه ، وصار نقمة على عباد الله ، ومصيبة صبها الله على المقصرين ؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق ، ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلاله ، فيكون عليه إثمه ، وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة .

نسأل الله اللطف ، والسلامة ، والهداية

/خ147