قوله عز وجل : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } ، قال مجاهد ، قتادة : بنبيهم . وقال : أبو صالح والضحاك : بكتابهم الذي أنزل عليهم . وقال الحسن و أبو العالية : بأعمالهم . وقال قتادة أيضاً : بكتابهم الذي فيه أعمالهم ، بدليل سياق الآية . { فمن أوتي كتابه بيمينه } ، ويسمى الكتاب إماماً كما قال عز وجل : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } [ يس – 12 ] . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى ، قال الله تعالى : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [ الأنبياء – 73 ] ، وقال : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } [ القصص – 41 ] . وقيل : بمعبودهم . وعن سعيد بن المسيب قال : كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر . وقال محمد بن كعب : { بإمامهم } ، قيل : بعني بأمهاتهم ، وفيه ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها : لأجل عيسى عليه السلام ، والثاني : لشرف الحسن والحسين ، والثالث : لئلا يفتضح أولاد الزنا . { فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا } أي : لا ينقص من حقهم قدر فتيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلََئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
اختلفت أهل التأويل في معنى الإمام الذي ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به ، فقال بعضهم : هو نبيه ، ومن كان يقتدي به في الدنيا ويأتمّ به . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال : نبيهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد يَوْمَ نَدْعُوا كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال : نبيهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بِإمامِهِمْ قال : نبيهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال : نبيهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ قال : الإمام : ما عمل وأملى ، فكتب عليه ، فمن بعث متقيا لله جعل كتابه بيمينه ، فقرأه واستبشر ، ولم يظلم فتيلاً ، وهو مثل قوله : وإنّهُما لَبِإمامٍ مُبِينٍ والإمام : ما أملى وعمل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسِ بإمامِهِمْ قال : بأعمالهم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : بكتابهم الذي فيه أعمالهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يقول : بكتابهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : بأعمالهم .
وقال آخرون : بل معناه : يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت عليهم فيه أمري ونهيي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت يحيى بن زيد في قول الله عزّ وجلّ يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بإمامهِمْ قال : بكتابهم الذي أنزل عليهم فيه أمر الله ونهيه وفرائضه ، والذي عليه يحاسبون ، وقرأ : لِكُلَ جَعَلنا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا قال : الشرعة : الدين ، والمنهاج : السنة ، وقرأ : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحا قال : فنوح أوّلهم ، وأنت آخرهم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بإمامِهِمْ بكتابهم .
وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به ، ويأتمّون به في الدنيا ، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ واقتدي به ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأَشهر أَوْلى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها .
وقوله : فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينَهِ يقول : فمن أعطي كتاب عمله بيمينه فَأُولَئِكَ يَقَرَءُونَ كِتابَهُمْ ذلك حتى يعرفوا جميع ما فيه وَلا يُظلَمُونَ فَتِيلاً يقول تعالى ذكره : ولا يظلمهم الله من جزاء أعمالهم فتيلاً ، وهو المنفتل الذي في شقّ بطن النواة . وقد مضى البيان عن الفَتيل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله وَلا يُظلَمُونَ فَتِيلاً قال : الذي في شقّ النواة .
{ يوم ندعو } نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه { ولا يظلمون } ، وقرئ " يدعو " و " يدعي " و " يدعو " على قلب الألف واواً لي لغة من يقول أفعو في أفعى ، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله : { وأسروا النجوى الذين ظلموا } أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع ، وهو قد يقدر كما في " يدعي " . { كل أناس بإمامهم } بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين . وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا ، أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال . وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم . وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف ، والحكمة في ذلك ، إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا . { فمن أُوتي } من المدعوين . { كتابه بيمينه } أي كتاب عمله . { فأولئك يقرءون كتابهم } ابتهاجا وتبجحا بما يرون فيه . { ولا يُظلمون فتيلاً } ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء ، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع ، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة ، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } أيضا مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب ، والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة .
وقوله تعالى { يوم ندعو } الآية ، يحتمل قوله { يوم } أن يكون منصوباً على الظرف ، والعامل فيه : فعل مضمر تقديره أنكر{[7638]} ، أو فعل يدل عليه ، قوله { ولا يظلمون } تقديره «ولا يظلمون يوم ندعو » . ثم فسره { يظلمون } الأخير ، ويصح أن يعمل فيه { وفضلناهم } ، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن ، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر ، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر ؛ يا ليتني كنت تراباً{[7639]} ، ولا يعمل فيه { ندعو } لأنه مضاف إليه ، ويحتمل أن يكون { يوم } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فمن أوتي } إلى قوله { ومن كان }{[7640]} . وقرأ الجمهور «ندعو » بنون العظمة ، وقرأ مجاهد «يدعو » ، بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم .
وقرأ الحسن «يُدعو » بضم الياء وسكون الواو ، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب ، يقلبون هذه الألف واواً ، فيقولون افعو حبلو{[7641]} ، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن : «كل » بالرفع ، على معنى يدعى كل ، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن ، أنه قرأ «يدعى كل » { أناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وقوله { بإمامهم } يحتمل أن يريد باسم إمامهم ، ويحتمل أن يريد مع إمامهم ، فعلى التأويل الأول : يقال يا أمة محمد ، ويا أتباع فرعون ، ونحو هذا ، وعلى التأويل الثاني : تجيء كل أمة معها إمامها ، من هاد أو مضل ، واختلف المفسرون في «الإمام » ، فقال مجاهد وقتادة : نبيهم ، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم ، وقال ابن عباس والحسن : كتابهم الذي فيه أعمالهم ، وقالت فرقة : متبعهم ، من هاد أو مضل ، ولفظة «الإمام » تعم هذا كله ، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدي به في المقصد ، ومنه قيل لخيط البناء إمام ، قال الشاعر يصف قدحاً : [ الطويل ]
وقومته حتى إذا تم واستوى . . . كمخة ساق أو كمتن إمام{[7642]}
ومنه قيل للطريق إمام ، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } حقيقة في أن يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان ، وفي الشمائل لأهل الكفر ، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد ، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار ، وقوله { يقرؤون كتابهم } عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها ، وقوله { ولا يظلمون فتيلاً } أي ولا أقل ولا أكثر ، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور . كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف }{[7643]} وكقوله { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }{[7644]} وهذا كثير ومعنى الآية : أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئاً ، و «الفتيل » هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر .
انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله : { ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر } إلى قوله : { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } [ الإسراء : 66 69 ] إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيراً وإنذاراً ، فالكلام استئناف ابتدائي ، والمناسبة ما علمتَ . ولا يحسن لفظ ( يومَ ) للتعلق بما قبله من قوله : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [ الإسراء : 70 ] على أن يكون تخلصاً من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل ، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافاً ابتدائياً ، ففتحة { يوم } إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فِعل « اذكر » فيكون { يوم } هنا اسمَ زمان مفعولاً للفعل المقدر وليس ظرفاً .
والفاء في قوله : { فمن أوتي } للتفريع لأن فعْل ( اذكر ) المقدر يقتضي أمراً عظيماً مجملاً فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال .
وإما أن تكون فتحته فتحةَ بناء لإضافته اسم الزمان إلى الفعل ، وهو إما في محل رفع بالابتداء ، وخبره جملة { فمن أوتي كتابه بيمينه } . وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش ، وقد حكى ابن هشام عن ابن بَرهان أن الفاء تزاد في الخبر عند جميع البصريين ما عدا سيبويه ؛ وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده ، أعني قوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } إلى قوله : { وأضل سبيلاً } . وتقدير المحذوف : تتفاوت الناس وتتغابَن . وبُيّن تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله : { فمن أوتي كتابه } الخ .
والإمام : ما يؤتم به ، أي يُعمل على مِثل عمله أو سيرته . والمراد به هنا مبين الدين : من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة .
ومعنى دعاء الناس أن يُدعى يا أمةَ فلان ويا أتباعَ فلان ، مثل : يا أمة محمد ، يا أمةَ موسى ، يا أمة عيسى ، ومثل : يا أمة زَرادشت . ويا أمةَ برْهَما ، ويا أمةَ بُوذا ، ومثل : يا عبدة العزى ، يا عبدة بَعل ، يا عبدةَ نَسْر .
والباء لتعدية فعل { ندعوا } لأنه يتعدى بالباء ، يقال : دعوته بكنيته وتدَاعَوا بِشعارهِم .
وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيلُ بالمسرة لاتباع الهُداة وبالمساءة لاتباع الغُواة ، لأنهم إذا دُعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم .
وفرع على هذا قوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } تفريع التفصيل لما أجمله قوله : { ندعوا كل أناس بإمامهم } ، أي ومن الناس من يُؤتى كتابه ، أي كتاب أعماله بيمينه .
وقوله : { فمن أوتي } عطف على مقدر يقتضيه قوله : { ندعوا كل أناس بإمامهم } أي فيؤتَوْن كتبهم ، أي صحائف أعمالهم .
وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين . وتلك علامة عناية بالمأخوذ ، لأن اليمين يأخذ بها من يعْزم عملاً عظيماً قال تعالى : { لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 45 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقاها الرحمان بيَمينه وكلتَا يديْه يَمين . . . " الخ ، وقال الشمّاخ :
إذا ما رايةٌ رفعت لمجد *** تلقاها عَرابة باليمين
وأما أهل الشقاوة فيؤتَون كتبهم بشمائلهم ، كما في آية [ الحاقة : 25 ] { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه } .
والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب ( أما ) ، للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرؤون كتابهم ، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخَير والجزاء عليْه مسرة لهم ونعيماً بتذكر ومعرفة ثوابه ، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة ، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم ، فتوفرُ الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة .
وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا . وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 13 14 ] .
والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } [ الكهف : 33 ] ، لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازاً مرسلاً . ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده .
والفتيل : شبه الخَيط تكون في شق النواة وتقدم في قوله تعالى : { بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا } في سورة [ النساء : 49 ] ، وهو مثَل للشيء الحقير التافه ، أي لا ينقصون شيئاً ولو قليلاً جداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم}، يعني: كل أمة بكتابهم الذي عملوا في الدنيا من الخير والشر، مثل قوله عز وجل في يس: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس:12]، وهو اللوح المحفوظ،
{فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم} الذي عملوه في الدنيا،
{ولا يظلمون فتيلا}، يعني: بالفتيل القشر الذي يكون في شق النواة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت أهل التأويل في معنى الإمام الذي ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به؛ فقال بعضهم: هو نبيّه، ومن كان يُقتدى به في الدنيا ويُؤتمّ به...
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
وقال آخرون: بل معناه: يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت عليهم فيه أمري ونهيي
وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتمُّون به في الدنيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ واقتدي به، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها.
وقوله:"فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ" يقول: فمن أعطي كتاب عمله بيمينه "فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ "ذلك حتى يعرفوا جميع ما فيه "وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا" يقول تعالى ذكره: ولا يظلمهم الله من جزاء أعمالهم فتيلا وهو المنفتل الذي في شقّ بطن النواة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَمَنْ أُوتَىَ كِتَابَهُ بِيَمِنِهِ فَأَوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ}: لكمالِ صحوهم وقيادة عقلهم، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفِهم وتَرَدّدِهم لا يقرأون كتابهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرأون كتابهم؟ قلت: بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أمام التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول؛ فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرأون كتابهم أحسن قراءة وأبينها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قرر سبحانه قدرته على التفضيل في الحياة الحسية والمعنوية، والمفاضلة بين الأشياء في الشيئين فثبتت بذلك قدرته على البعث، وختم ذلك بتفضيل البشر، وكان يوم الدين أعظم يوم يظهر في التفضيل، أبدل من قوله {يوم يدعوكم} مرهباً من سطواته في ذلك اليوم، ومرغباً في اقتناء الفضائل في هذا اليوم قوله تعالى: {يوم ندعوا} أي بتلك العظمة {كل أناس} أي منكم {بإمامهم} أي بمتبوعهم الذي كانوا يتبعونه، فيقال: يا أتباع نوح! يا أتباع إبراهيم! يا أتبا ع موسى! يا أتباع عيسى! يا أتباع محمد! فيقومون فيميز بين محقيهم ومبطليهم، ويقال: يا أتباع الهوى! يا أتباع النار! يا أتباع الشمس! يا أتباع الأصنام! ونحو هذا، أو يكون المراد بسبب أعمالهم التي ربطناهم بها ربط المأموم بإمامه كما قال تعالى {وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه} وسماها إماماً لكونهم أموها واجتهدوا في قصدها، وندفع إليهم الكتب التي أحصت حفظتنا فيها تلك الأعمال {فمن أوتي} منهم من مؤتٍ ما {كتابه بيمينه} فهم البصراء القلوب لتقواهم وإحسانهم، وهم البصراء في الدنيا، ومن كان في هذه الدنيا بصيراً فهو في الآخرة أبصر وأهدى سبيلاً {فأولئك} أي العالو المراتب {يقرءون كتابهم} أي يجددون قراءته ويكررونها سروراً بما فيه كما هو دأب كل من سر بكتاب {ولا يظلمون} بنقص حسنة ما من ظالم ما {فتيلاً} أي شيئاً هو في غاية القلة والحقارة، بل يزادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاء الأعمال، ومن أوتي كتابه بشماله فهو لا يقرأ كتابه لأنه أعمى في هذه الدار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة. وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته، أو الرسول الذي اقتدت به، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا. تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة.. فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرأه ويتملاه، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر} إلى قوله: {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} [الإسراء: 66 69] إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيراً وإنذاراً، فالكلام استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمتَ. ولا يحسن لفظ (يومَ) للتعلق بما قبله من قوله: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء: 70] على أن يكون تخلصاً من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافاً ابتدائياً، ففتحة {يوم} إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فِعل « اذكر» فيكون {يوم} هنا اسمَ زمان مفعولاً للفعل المقدر وليس ظرفاً.
والفاء في قوله: {فمن أوتي} للتفريع لأن فعْل (اذكر) المقدر يقتضي أمراً عظيماً مجملاً فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال...
والإمام: ما يؤتم به، أي يُعمل على مِثل عمله أو سيرته. والمراد به هنا مبين الدين: من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة.
ومعنى دعاء الناس أن يُدعى: يا أمةَ فلان ويا أتباعَ فلان، مثل: يا أمة محمد، يا أمةَ موسى، يا أمة عيسى، ومثل: يا أمة زَرادشت. ويا أمةَ برْهَما، ويا أمةَ بُوذا، ومثل: يا عبدة العزى، يا عبدة بَعل، يا عبدةَ نَسْر.
والباء لتعدية فعل {ندعوا} لأنه يتعدى بالباء، يقال: دعوته بكنيته وتدَاعَوا بِشعارهِم.
وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيلُ بالمسرة لاتباع الهُداة وبالمساءة لاتباع الغُواة، لأنهم إذا دُعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم.
وفرع على هذا قوله: {فمن أوتي كتابه بيمينه} تفريع التفصيل لما أجمله قوله: {ندعوا كل أناس بإمامهم}، أي ومن الناس من يُؤتى كتابه، أي كتاب أعماله بيمينه.
وقوله: {فمن أوتي} عطف على مقدر يقتضيه قوله: {ندعوا كل أناس بإمامهم} أي فيؤتَوْن كتبهم، أي صحائف أعمالهم.
وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين. وتلك علامة عناية بالمأخوذ، لأن اليمين يأخذ بها من يعْزم عملاً عظيماً...
وأما أهل الشقاوة فيؤتَون كتبهم بشمائلهم، كما في آية [الحاقة: 25] {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه}.
والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب (أما)، للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرأون كتابهم، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخَير والجزاء عليْه مسرة لهم ونعيماً بتذكر ومعرفة ثوابه، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم، فتوفرُ الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة.
وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا. وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13 14].
والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33]، لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازاً مرسلاً. ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده.
والفتيل: شبه الخَيط تكون في شق النواة وتقدم في قوله تعالى: {بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا} في سورة [النساء: 49]، وهو مثَل للشيء الحقير التافه، أي لا ينقصون شيئاً ولو قليلاً جداً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الواضح أنّ كلمة (إمام) في هَذا المكان لها معنى أوسع، وتشمل أية قيادة سواء تمثَّلت بالأنبياء أو أئمّة الهدى أو العلماء أو الكتاب والسنة. وَيدخل في معنى الكلمة أيضاً أئمّة الكفر والضلال، وَبهذا الترتيب فإنَّ كل إنسان سيسلك في الآخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا إماما وقائداً...